ما إن تنفس المجتمع الدول الصعداء من جراء الانخفاض النسبي لتداعيات ومعدلات الإصابة بفيروس كورونا حتى تصاعدت حالة من القلق في الآونة الأخيرة، بعدما وصل “جدري القرود” إلى أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، خاصةً مع إعلان منظمة الصحة العالمية أنه حتى الآن تم الإبلاغ عن أكثر من 220 حالة مؤكدة و89 حالة مشتبه بها في 23 دولة على مستوى العالم، منها دول لا يتوطن فيها الفيروس؛ الأمر الذي أثار خوف الكثيرين من أنه قد يتحول إلى جائحة أخرى، على غرار جائحة كورونا. وقد أعربت منظمة الصحة العالمية في 27 مايو 2022، عن قلقها من إمكانية انتشار مجتمعي لجدري القرود، مع التأكيد على أن الأولوية تتمثل في احتواء الجدري في البلدان غير الموبوءة.
طبيعة مُحيرة
يعد جدري القرود مرضاً فيروسياً نادراً وحيواني المنشأ، ويُعتقد أنه من القوارض لا القرود.
وينتقل الفيروس عادةً من الحيوان إلى الإنسان؛ حيث يقوم شخص ما من هذه المناطق بلمس حيوان يحمل الفيروس فينتقل الفيروس من نوع إلى آخر، يظهر على شكل طفح جلدي أولاً وبعدها يتحول إلى بثور وتشققات.
وتماثل أعراض إصابته للإنسان، الأعراض التي كان يشهدها في الماضي المرضى المصابون بالجدري، لكنه أقل شدة. وأوضحت منظمة الصحة العالمية، في أحدث تقاريرها بشأن المرض، أنه مرض نادر يحدث أساساً في المناطق النائية من وسط إفريقيا وغربها بالقرب من الغابات الاستوائية المطيرة.
وهناك أيضاً أدوية مضادة للفيروسات للجدري يمكن استخدامها لعلاج الحالات الشديدة من جدري القرود؛ لأن هناك أوجه تشابه بين الفيروسين.
وفي الوقت نفسه، ينصح العديد من الخبراء بأنه يمكن الحد من انتشاره فقط من خلال بعض القيود والإجراءات الاحترازية التي تحول دون انتقال العدوى. والجدير بالذكر أنه على الرغم من أنه يمكن لأي شخص أن يصاب بجدري القرود، لكن في هذا الوقت يبدو أنه “ينتشر على مستوى العالم في بعض أجزاء مجتمع المثليين والمزدوجي الجنس، خاصةً الرجال”.
دوافع القلق
على الرغم من أن هذا الفيروس ليس جديداً، فإن الجديد حالياً يكمن في انتشاره خارج موطنه الطبيعي من غرب إفريقيا؛ حيث تم اكتشاف حالات في كل من كندا والولايات المتحدة وأوروبا، ومن ثم أكد معظم الخبراء أن هذا يرجع إلى اختلاف سلوكه مع عدم معرفة السبب.
وهناك تفسيران مرجحان؛ إما أن يكون الفيروس قد تحور بالفعل، أو أن الفيروس القديم أصبح أكثر نشاطاً. وهو ما عدَّد دوافع القلق منه واعتباره تهديداً ناشئاً؛ وذلك على النحو الآتي:
1– الفشل في احتواء فيروسات مماثلة: تشير الخبرات السابقة للمجتمع الدولي، خلال العقود الماضية، في التعامل مع الانتشار الواسع، سواء لجدري الماء، أو الإيبولا أو فيروس زيكا، صعوبة احتواء مثل هذه الفيروسات، على الرغم من اعتقاد الخبراء آنذاك عكس ذلك، خاصةً أن انتشار جدري القرود بات أكثر يسراً؛ ما يثير الكثير من المخاوف.
2– التطور في طرق انتشار الفيروس: على الرغم من أن جدري القرود تقليدياً يُعرَف بأنه ينتقل من حيوان مصاب، مثل القرود والجرذان والسناجب، إلى الإنسان أو من أسطح وأشياء ملوثة بالفيروس، مثل الفراش والملابس.
أو حتى بمخالطة المصابين بالفيروس – وهو مستوى محدود الانتشار – سواء عن طريق تشققات البشرة، أو المجرى التنفسي، أو عبر العينين، أو الأنف، أو الفم؛ فإن هذه الموجة من الانتشار النسبي لجدري القروض أصبحت تتسم بإصابة العديد من الذين ليس بينهم صلات، وهو ما أثار مزيداً من القلق؛ فتفسير الخبراء لذلك هو أن الفيروس كان ينتشر بالفعل منذ بعض الوقت دون أن ينتبه إلى ذلك أحد وأخذ يتحوَّر حتى أصيب الكثير به، وهذا هو سبب التوقع بالاستمرار في كشف المزيد من الحالات.
