لا تتوقف المحاولات اليائسة البائسة والفاشلة لتطويق الجزائر استراتيجيا، من حدودها الجنوبية، لكن دون جدوى. وآخر من تورط في هذه اللعبة، الجماعة الإنقلابية المستأثرة بالسلطة في مالي، التي دخلت رحلة التيه في رمال الساحل، كونها لم تملك يوما بوصلة القرارات الصالحة لطبيعة الأزمة.
إلتزمت الزمرة غير الدستورية، في مالي، الصمت التام، بخصوص بيان وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، الذي كشف أن انتهاك المجال الجوي الوطني، سجل في مناسبتين، قبل ذلك الذي حدث يوم 31 مارس المنقضي. وتحديدا بتاريخ 27 أوت 2024 و29 ديسمبر 2024.
ولم تقدم أي توضيح حول المعطيات المعلنة بخصوص الطائرة بدون طيار، قبل إسقاطها «حيث اخترقت المجال الجوي الجزائري، ثم خرجت قبل أن تعود إليه في مسار هجومي».
وبعد أسبوع كامل من بيانها الاستعراضي المشين، لم تكشف للرأي العام المالي، أين وصل موضوع ما أسمته «الشكوى»(…) التي قالت إنها سترفعها ضد الجزائر، أمام الهيئات الدولية، ولم تطلب الحصول فعليا على «البيانات المتعلقة بالانتهاكات الثلاثة، لاسيما صور الرادار» للتأكد من الوقائع، يقيناً منها بأنها ستنفضح بالدليل القاطع.
المؤكد، أن هذه الطغمة الإنقلابية تريد أن تتوقف «القصة» عند إسقاط «الجزائر لطائرة بدون طيار، كانت في مهمة لمكافحة الإرهاب وأن اللحظة تتطلب مساندة لقائد الإنقلابيين وتمكينه من 5 سنوات أخرى إضافية كرئيس انتقالي بحكم الأمر الواقع»!.
والأكيد، برأي مراقبين، أنها لن تجرؤ على التوجه أمام الهيئات الدولية، لأنها تعلم علم اليقين أن الجزائر تحوز على البيانات التي تثبت انتهاك مجالها الجوي في أكثر من مناسبة، بينما لا ولم ولن يملك الانقلابيون أدنى فكرة عن مصير طائرتهم لو لم يطلعوا على الأمر في الصحف.
ويكشف لجوء الانقلابيين إلى التضليل والتدليس ضد الجزائر، في كل مرة، عن نية مبيتة لحشد الدعم المجتمعي من أجل الاستمرار في السلطة، ولكنه يفضح أيضا خلفية أخرى مشبعة باعتبارات مبنية على نظريات المؤامرة والعمل على منافسة الدور الجزائري في المنطقة بشتى الطرق.
استفزازات مقصودة
رغم أنها لم تستطع تحقيق أي تقدم في استعادة الأمن ومكافحة الإرهاب، بوسط البلاد، حيث سبق للإرهابيين وأن سيطروا على مطار باماكو وحطموا طائراته، إلا أن زمرة الانقلابيين أصرت، ومنذ سنة تقريبا، على تنفيذ ضربات بهذا النوع من الطائرات بالقرب من الحدود الجزائرية وتسبب ذلك في مقتل عشرات المدنيين، من بينهم أطفال ومهاجرون من دول المنطقة. ورغم علمها بالأعباء الأمنية التي تترتب على الجزائر، جراء النزوح العشوائي للآلاف تجاه حدودها، مثلما حصل العام الماضي، إلا أنها استمرت في هذا النوع من العمليات، مع إصدار بيانات منحطة في كل مرة.
كانت نيّة استفزاز الجزائر واضحة، فاللعب بالنار على أمتار من حدودها، ليس بالتصرف الودي أو السلوك الذي يراعي العلاقات التاريخية بين البلدين؛ نيّة مدعومة بخطط للتضليل الإعلامي بهدف الإساءة إليها، عبر الصراخ حال تسجيل اعتراض جزائري واعتباره دعماً للإرهاب.
وحدث في أزيد من مناسبة، أن أصدر الانقلابيون بيانات مبتورة السياق، وألقوا بخطابات تهاجم الجزائر وتكيل لها التهم بشكل غريب، لا لشيء إلا لأجل إلهاء الرأي العام الداخلي وتبرير اللجوء إلى المرتزقة الأجانب الذين يمارسون أعمال تنكيل وتقتيل مشينة بحق المدنيين، آخرها ما حدث قبل يومين، بإحدى قرى مدينة «غاو».
