وجدت لزاما عليّ، وعلى ضوء تعليقات قرأتها وخصوصا بقلم أشقّاء أعزّاء من المشرق العربي، أن أوضّح بعض المعطيات التي بدا لي أنها غير واضحة خارج إطار المغرب العربي، ومن بينها تعبير «المفرنسين» (FRANCOPHONES).
فقد عرفت الحركة الوطنية الجزائرية العديد ممّن تلقّوا تكوينهم العلمي باللغة الفرنسية، وكان منهم قيادات تطالب بكل مميزات الجنسية الفرنسية، وهم ممّن أطلق عليهم «الإندماجيون».
ولن أدخل في تفاصيل كثيرة قد تزعج بعض القراء في عصر «الهامبورغر»، وأكتفي بالقول، باختصار أرجو ألا يُخلّ بالمعنى، بأن منطقهم الأساسي هو أن التبعية الفرنسية أمر لا مفر منه، في المدى القصير على الأقل، وعليهم بالتالي أن ينتزعوا كل ما يمكن انتزاعه من حقوق حرموا منها، حيث أنهم يعتبرون فرنسيين من الدرجة الثانية.
لكن الشيء الأساسي هو أنهم كانوا يتمسّكون بقانون الأحوال الشخصية الإسلامي بكل ما يتضمنه من قواعد هي التي تربط المسلم بمجتمعه وبتاريخه وبأمته، وكان من أولئك السياسيين الدكتور بن جلول والصيدلي عباس فرحات وعشرات آخرون.
ومع استرجاع الاستقلال بالدم والدموع، كنّا على وعي تام بما تعيشه البلاد في المجال اللغويّ، وكنت قلتُ في ديسمبر 1966 (ديسمبر 1966) «كان هناك الذين وضعوا لبن الوطن الأم!! (أمّهم هُمْ) ولم يفطموا بعد..منحتهم فرنسا الفرصة، لسبب أو لآخر، لكي يعيشوا حضارتها ويتسلقوا ثقافتها.. هؤلاء تقطّعت أنفاسهم فلم يجرؤوا على الصعود أكثر..على اكتشاف أنفسهم..على استغلال ما تعلموه للبحث عما يجب أن يتعلموه..منهم الذين كانوا على شئ من شفافية النفس وعمق البصيرة..فانصاعوا لأوامر التاريخ وحتميته، ومنهم من تملكه الخوف فانضم روحيا إلى من تربطه بهم أوامر اللسان». (وهؤلاء هم المتفرنسون FRANCOPHYLES).
وهكذا نجد أن جُلّ «المفرنسين» في العهد الاستعماري كانوا أكثر ارتباطا بأمتهم من المتفرنسين، بل ومن بعض «المعربين» في مرحلة الاستقلال، ومن هؤلاء، ذكورا وإناثا، من يرتزقون من اللغة العربية، ولكنهم أول من يسخر منها ويتقول عليها، وهو ما يعني أن الاستلاب ليس مرتبطا دائما بلغة التكوين، وكتابات مالك بنابي ومواقف مالك حداد من أبسط الأدلة على ذلك.
ومن هنا أسعد دائما بكتابات الدكتور جمال العبيدي، وهي، للأمانة، مكتوبة أساسا بالفرنسية، ولكنها عربية الفكر إسلامية الانتماء وطنية التوجه.
وكان عليّ أن أتوقف عند مقاله الأخير الرائع الذي حمل عنوان: «الإسلاموفوبيا بقفازات بيضاء»، حيث أظن أن الثروة المعلوماتية التي توفّرها هذه الصحيفة، بفضل كثرة عدد المساهمين بأقلامهم فيها، قد تكون حالت بين كثيرين والتوقف عند مقال العبيدي، الذي علق فيه على خطاب الرئيس الفرنسي بقوله:
«إنّه خلف عندي انطباعا يمكن تلخيصه في كلمتين: الكيل بمكيالين»، ولم يقل جمال، أدبا، إنه كان تجسيدا للنفاق الذي ألفناه من القوم في الشمال، لكنه يوحي بذلك بكل ذكاء قائلا: «بدأ الخطاب إنسانيا، متمدنا وأنيقا، فهو يرفض توظيف العلمانية ضد المسلمين واختزالها في النهاية في كاريكاتير، ويحلل تحليلا اجتماعيا أسباب التمرد ونمو التيار الإسلامي في الأحياء التي توصف بـ «الصعبة»، فيراها في عدم المساواة وفي التهميش الاجتماعي، لكن الخطاب ينتهي، في جانبه الملموس، بسلسلة من الإجراءات التمييزية.
