يقدم الباحث في التاريخ العسكري ودراسات الدفاع، الدكتور توفيق هامل، قراءة أمنية واستراتيجية، لحادثة إسقاط الدفاعات الجوية الجزائرية، لطائرة بدون طيار، انتهكت الأجواء الوطنية، وكافة الأبعاد المرتبطة بها، ويؤكد أهمية القرار الذي اتخذته الجزائر.
الموقف الجزائري حازم إزاء الأمن الإقليمي.. والسيادة الوطنية غير قابلة للمساومة
الشعب: ما هي القراءة العسكرية لقيام الدفاعات الجوية الجزائرية، بإسقاط طائرة بدون طيار اخترقت المجال الجوي الوطني، مساء يوم 31 مارس؟

د. توفيق هامل: إسقاط الجيش الجزائري لطائرة بدون طيار متطورة اخترقت المجال الجوي لمسافة 1.6 كلم، يحمل عدة دلالات عسكرية واستراتيجية يمكن قراءتها على النحو التالي:
أولاً: القراءة من منظور السيادة والجاهزية العسكرية، الرسالة الواضحة من هذا الفعل أن الجزائر لا تتهاون في حماية مجالها الجوي، ولو كان الاختراق محدودًا من دولة مجاورة ليست معادية.. إسقاط الطائرة بدلًا من اعتراضها أو إجبارها على العودة يُظهر مستوى عالياً من الجاهزية القتالية والتفاعل السريع مع التهديدات الجوية، بما في ذلك الطائرات الحديثة. يؤكد ذلك امتلاك الجزائر قدرات دفاع جوي متطورة قادرة على رصد وتحييد حتى الأنظمة الجوية الصغيرة أو المتقدمة، وهذا يعكس فعالية المنظومة الرادارية والقيادة والسيطرة.
ثانيًا: الرسالة الموجهة لدول الجوار وخصوم محتملين، إسقاط طائرة حديثة حتى لو كانت تابعة لدولة صديقة أو محايدة كمالي، يحمل رسالة ردع غير مباشرة موجهة إلى جهات أخرى قد تفكر باختبار الدفاعات الجزائرية، خاصة في سياقات إقليمية حساسة (مثل الساحل والصحراء).
التصرف يعكس عقيدة الحذر العسكري الجزائري التي لا تميز في التعامل مع أي اختراق جوي وفقًا لنوايا الدولة المخترقة، بل تتعامل وفقًا للوقائع الميدانية فقط.
ثالثا: البعد الإقليمي والأمن الحدودي.. يأتي الحادث في ظل سياق أمني متوتر في منطقة الساحل، ما يعزز فرضية أن الجزائر تعمل على منع تسلل أي نوع من الاستطلاع الجوي الأجنبي الذي قد يستهدف أراضيها أو يكشف عن تحركاتها العسكرية.
ويُظهر الحدث مدى اهتمام الجزائر بتأمين حدودها الجنوبية المعقدة، خاصة مع تنامي التهديدات من الجماعات المسلحة والعناصر الإرهابية في شمال مالي، ويتجاوز كونه إسقاطًا تقنيًا لطائرة.. هو إشارة واضحة إلى تطور العقيدة الدفاعية الجزائرية المبنية على الردع الاستباقي، والتشدد في احترام السيادة الوطنية، والجهوزية العالية في التعامل مع أي اختراق. كما أن هذا الحادث قد يُستخدم سياسيًا لإعادة التأكيد على موقف الجزائر الحازم من الأمن الإقليمي والسيادة الوطنية غير القابلة للمساومة.
إسقاط المسيّرة أظهر مستوى عالياً من الجاهزية القتالية وفضح طغمة مالي
في بيان لوزارة الشؤون الخارجية، نكتشف أنه ليس الخرق الأول من نوعه، فقد سبق ذلك انتهاك للمجال الجوي الجزائري. لماذا يعمد الإنقلابيون إلى مثل هذه التصرفات؟
سؤال مهم للغاية. والبيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الجزائرية يكشف عن أبعاد أكثر عمقًا للحادث، ويدفعنا لتحليل الدوافع المحتملة وراء اختراقات الطائرات بدون طيار القادمة من مالي للمجال الجوي الجزائري.
