أثبتت الجزائر منذ استقلالها أنها راعي السلام والتنمية في منطقة الساحل، ذلك أنها تحمل مصالح دول وشعوب المنطقة جنبا إلى جنب مع مصالحها، إيمانا منها بالفضاء الجيوسياسي المشترك وحسن الجوار، وبإجماع نخب دول المنطقة، يستحيل تجاهل الدور الجزائري في الساحل الإفريقي، أو تشويه ما قامت به في سبيل تكريس السلم والاستقرار مثلما تحاول عبثا بعض الأبواق الحاقدة الترويج له.
رغم أن وزارة الشؤون الخارجية، وفي بيانها الاثنين، أكدت أن اتهامات الطغمة الانقلابية في باماكو، للجزائر، لا تستحق إعارتها أدنى اهتمام، لكن «عار النكران والجحود» سيظل يطارد، عصبة الانقلابيين إلى الأبد.
لقد ارتكب مغتصبو السلطة في باماكو، أخطاء قاتلة مع الجزائر، أهمها اتهامهم لها بدعم الإرهاب، ومحاولة تزوير الحقائق بخصوص المسيرة التي تم إسقاطها، واستخدام مزايدات كلامية وضيعة لم يكن لها داع أو مبرر، ومحاولة تشويه الدور الجزائري وريادتها للوساطات التاريخية في منطقة الساحل الإفريقي.
وبدأ يتزايد الإجماع في منطقة الساحل الإفريقي، وداخل مالي نفسها، أن الطغمة الانقلابية لم تقم سوى بنكران الجميل وعض اليد الجزائرية التي امتدت للشعب المالي منذ ستينيات القرن الماضي، فالمواقف والأحداث، تؤكد على لحظات تضامن خاصة واجهت فيها الجزائر أعتى القوى الدولية، من أجل مصلحة شعوب الساحل.
ويحتفظ التاريخ، برفض الجزائر للتدخل العسكري في مالي عام 2013، وإغلاقها المجال الجوي في وجه المقاتلات الفرنسية، وأدرك الماليون بعد 10 سنوات، أن الموقف الجزائري هو الصائب وثاروا ضد القوات الفرنسية.
ويسجل التاريخ أيضا، رفض الجزائر فتح مجالها الجوي أمام الطائرات الفرنسية التي كانت تحضر لشن ضربة ضد المجلس العسكري في النيجر عام 2023، بعد الانقلاب على الرئيس بازوم، كما ضغط وبأشد قوة على مجموعة الإيكواس لترك الخيار العسكري جانبا ضد نيامي.
ولم يكن الدور الجزائري في الساحل الإفريقي، مدفوعا يوما بنزعة هيمنة أو نفوذ، بل نابع من امتداد طبيعي للجغرافيا والديمغرافية والتاريخ والمصير المشترك، في منطقة لطالما رسمت أفضل صور الكفاح ضد الاستعمار.
وفي الوقت ذاته، تعلي الجزائر مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادتها، وعبرت دوما عن استعدادها للمساهمة في تجاوز اللحظات الصعبة، بمقاربة تقوم على تفوق خيار التنمية الاقتصادية على جميع الخيارات المتاحة لمواجهة الأزمات الأمنية والسياسية في المنطقة.
وتقوم المقاربة الجزائرية على تغليب الحلول السلمية وتجنب استعمال القوة العسكرية إلا في الحالات القصوى التي تشكل خطرا مباشرا على أمنها الوطني، فهي دائما تؤكد أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي السبيل الأمثل لحل أزمات المنطقة، خاصة إذا علمنا أن ما تعيشه دول الجوار الجنوبي من اضطرابات ليس سوى خلاصة لتراكمات نتج عنها غياب التنمية وضعف مؤشر الحياة، وضعف أدوات الاستجابة لمتطلبات الشعوب.
الجزائر.. ضامن السلم والأمن
وفي مقابل هذا، أظهرت سياسة الجزائر تجاه دول الساحل، أن هدفها هو تحقيق التنمية المشتركة وتحقيق التكامل الإقليمي الذي سيعود على الجميع بالاستقرار والأمن دون أن يكون لها دافع مصلحي خاص.