خسارة….إنها «الإسلاموفوبيا» الانقيادية، لكنها أنيقة وبقفازات بيضاء، فموضوع الخطاب قُدم في البداية بصيغة الجمع، أي «الانفصاليات»، لتفادي التمييز، لكن هذا الجمع توارى بسرعة وترك مكانه للموضوع الحقيقي، للغرض الوحيد من الحديث: «الانفصالية أو (الانعزالية) الإسلامية» بصيغة المفرد، وهكذا رأينا أنه:
عندما أثيرت مسألة مراقبة تمويل الجوامع والجمعيات الدينية أو الثقافية، كان الأمر يتعلق بالإسلام.
عندما أثيرت مسألة مراقبة توظيف أو تكوين رجال الدين، كان الأمر يتعلق بالأئمة.
عندما أثيرت مسألة مراقبة المؤسسات التعليمية الأجنبية في فرنسا، كان الأمر يتعلق بمؤسسات البلدان العربية – الإسلامية، لاسيما بلدان المغرب.
باختصار، إنها مجموعة من الإجراءات التمييزية بحق مسلمي فرنسا وحتى بحق العرب أو الذين ينظر إليهم كعرب…هو التمييز…هنا صلب القضية، هنا مصدر المشاكل، وقد أخذ في التوسع في الوقت الذي أعلن فيه عن إرادة مكافحته».
ويدخل الدكتور العبيدي في تفاصيل التفاصيل فيذكّر بعدد من الحقائق الثابتة، ومنها:
أولا – تتعلق الحجة الأساسية التي تستند إليها الإجراءات بمراقبة تمويل أماكن العبادة الإسلامية والجمعيات الدينية والثقافية الإسلامية هي أن التمويلات تأتي من الخارج، لاسيما من بعض البلدان الإسلامية، إذ أن هذه النقطة لم تطرح بالنسبة للديانات الأخرى.
كشف تحقيق للجريدة الفرنسية «ليبراسيون» (03 نوفمبر 2016) أن فكرة تمويل الدين الإسلامي من قبل دول أجنبية غير صحيحة، لأن ما بين 70 و80 % منه يأتي من المؤمنين أنفسهم، أما البقية، فيأتي من الخارج (أشخاص ودول) لفائدة الجوامع الكبرى التي لا علاقة لها بـ «الإسلام الراديكالي»، ويدعي نفس التقرير أن التمويل يأتي من العربية السعودية أو قطر، بينما مصدره الحقيقي هو البلدان الأصلية لمسلمي فرنسا، الجزائر والمغرب، بالدرجة الأولى، وتركيا بدرجة أقل.
في المقابل، نجد «الصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد»، الذي أنشئ في فرنسا عام 1950، يعلن صراحة على موقعه أن برامجه التربوية والاجتماعية ممولة من إسرائيل وذلك دون أن يثير أي رد فعل من فرنسا الرسمية.
وهذا هو الحال بالنسبة للكنائس الإنجيلية الفرنسية كذلك التي تربطها علاقات وثيقة بنظيراتها في الخارج، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، إن هذه الكنائس تنفق على ما يزيد عن 350 مبشر خارج فرنسا، لاسيما في إفريقيا الفرنكوفونية والجزائر وبلاد المغرب الأخرى، وذلك بإشراف « الخدمة الإنجيلية بين الدول الناطقة بالعربية» (في 2005، قدر عدد البروتستانتيين الإنجيليين بالجزائر، من ذوي المنشأ الإسلامي، بين 20.000 و30.000، حسب «كيرن. أنفو».
