يُعَدّ الأداءُ التمثيليّ أحَدَ أعمِدَة الإنتاج الدّرامِي، وهو العِمادُ الذي يَشتَدُّ به عَضُدُ الحِكاية، وتَقُومُ عَلَيهِ صِلَةُ ما يُصاغُ من الفَنّ وما يُصغَى إلَيه مِن المُتَلَقّي. ومِن تَجَلِّيَاتِه التَّلاعُبُ باللَّهجات وإتقانُ اللُّكنات؛ فَإنَّ هذه أدواتٌ فَاعِلَةٌ وفَعَّالَةٌ لِتَجسِيدِ الشَّخصِيَّات وتَعمِيقِ وَاقِعِيّتِها السَّردِيَّة.
إنَّ استِخدامَ اللهجات واللكنات في الأداء الدرامِي مِن أعقَدِ التّقنِيات التّعبِيرِيّة؛ إذ يَرتَبِطُ ارتِباطًا وَثِيقًا بِتَصوير البِيئَة الاجتِماعِيّة والانتِماء الثَّقافِيّ للشَّخصِيَّة. وَلَيسَت اللُّكنَةُ مُجَرَّدَ أداةٍ صَوتِيَّة وَلا اللَّهجَةُ آلِـيَّـةً لَفظِيَّة فَحَسب، بَل إنَّهُما يُؤَلِّفانِ بُنيَةً ثقافية مُتَشابِكةَ العُرَى وَمُعَقّدَةَ النّسج، وَذات دِلالاتٍ اجتماعية ومَعرِفِيَّة تُحَدِّدُ مَوقِعَ الشَّخصِيَّة ضِمنَ النَّسِيجِ الدّرامِيّ.
إن قَارَبنا المَوضُوع مِن صَوب مُحاكاةِ الواقِعِ (Realistic Dimension) فَإتقانُ اللهجات واللكنات يُساهِمُ في تَعزيز الإيهام بِالوَاقِع، وهذه تقنية أساسية في التّلقّي الدّرامِي. ويَظهَرُ هذا مَثَلًا في أَداءِ المُمَثِّلِ البريطاني (Christian Bale) في American Hustle (2013، حيث تَلاعَبَ بِلُكنَتِه الأصلية، مُعتَمِدًا على نُطقِ أمريكِيٍّ مُمَيَّزٍ يَعكِسُ بِيئَةَ شَخصِيَّتِه الإجرامِيَّة في السَّبعِينات. كَمَا أنَّهُ قَدَّمَ أداءً مُذهِلًا بلكنة مختلفة تمامًا في The Fighter 2010، حيث تَماهَى مع النَّبرَةِ المَحَلِّيَّة لولاية “ماساتشوستس”، مِمَّا أضفَى على شَخصِيَّتِه أصالةً وَجِـدَّة.
وَإن قَارَبناه مِن صَوبِ السِّيمياء (Semiotic Dimension) قُلنَا إنّ اللهجة/اللكنة أحَدُ المُؤَشِّرات السِّيميائِيَّة التي تُستَخدَمُ لِتَرمِيز الانتِماءِ الطَّبَقِيّ أو الجُغرافِيّ. ونُمَثِّلُ لِهَذا بِأداءِ المُمَثِّلِ السُّورِيّ “جمال سليمان” في مُسَلسَل “حدائق الشيطان”، حيث اضطَرَّ إلى إتقان اللهجة/اللكنة المِصرِيَّة الصَّعِيدِيَّة لتعزيز المِصداقِيَّة الدّرامِيّة. وفي السِّياقِ نَفسِه، نَجِدُ أنَّ المُمَثِّلَ الهِندِيّ (Hrithik Roshan) في فِيلم Super 30 2019 تَخَلَّى عَن لُكنَتِهِ النُّخبَوِيَّة واستَخدَمَ نُطقًا رِيـفِـيًّـا لتَجسِيدِ شَخصِيَّة مُدَرِّس فَقير مِن وِلاية “بِهار”، مِمَّا جَعَلَ أداءَهُ أكثَرَ إقناعًا للجُمهُور المَحَلِّيّ.
أمَّا مُقَارَبَةُ المَوضُوعِ مِن صَوبِ ما يَقتَضِيهِ التَّحلِيلُ النَّفسِيّ (Psychological Dimension) فَيُحِيلُنا إلى حَقِيقَةِ أنَّ اللهجة/اللكنة مُكَوِّنَان نَفسِيَّان يَعكِسَان التَّكوينَ الشُّعُورِيَّ للشَّخصِيَّة، حيث قد تُوحِي بَعضَ اللهجات/اللكنات بِسِماتٍ نَفسِيَّةٍ مُعَيَّنَة، مِثلَ السُّلطة، والتَّهَكُّم، والحِدَّة. وقَد بَـرَعَ المُمَثِّلُ الهِندِيّ (Aamir Khan) في استِخدام هذه التقنية في فِيلم PK 2014، حيث تَوَسَّلَ بِلُكنةٍ غَرِيبةٍ غَيرِ مُحَدَّدَة الهُوِيَّة، مِمَّا عَزَّزَ الإحساسَ بِكَونِهِ كائِنًا فَضائِيًّا غَرِيبًا عَن البَشَر. وعلى المِنوال نَفسِه، تَألَّقَت (Meryl Streep) في فِيلم Sophie’s Choice 1982، حيث فُرِضَ عليها إتقانُ اللُّكنة البولندية لتعكس المَأساة العَميقة لشَخصِيَّتِها، فَكانَ في أدائِها مِن التَّعَمُّق في النَّفسِ ما لا يُجارَى.