ومثالا على مقاربة الجزائر التنموية، نذكر مختلف مشاريع خطوط السكك الحديدية والطريق العابر للصحراء لفك العزلة عن دول الجوار الحبيسة، وخط أنبوب الغاز «نيجال» العابر للصحراء ومختلف مظاهر التنمية على طول الخط، ناهيك عن الألياف البصرية، ومناطق التبادل الحر على الحدود، من منطلق أن التنمية تضمن للسكان عيشا أفضل، وبالتالي إبعاد خطر التهديدات الأمنية الجديدة.
أما بالنسبة لمالي التي تقود طغمتها العسكرية الانقلابية حملة مغالطة ضد الجزائر، ومند أول تمرد سنوات الستينيات، إلى غاية إلغاء التنصل من اتفاق الجزائر للسلام مطلع 2024، كانت الجزائر ضامنا دائما لوحدة التراب المالي، باعتبارها راعي السلام والوسيط الموثوق لدى كل الحكومات المتعاقبة، وكانت الوساطات واتفاقات السلام الجزائرية كفيلة بضمان فترات سلم طويلة الأمد، سمحت بالحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، وصون الوحدة الوطنية والترابية لمالي.
ونذكر هنا اتفاقية الجزائر للسلام 1991 والتي تم التوقيع عليها نهائيا بين أطراف الأزمة في مالي العام 1996. ثم اتفاق 2006، بعد أن طلبت الحكومة في مالي من الجزائر التوسط لدى أزواد لإنهاء التوتر، وقادت الجزائر وساطة ناجحة قال عنها قادة حركات الشمال إنها خطوة نحو ترسيخ السلام الذي تسعى إليه جميع الأطراف.
وكذا اتفاق 2015 الذي تطلب جهود مضنية قادت فيها الجزائر وساطة دولية، لمدة 15 شهرا، استجابة لطلب الحكومة المركزية في باماكو، وأقنعت الفرقاء بالتوقيع على الاتفاق في ظروف إقليمية مغايرة وأكثر صعوبة، ما أنقذ مالي من انقسام حقيقي بفعل التدخل الفرنسي في مالي في عمليتي سيرفال وبرخان.
لكن الطغمة العسكرية الانقلابية الحالية، فضلت العودة للمواجهة العسكرية التي أثبتت في العالم أجمع أنها لا تؤتي ثمارها وحدها في النزاعات والحروب الداخلية، مادامت تقصي المطالب الاجتماعية والاقتصادية وحق الشمال في المشاركة السياسية، الأمر الذي يفرض على قادة الشمال حلولا قد تصل حد الانفصال بفعل تغول الجنوب. واستقوت العصبة الانقلابية بالمرتزقة الأجانب الذين تعوّدوا على جلب الخراب إلى إفريقيا، وهي بذلك لا تدفع بالمنطقة إلى فوهة البركان فقط، بل تضرب المبادئ الإفريقية عرض الحائط.
تنسيق وتضامن
وتعتمد الجزائر في علاقتها مع مالي على مقاربة شاملة مبنية، وحماية حدود الجزائر لمنع تنقل الجماعات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة إلى التراب الجزائري وبالتالي محاصرتها، مع العمل بالتنسيق مع الحكومة المركزية هناك أمنيا وعسكريا في إطار لجنة الأركان العملياتية المشتركة، للتنسيق في عمليات عسكرية محتملة من داخل إقليمه، والتركيز على التنمية باعتبارها الرافد السياسي لحل أزمة مالي الممتدة، وهي أزمة ناجمة في الأساس عن تهميش الحكومات المركزية المتعاقبة على مالي سواء المدنية أو العسكرية الشمال ذي البيئة الصعبة، وحرمانه من التنمية والرد على المطالب الاجتماعية والاقتصادية للسكان بالقمع، واستعمال القوة العسكرية وقصف المدنيين العزل، كما تفعل الحكومة الانقلابية الحالية.
ولا يختلف الأمر بالنسبة لمالي عن دول اتحاد دول الساحل، فهي تمد يد العون في كل مرة لمن تعتبرهم أشقاء، من خلال المساعدات والتنسيق الأمني والوساطة مع مختلف الفواعل.
وبالمحصلة، ينفي التاريخ الناصع للجزائر عنها كل الادعاءات الباطلة من حكومة انقلابية وصلت إلى سدة حكم مالي بالقوة، وتنصلت من تعهداتها لشعب مالي بإرجاع الحكم المدني وسلطة الشعب، وأثبتت فشلا ذريعا داخل البلاد في تدهور غير مسبوق على جميع الأصعدة.