في هذا السياق، يمكن تقديم عدد من الفرضيات التي تفسر هذا السلوك.
أولاً: هل هو عمل استفزازي مقصود؟ إذا افترضنا أن السلطات الانقلابية، تعمّدت إرسال الطائرة إلى المجال الجوي الجزائري، فإن ذلك قد يندرج ضمن: اختبار ردّ فعل الجزائر وقدراتها الدفاعية الجوية، ربما بتحريض من طرف ثالث له مصالح في الإقليم أو حتى قوى إقليمية.. وبذلك نحن أمام رسالة سياسية مبطنة تحمل نوعًا من الامتعاض من مواقف الجزائر، خصوصًا إذا كانت الجزائر تعبّر عن رفضها لتدخلات بعض الأطراف الدولية في مالي أو تدعو لحلول سياسية تختلف عن ما تنتهجه باماكو.
محاولة خلق توتر محسوب، خاصة إذا كانت باماكو ترى أن الجزائر لا تؤيد الخيار العسكري في معالجة الأزمة المزمنة في شمال مالي.
ثانيًا: هل هناك دوافع استخباراتية؟ من المحتمل أن تكون هذه الطائرات بدون طيار جزءًا من عمليات استطلاع غير معلنة، بهدف رصد التحركات العسكرية الجزائرية جنوب البلاد.
جمع معلومات استخباراتية عن تحركات الجماعات المسلحة المتواجدة قرب الحدود الجزائرية، من قبل الجيش المالي والمرتزقة. وفي هذا السياق، قد تكون مالي غير معنية مباشرة بالاختراق، بل تنفذ عمليات مراقبة لصالح أطراف خارجية تزوّدها بالطائرات والتقنيات.
ثالثا: قد تبرز فرضية أن تكون هذه الاختراقات غير متعمدة بالكامل، لأسباب مثل: ضعف السيطرة التقنية أو البشريّة على الطائرات بدون طيار في مالي، أو خلل في نظم التوجيه، لكن تكرار الحادث أكثر من مرة، مع استخدام طائرات حديثة، يجعل من هذه الفرضية أقل ترجيحًا.
إعلان الجزائر كان ضروريًا لتوضيح موقفها وحماية السيادة الوطنية
رابعًا: السياق الإقليمي المتغير، مالي اليوم تحت حكم عسكري يتبنى نهجًا مغايرًا للتحالفات التقليدية: خرجت من منظمة «الجي 5 الساحل» وانسحبت من التعاون مع فرنسا. دخلت في تحالف مع أطراف أخرى ومرتزقة أجانب، وتبدي استقلالية استراتيجية قد تُربك الحسابات الأمنية لجيرانها، ومنهم الجزائر التي تنتهج الحذر الشديد من الانزلاقات الإقليمية.
هذه التحولات قد تجعل باماكو تتصرف دون مراعاة تامة لحساسيات الجزائر أو حدودها. الاختراقات الجوية المالية، المتكررة كما صرّحت الجزائر، لا تبدو عشوائية، بل هي على الأرجح تحمل دوافع استخباراتية وربما رسائل سياسية ضمن سياق إقليمي متوتر ومتغير.
سواء كانت تصرفات مقصودة أو ضمن تحركات شريكة دولية لمالي، فإن الجزائر تنظر لها كتهديد مباشر لسيادتها، ما يفسر حدّة الرد هذه المرة.