وَلَيسَ تَغييرُ اللهجة أو اللكنة قَرارًا فَنِّيًّا عابِرًا، بَل هو جزء من التَّموِيهِ التَّمثيليّ (Acting Camouflage) الذي يُعِيدُ تَعريفَ حُدودِ الهُوِيَّة الأدائِـيَّـة. وهذا ما تَجَلَّى في أداءِ (Joaquin Phoenix) في فِيلم Joker 2019، حيث اعتَمَدَ لُكنَةً أمريكيةً هَشَّة وغير مُستَقِرَّة، تَعكِسُ بِدِقَّةٍ تَدَهْوُرَ الحَالَةِ النَّفسِيَّة لشَخصِيَّتِه. أمَّا في الدّراما العَرَبِيَّة، فَقَد تَأَلَّقَت “سلافة معمار” في مُسَلسَل “الخواجة عبد القادر”، حيث قَدَّمَت شَخصية صَعِيدِيَّة بِلُكنة مُحكَمَة، دُونَ السُّقوط في فَخِّ المُبالَغَة (Overacting)، وهذا مَـرَدُّهُ الفَهمُ العَمِيق لآلِيَّات التَّمثيل الصَّوتي والاشتِغالُ على التَّمَكُّنِ مِنها.
ومن التحديات الصوتية واللغوية أثناء الأداء التمثيلي التَّماسُكُ الصَّوتيّ، وهو الحِفاظ على ثَبات اللهجة/اللكنة طِوالَ فِترَة الأداء، وإنَّهُ لَـتَحَدٍّ صَعبٌ، لا سِيَّما في المَشاهِدِ ذات الشُّحنَة الانفِعاليَّة. وهذا ما لُوحِظَ عِند المُمَثِّلِ الأردني “منذر رياحنة” في “خطوط حمراء”، حيث انـزَلَـقَ إلى لهجته الأصلية خلال لحظات عَدِيدَة مِن الـتَّـوَتُّـر الدّرامِيّ. والتَّحَدِّي الآخَر هو التَّحَكُّمُ في التَّشكِيل النَّغمِيّ؛ فَاللُّكنَةُ لَيسَت مَخارِجَ حُروفٍ فَحَسب، بَل هي بُنيَةٌ إيقاعِيَّة مِيزَتُها التَّحَكُّمُ في التَّنغيم الصَّوتي. وقَد وَاجَهَ “معتصم النهار” تحديات في هذا السِّياق عِند تَأدِيَتِه لشَخصية مصرية، حيث كان التَّبايُنُ النَّغمِيّ واضِحًا في بَعضِ حِواراتِه. وَأَوَّلُ ما يَعتَرِضُ هذه التحدياتِ هو التَّلَقِّي الجَماهِيرِيّ، حيث قد يَرفُضُ الجُمهورُ الأداءَ إذَا لَم يَكُن مُقنِعًا، كَما حَدَثَ مع المُمَثِّلِ (Kevin Costner) في فِيلم Robin Hood: Prince of Thieves 1991، حيث بَدَا أداؤه بِلُكنةٍ بريطانية غَيرِ مُتَماسِكة، مِمَّا خَلَّفَ انتِقاداتٍ كَثيرَة.
ويُواجِهُ الأداءُ التَّمثِيليّ في الدّراما الجزائرية تحدياتٍ مُتَعَدِّدَة تَتَعَلَّقُ بُالتَّنَوُّعِ اللُّغَوِيّ وإتقانِ اللهجات واللكنات، وهو ما يَنعَكِسُ بِوُضُوحٍ على جَودَةِ الأداء الصَّوتِيّ للمُمَثِّلِين. ومن هذه الانعِكاسات التَّشابُهُ الصَّوتِيّ المُفرَط بين العديد من المُمَثِّلِين، حيث تَتَكَرَّرُ النَّبرات والإيقاعات اللغوية في الأعمال التي يُشارِكُون فيها، وهو ما يَحُدُّ من القُدرة على التَّميِيز بين الشخصيات، ويُـؤَدِّي إلى نَمَطِيَّة صَوتِيَّة تُفقِدُ الأداءَ عَفوِيَّتَهُ ووَاقِعِيَّتَه. ويَظهَرُ هذا -على سَبيل المِثال- لَدَى مُمَثِّلِين بارِزِين مِثل “عثمان بن داود، ومصطفى لعريبي، وحسان كشاش، وربيع أوجاوت، وفيزية توڨرتي، وموني بوعلام، وغيرهم..”، حيث أن حُضُورَهُم في أعمال مُتَعَدِّدة لا يُرافِقُه تَحَوُّلٌ صَوتيٌّ مَلحُوظ، مِمَّا يَجعَلُ أداءَهُم أقرَبَ إلى استِحضارِ أصواتِهم ولُكناتِهم (Self-reenactment) بَدَلًا من التَّقَمُّص الكامل للشخصية.