الكثير من القراءات ذهبت إلى أن أطرافا خارجية حرضت هذه الطغمة الفاشلة ضد الجزائر. والحقيقة أن المخططات الخارجية الراغبة في تطويق الجزائر استراتيجيا، وجدت في الخلفية «المؤامراتية» للانقلابيين أرضا خصبة لغرس فكرة «مقارعة الجزائر».
ونظرية المؤامرة لدى بعض الماليين ليست جديدة، ومن هم بعقلية الانقلابيين ظلوا لسنوات يروّجون لكون شمال مالي «يرقد على آبار ضخمة من النفط والغاز ومن شتى المعادن»، وكلما أرادو الإساءة لبلد أو جهة يسوقون بأنه «يريد حرمانهم من هذه الثروات».
كانت دائما، هذه خدعة الانقلابيين، لتجريب الخيار العسكري ومحاولة المكوث في الحكم لأطول فترة ممكنة، والدليل أن الطغمة الحالية لم تستطع أن تكتشف منجم ذهب واحدا جديدا خلال 4 سنوات. بل إنها لم تستطع حتى معالجة مشكلة انقطاع الكهرباء في العاصمة باماكو.
لم تستطع تطوير الجيش ولا بناء مؤسسات مدنية عسكرية سليمة، وكل ما قام به العقداء الخمسة، هو أنهم منحوا لأنفسهم رتبة «جنرال»، وقتلوا المدنيين مع المرتزقة الأجانب، ونكلوا بهم أبشع تنكيل في مختلف المدن والقرى، دون أن يحققوا أدنى تقدم في مؤشرات الأمن أو محاربة الإرهاب.
نفاد صبر
لم يكن من الذكاء أبدا، التعامل مع اليد الممدودة للجزائر، بسوء النية والمكر. ففي بداية الانقلاب المزدوج على الرئيس الراحل إبراهيم بوبكر كيتا، ثم باه نداو لاحقا، سنة 2021، التزمت الطغمة الانقلابية باحترام اتفاق السلم والمصالحة مع فصائل الشمال، وببناء مؤسسات البلاد على أسس قوية.
لكنها تنصلت في ظرف وجيز من كافة الالتزامات، وبدأت مغامرات مع مرتزقة أجانب، معتقدة أن بضع طائرات بدون طيار، كفيلة بأن تمنح لها القبضة الأمنية على كل شبر في مالي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأت سلسلة استفزازات غير مبررة.
في المحصلة، انضمت الزمرة غير الدستورية في مالي، إلى الجهات التي «تجهل حقيقة الجزائر»، فقد حصلت على الوقت الكافي لتجريب خيارات اللعب على مختلف الحبال، لكن الصبر نفد، ولم يعد ممكنا منح فرص إضافية لمن يشكل النكران والجحود جزءاً أساسيا من خلفيتهم الناقصة.
لم يكن للجزائر أن تسمح باستمرار انتهاك مجالها الجوي من قبل مجموعة من العسكريين، الذين لم يفوزوا يوما في معركة ضد مسلحين، ولا يمتلكون أخلاق الدبلوماسية ولا يحفظون شيئا من إرث اللباقة والتضامن التي أرساها المؤسسون الأوائل لدولة مالي.
ولا مجال للتسامح، مع من وضعوا مخططات مكشوفة للإساءة إلى الجزائر وضرب سمعتها، بل والانخراط في مشاريع التطويق الاستراتيجي وتحجيم دورها في المنطقة.
لقد كشف هؤلاء الانقلابيون عن نواياهم بأسرع مما تصور الجميع، وعبروا عن مواقفهم غير الودية بأبشع الأساليب الكلامية الممكنة، ولم يتركوا مجالا للتوبة، أو محو الخطأ.
ومن مصلحة الشعب المالي، أن يتوقف وبشكل نهائي، عن استخدام إسم الجزائر كطرف مؤجج لهوس الانقلابيين بالسلطة، وحان الوقت ليستكشفوا حقيقة من يسيطرون على مصيرهم، بعيدا عن نظرية المؤامرة والدعاية المغرضة.