في البداية صرحت الطغمة الإنقلابية في باماكو، أن طائرتها سقطت جراء خلل تقني، ثم قالت إنها اكتشف «إسقاطها» عبر الصحف، ماذا يفهم من ذلك؟
ادّعى الانقلابيون أن الطائرة سقطت بسبب خطأ تقني، ولكن بعد إعلان الجزائر عن إسقاطها، اضطروا للاعتراف بأن الطائرة أسقطت فعلا.. لو لم تصرح الجزائر بما اكتشفته، من المحتمل أن الانقلابيين في مالي كانوا سيستمرون في ادعاء أن الطائرة سقطت بسبب خطأ تقني. ومع ذلك، إعلان الجزائر كان ضروريًا لتوضيح موقفها وحماية سيادتها الوطنية، خاصة وأن الطائرة كانت في مسار هجومي عند إسقاطها.
التصريح الصادر عن السلطات الانقلابية في مالي (بأنهم علموا من الصحف بسقوط طائرتهم، وأنهم ظنوا في البداية أنها سقطت بسبب خطأ تقني) يحمل في طيّاته عدة مؤشرات مهمة جدًا، ويمكن تحليل الموقف من خلال:
أنها إشارة واضحة إلى غياب الوعي أو السيطرة الكاملة على المجال الجوي، إلى جانب كونه فشلا استخباراتيا أو تقنيا في تتبع مسار الطائرة أو التحكم فيها، خاصة وأنها من الطائرات الحديثة.
احتمال ضعف أو ارتباك في منظومة القيادة والسيطرة الجوية لدى السلطات المالية، وهو أمر له دلالات خطيرة في السياقات العسكرية.
ومن الواضح أن الجزائر اختارت هذه المرة الإعلان عن إسقاط الطائرة بشكل رسمي ومباشر، وربما كان ذلك جزءًا من رسالة ردعية علنية، حيث أرادت أن تُظهِر قوتها الدفاعية أمام الداخل والخارج، وتُثبت أنها ترصد وتضرب بدقة، لاسيما بعد تكرار الحادث.
ويعكس تصريح الانقلابيين نوعًا من الارتباك أو الحرج الدبلوماسي والعسكري، فهم يعلمون أن الطائرة لم تُسقط في ظروف قتالية عادية، بل تم اصطيادها، وهذا يجعل موقفهم هشًّا أمام الرأي العام المحلي والدولي.
ومحاولة تبرير السقوط بأنه «خلل تقني» ثم التراجع عن ذلك لاحقًا، يُظهر أن السلطات المالية الانقلابية، فوجئت بالحزم الجزائري ولم تكن تتوقع التصعيد العلني.
لم يتقدم الانقلابيون بشكوى فعلية ضد الجزائر أمام الهيئات الدولية، مثلما قالوا في البداية، ولم يردّوا عن اختراقهم الأجواء الجزائرية في مناسبتين.. لماذا؟
سؤالك دقيق ويكشف عن البعد القانوني والدبلوماسي الأهم في هذا الملف المعقد. بالفعل، امتناع السلطات الانقلابية في مالي عن التوجه بشكوى رسمية ضد الجزائر، رغم التصريحات العلنية الأولية، يحمل رسائل قوية ومؤشرات واضحة، أهمها: غياب الشكوى الرسمية دليل على ضعف موقفهم القانوني.
لو كانت لدى الانقلابيين أدلة على أن الجزائر خرقت الأعراف الدولية أو ارتكبت عملاً عدائيّا غير مبرر، لكانت تقدمت بشكوى إلى مجلس الأمن أو الاتحاد الإفريقي أو حتى محكمة العدل الدولية أو عبر القنوات الثنائية الرسمية.. لكنهم لم يفعلوا، وهذا يشير إلى أحد احتمالين:
أولا: علمهم المسبق بأن الطائرة انتهكت بالفعل السيادة الجزائرية، وبالتالي الجزائر كانت تمارس حقها في الدفاع المشروع. خشيتهم من أن الكشف عن تفاصيل الحادث سيُحرجهم أمام المجتمع الدولي، وربما يُظهرهم كمن انتهك سيادة دولة مجاورة.