وَمَرَدُّ هذا التكرار هو نُقصُ التدريب الصَّوتي وضَعفُ التَّوجِيه اللغوي (Linguistic Coaching)، وهُما أدَاتَانِ أساسِيَّتان في تطوير الأداء التمثيلي؛ فَغِيابُ دَوراتٍ تدريبيةٍ مُتَخَصِّصة في الصَّوتِيات الدّراميّة يُحوِجُ المُمَثِّلِينَ إلى الاعتِمادِ على أصواتهم الأصلية دُونَ تعديلها وَفَق مُتَطَلَّباتِ الدَّور، وهو ما يُضعِفُ الإيهام بِالوَاقِع ويَحُدُّ مِن مُرونة الأداء.
ومِن هَفَوَاتِ الدَّراما الجزائرية أيضًا عَدَمُ مُراعاةِ اللَّهجَة وَاللُّكنَة في الأُسرَة الواحدة: فَالأَبُ مِن قسنطينة وَالأُم مِن باتنة وَالابنَة مِن العاصِمَة وَالابن مِن توڨرت، وَكُلُّهُم يَقطنون وَهران..! وَهَذا لا يَعني أن نُشَكِّلَ أُسرَة بِمُمَثِّلِين مِن منطقة واحدة، بَل تَكفِي الاستِعانَةُ بِمُدَرِّبِي اللُّغَة وَخُبَراء اللَّهجات وَاللُّكنات مِن أجلِ إكسابِهِم ما يَفتَقِرونَه. وَلَنا في “نَسيم حَدُّوش” خَيرُ مِثالٍ عَن نَتيجَة الاشتِغال والتَّكوين. وهو من الفئة القليلة التي لا تُكَرِّرُ نَفسَها في تَمثيل الأدوار وتَجسيد الشخصيات؛ إذ يُفلِح بامتياز في تَموِيهِ المُشاهِد بَصَرِيًّا، فلا يُحِيلُنا “بُونار” إلى “مَقيوس”، ولا “الزَّردِي” إلى “بُونار”. وإذ نَراهُ في “رّباعَة” بِدَور “الزَّردِي” يَظهَرُ بِزِيٍّ مُخالِفٍ تَماما لِمَا اعتدنا عليه، عِلاوةً على مَلامِح وَجهِه وتَعابِيرِه، وَلُغَتِه وأدائِه، حَتَّى أنه أكَّدَ مَهارَتَهُ في التقليد والمُحاكاة وَالتَّشخِيص (Personification) حَيثُ أظهَرَ مُحاكاةً مُتقَنَةً لِلُّكنَة واللَّهجَة التُّونُسِيَّتَين، وتَقلِيدًا لِبَعض اللهجات/اللكنات الوطنية، مثل: العنابية والجيجلية والقبائلية. ولا يَفُوتُنا أن نُنَوِّهَ بالمُحاوَلات الجادَّة لكَسر النمطية الصوتية، التي أظهرها “عادل شيخ وعديلة بنديمراد”، في استِخدام اللهجات والتلاعب باللكنات وتغيير أنماطهم الصوتية لتُناسِبَ الشخصيات التي يُجَسِّدُونها. وهذا ما يُعَزِّز المِصداقية الدّراميّة ويَمنَحُ المُشاهِدَ تَجرِبَةً أكثَرَ إقناعًا.
وفي ما قَلَّ وَدَلَّ أقُولُ: إن تَطويرَ الأداءِ الصَّوتِيِّ في الدّراما الجزائرية يَستَلزِمُ إعادة تَأَمُّلٍ وَتَدقِيق في طَرائِقِ تدريب المُمَثِّلِين وَأسالِيبِهِ، وذلك بِإنشاءِ دَوراتٍ مُتَخَصِّصَةٍ في تحليل الصوتيات الدرامية، وتَمكِينِهم من أدوات التَّنغِيم الصَّوتِيّ، فَضلاً عَن تَعزيز التعاون مع خُبَراء في اللهجات؛ حِرصًا على تقديم الأداء المُتَنَوِّع والمُقنِع. وَمِن مُنطَلَق أنَّ القُدرَةَ على التَّحَوُّل الصَّوتِيّ لَيسَت مَهارةً تقنية فَحَسب، بَل هي مُكَوِّنٌ رَئيسٌ في إعادة تعريف هُوِيَّة الشَّخصيات الدّرامِيَّة، فَإنَّ التكوين الصَّوتِيّ للمُمَثِّل يَجِبُ أن يُولَى العِنايَةَ والاهتِمام، إن رُمنا أن يَرقَى الأداء التمثيلي لَدَينا، فَيَتَجَدَّد ولا يَتَبَدَّد.
بقلم عَمَّار قواسمية
مترجم ومدقق لغوي ومهتم بالشأن الثقافي