3– تزايد احتمالات الإصابة أثناء فصل الصيف: على الرغم من أن جدري القرود يُصنَّف باعتباره أحد فيروسات الحمض النووي – ومن ثم يتسم بعدم سرعة التحور على عكس الفيروسات الأخرى مثل كوفيد أو الأنفلونزا؛ حيث يشير التحليل الجيني المبكر جداً إلى أن الحالات جدري القرود الحالية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأشكال الفيروس التي شُوهدت في 2018 و2019، ومن ثم لا دليل حتى الآن على أن هذه الموجة من الانتشار بسبب متحور جديد من جدري القرود – فإن معظم الخبراء يحذرون من تزايد معدلات الإصابة به، خاصةً مع الدخول في ذروة فصل الصيف وكثرة التجمعات.
4– اتساع الفئة المُعرَّضة للإصابة: يعد جدري القرود فيروساً مناعياً، يصيب الجهاز المناعي للإنسان، ومن ثم قد يكون أكثر خطورة على الأطفال الصغار والنساء الحوامل ومَن يعانون من ضعف في جهاز المناعة، وهي فئة ليست بالصغيرة، ومن ثم هناك تخوف مُضاعف سواء بإصابة هؤلاء الأشخاص أنفسهم، أو أن يكونوا حاملين للفيروس ويساهمون في نقله إلى مُخالِطيهم.
5– تحذيرات منظمة الصحة العالمية: على الرغم من إعلان منظمة الصحة العالمية أنها ستقدم مزيداً من الإرشادات والتوصيات في الأيام المقبلة للدول حول كيفية الحد من انتشار جدري القرود، لكنها في الوقت نفسه أثارت القلق عندما أعلنت أنها تتوقَّع رصد المزيد من حالات الإصابة بجدري القرود، خاصةً مع انتشاره في البلدان التي لا يوجد فيها المرض عادة.
تداعيات محتملة
ربما يكون لهذه المؤشرات والمعلومات المتاحة عن فيروس “جدر ي القرود” تداعيات جوهرية على المجتمعات، وتتبلور أهمها فيما يأتي:
1– تصاعد معدلات الذعر المجتمعي: ينتاب الرأي العام على المستوى الدولي حالة من الخوف والذعر، على عكس الخبراء، من تصاعد احتمالات زيادة معدلات الإصابة بفيروس مناعي جديد، على غرار فيروس كورونا الذي أدى إلى حالة من الإغلاق التام في معظم دول العالم، وهي الحالة التي أدَّت بدورها إلى وضع اقتصادي صعب ووقف عجلة الإنتاج. ومن ثم يخشى الرأي العام من تكرار هذا السيناريو، خاصةً أنه لم يعد هناك قدرة على تحمله.
وفي هذا السياق، أظهر استطلاع أجرته YouGov في الولايات المتحدة في الفترة من 20 إلى 23 ماي 2022 عن مدى قلقهم واحتمال حدوث زيادة مفاجئة في الحالات في الولايات المتحدة.
وقد أعرب 38% فقط عن قلقهم من تفشي فيروس جدري القرود، فيما توقَّع 27% زيادة في عدد الحالات المصابة.
ومن حيث التوجه الحزبي، يشعر 51% من الديمقراطيين و33% من الجمهوريين بالقلق بشأن جدري القرود، ويعتقدون أن حدوث زيادة في عدد الحالات أمر محتمل، فيما يقول 12% فقط من الديمقراطيين إنهم غير قلقين على الإطلاق بشأن جدري القرود، ويقول 32% من الجمهوريين ذلك.
كذلك أعرب البالغون الذين تقل أعمارهم عن 45 عاماً بالقلق، وتوقعوا ارتفاعاً أكبر من البالغين الأكبر سناً.
2– انتشار خطاب الوصم الأخلاقي: بالرغم من أن فيروس جدري القرود ظهر لدى أشخاص من فئات مختلفة، بيد أن التقارير التي ربطت بين المثلية الجنسية والموجة الجديدة لانتشار جدري القرود، ربما تُفضي إلى استدعاء خطاب الوصم الأخلاقي في التعاطي مع حالات الإصابة بالفيروس، مثلما جرى في المراحل الأولى من فيروس كوفيد 19، وهو ما يعني أن بعض الأفراد سيتجنَّبون الإعلان عن إصابتهم بالفيروس خشية أن تلاحقهم اتهامات المثلية الجنسية ولو كانوا من ذوي الميول الجنسية الطبيعية.