ثانيًا: سكوتهم عن الحادثتين السابقتين، إقرار ضمني بالاختراقات، والجزائر لم تُفصح عن الحادثتين السابقتين إلا بعد حادثة الإسقاط، وهو ما يُظهر أنها مارست ضبط النفس سابقًا. وكانت تحتفظ بالأدلة لتُقدّمها متى ما تطلب الأمر، وسكوت الطغمة الانقلابية وعدم الرد على هذا الكشف يُفهم على أنه، عجز عن نفي الوقائع.
لاشك أن التهديدات الأمنية تتزايد على الحدود الجنوبية للبلاد، ما هي أفضل استراتيجية لمواجهتها؟
صحيح تمامًا، التهديدات الأمنية عند الحدود الجنوبية للجزائر تشهد تصاعدًا واضحًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا مع تفكك الدولة في مالي وضعف سلطتها المركزية. تمدد الجماعات الإرهابية العابرة للحدود. ظهور لاعبين غير دوليين مثل المرتزقة في الجوار. التوترات مع الأنظمة الانقلابية في الساحل.
في هذا السياق، الجزائر تحتاج إلى استراتيجية شاملة ومتعددة الأبعاد، تجمع بين الردع العسكري والانتشار الاستخباراتي والدبلوماسية الوقائية.
وفيما يلي رؤية لأفضل استراتيجية ممكنة، تعزيز الردع العسكري الحدودي الردع هو حجر الأساس: تكثيف التمركز العسكري في الجنوب (الناحية السادسة بالأخص)، مع تحديث قواعد الاشتباك الجوية والبرية.
تصريحات الإنقلابيين تعكس الارتباك والحرج الدبلوماسي والعسكري
نشر منظومات رادار ورصد متطورة للكشف المبكر عن أي تحرك جوي أو تسلل بري. توسيع استعمال الطائرات بدون طيار في الاستطلاع والهجمات الاستباقية، والرد الفوري على أي خرق للأجواء أو السيادة، كما حدث مع الطائرة المالية.
ثانيًا: تكثيف الحرب الاستخباراتية والاستباقية ودعم وحدات الاستطلاع التقني والبشري في الجنوب، خاصة قرب المثلث الحدودي مع مالي والنيجر. استهداف قادة الجماعات الإرهابية بالضربات الدقيقة أو التصفية خارج الحدود إذا لزم الأمر، ضمن مبدإ «الضربات خارج العمق».
حماية العمق الاجتماعي واللوجستي للجنوب، تعزيز التنمية الاقتصادية والبنية التحتية في الولايات الجنوبية حتى لا تكون حاضنة للهشاشة.
إعادة بناء التحالفات الدبلوماسية الإقليمية رغم قطيعة الجزائر مع السلطات الانقلابية، يجب السعي لإعادة قنوات الاتصال الأمنية المحدودة لمنع الاحتكاك العسكري.
الدفع نحو تشكيل «آلية ساحلية أمنية بديلة»، استعادة الدور القيادي في إفريقيا من خلال مبادرات جزائرية للأمن الجماعي ومكافحة الإرهاب.
التحرك دوليًا لفضح الاستفزازات، توثيق كل الخروقات الجوية والحدودية وتقديمها في المنظمات الدولية، للبرهان على أن الجزائر دولة ضحية لا معتدية.
الضغط دبلوماسيًا على داعمي الانقلابيين، سواء كانوا شركاء أمنيين أو اقتصاديين مع الحفاظ على البراغماتية.
بناء جدار ردعي إلكتروني وسيبراني لمراقبة الطائرات بدون طيار المعادية بمنظومات تشويش وإسقاط إلكتروني.
تحصين الفضاء السيبراني العسكري والمدني من محاولات الاختراق أو التشويش. الجزائر تتجه إلى عقيدة أمنية جنوبية جديدة تقوم على: الردع الذكي المعلَن أحيانًا، والصامت أحيانًا أخرى، التنسيق الإقليمي المرن لكن الحذر واستباق التهديد بدل الاكتفاء برد الفعل.