علاوة على ذلك، فإن طبيعة نشأة الفيروس، واعتباره فيروساً قادماً من إفريقيا، قد تؤدي إلى تزايد مفردات الكراهية تجاه أصحاب البشرة السوداء، وخصوصاً في المجتمعات الغربية.
3– صراع اللقاحات بين الدول: لاحظ خبراء مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية، ومنها (CDC) أن هناك بالفعل نوعين من لقاحات الجدري التي يمكن أن تساعد في حماية الناس من الإصابة بعدوى جدري القرود، ويتم إعدادها للتوزيع؛ حيث أقرَّت منظمة الصحة العالمية بأن التطعيم السابق ضد جدري الماء أثبت نجاحه في الوقاية أيضاً من جدري القرود؛ إذ ثبتت فاعليته بنسبة 85% في الحيلولة دون الإصابة بالمرض، ولا يزال يستخدم أحياناً.
وفي هذا الإطار، تتسابق الدول الآن في توفير مزيد من جرعات اللقاح المخصص لعلاج جدري الماء، خشية نقصها فيما بعد إذا تحولت الأزمة إلى جائحة، وهو ما حدث – على سبيل المثال – في بريطانيا؛ حيث حصلت على كمية كبيرة من اللقاحات وبدأ إعطاؤها للذين يعانون من أمراض مزمنة وأكثر عُرضةً لالتقاط الفيروسات بسبب ضعف جهاز مناعتهم.
كما دفعت المخاوف من تفشٍّ محتمل لجدري القرود منذ فترة طويلة الحكومة الأمريكية إلى تخزين كمية كبيرة من هذه اللقاحات، فضلاً عن قيام الحكومة الإسبانية بشراء دفعة كبيرة من اللقاحات الخاصة بجدري الماء لتفادي انتشار فيروس جدري القرود بين مواطنيها؛ الأمر الذي قد يخلق أزمة على المدى القريب، على المستوى الدولي، من جراء التهافت على طلب اللقاحات؛ ما يسبب نقصاً نسبياً في المتاح منها مقابل الطلب عليها.
رؤى متباينة
ختاماً، على الرغم من أنه حتى الآن لم يتم تسجيل عدد حالات هائل من الإصابة بفيروس جدري القرود، فإن ما دعا إلى القلق هو اكتشاف سلسلة حالات تنتشر عبر أوروبا وخارجها، وهو الأمر الذي أدى إلى حالة من الجدال حول ماهية التهديد الذي يشكله الفيروس.
إذ يرى اتجاه – وهو الغالب حتى الآن – أنه لا داعي للقلق من هذا الفيروس، خاصةً أن انتشاره ليس بالأمر السهل، مقارنةً بالفيروسات الأخرى، مثل الإنفلونزا وكورونا وغيرهما؛ فهو لا ينتشر بسهولة، ولا ينتقل عبر الهواء لمسافات طويلة، بل عن طريق مخالطة المصابين بالفيروس لفترات طويلة وعلى نحو وثيق، وهو ما يقلل احتمالية تحوله إلى جائحة عالمية مثل كوفيد 19؛ حيث إن الأخير كان غير معروف تماماً عند ظهوره لأول مرة، على عكس جدري القرود، كما أن الفيروس – بحسب التقارير الطبية المتوافرة – ليس مميتاً، ويُشفَى المريض منه تلقائياً بعد أسابيع قليلة. ومن ثم، ينصح أنصار هذا التوجه بعدم تبني إجراءات للإغلاق؛ لأن من المتوقع أن يزول المرض من تلقاء ذاته، لكن يمكن الاكتفاء بحجز الشخص المصاب فقط.
وفي المقابل، يرى اتجاه آخر ضرورة القلق من الفيروس والتعامل معه على أنه تهديد – وهو في الغالب توجه غربي – حيث يخشى أنصار هذا التوجه أن يغير الفيروس سلوكه؛ إذ ذكر بعض الأطباء الغربيين الذين عالجوا مصابين بجدري القرود، أن هذا النمط من الإصابة يعتبر جديداً ومفاجئاً. وعلى الرغم من إقرارهم بأنه ليس نوعاً ثانياً من فيروس كوفيد–19، طالبوا بضرورة التحرك لمنع الفيروس من الحصول على موطئ قدم وتجنب شيء كهذا كلياً.
المصدر: موقع انتريجيونال للتحليلات الاستراتيجية