ثانيا – هناك مجموعة أخرى من الإجراءات تتعلق بتكوين رجال الدين «في فرنسا حتما»، بحجة أن هؤلاء يأتون من الخارج.
لكن هذه الإجراءات تستهدف الأئمة دون غيرهم، ويكفي أن نشير، بهذا الخصوص، إلى أنه جرى إحصاء 1689 كاهنا أجنبيا كاثوليكيا بفرنسا، عام 2012، حسب ويكيبيديا.
كذلك هناك المطالبة الموجهة للأئمة بضرورة التمتع بمستوى جيد في اللغة الفرنسية. هل يشترط على الرهبان والكهنة في الجزائر وباقي بلدان المغرب إتقان اللغة العربية؟ هل هؤلاء مطالبون بالاحتفال بالقداس بالعربية، وهو شيء ممكن ومعمول به في لبنان والعراق وسورية ومصر؟
في الجزائر وفي بلدان عربية وإسلامية أخرى، يأتي الكهنة والرهبان غالبا من خارجها، لاسيما من فرنسا، دون أن يثير هذا مشكلة ما.
هذه الإجراءات مقدمة باسم الدفاع عن الدولة العلمانية، وهي في الحقيقة تعلن عن انهيارها، ذلك أن أساسها بالذات، الفصل بين الكنيسة والدولة، يتآكل شيئا فشيئا ويترك مكانه لرقابة الدولة على الدين كلما تعلق الأمر بالإسلام. بل جرى الإعلان عن تعديل قاعدة العلمانية نفسها في فرنسا – قانون 1905 – لأول مرة منذ 115 عاما بسبب…الإسلام.
ثالثا – هناك أخيرا الإجراءات المتعلقة بمراقبة المؤسسات التعليمية في فرنسا، لاسيما الثانويات التابعة لدول أخرى كالجزائر وهي إجراءات صادمة إلى حد كبير، إذ ذهب الرئيس ماكرون إلى حد الحديث عن مراقبة مستوى المدرسين في اللغة الفرنسية، وإذا كان هناك من الثانويات المهمة والمؤثرة اجتماعيا وثقافيا في بلاد المغرب وفي إفريقيا، لاسيما عبر تكوين النخب، فهي الثانويات الفرنسية، هل تشترط الجزائر مراقبة مستوى المدرسين الفرنسيين في اللغة العربية؟».
ويواصل جمال قائلا بأن «كل ذلك صادر، في الواقع، عن نظرة تقوم على التوهم والهذيان بوجود تهديد أو اجتياح عربي – إسلامي، وهي نظرة آخذة في التفشي في أعلى الدوائر الفرنسية كما يبدو، فالرئيس ماكرون يقول في خطابه: «يجب تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الأجنبية»، وكأن الأرض الفرنسية تتعرض لغزوة، وإذا كان للتهديد والاجتياح وجود، فمصدرهما ليس الإسلام أو العالم العربي بالتأكيد.
وبتلك النظرة المقلوبة للواقع، التي تستعمل للأسف كطريقة تفكير عند النخب الفرنسية، وبتلك الروح التي تلتقي بروح الحروب الصليبية في العصر الوسيط، وبذلك الاستلاب الحقيقي الذي يعبر عنه ذلك التمثل الوهمي للإسلام، وبذلك الخوف المرضي، كيف يمكن للفكر العقلاني، التقدمي، أن ينمو كما نمى خلال أزمنة أخرى كعصر التنوير؟
إن جائحة فيروس كورونا أدت بهذا الصدد دور الكاشف، فأظهرت انهيار الروح العلمية والانزلاق إلى اللامعقول والفكر السحري وإلى نظريات المؤامرة بحثا عن كبش فداء، وهذا كله على مستوى قطاعات بأكملها من المجتمع الفرنسي، بما فيها الأكثر تعليما وأيضا بما فيها الأوساط ذات التقاليد التقدمية».
ويُذكر الدكتور العبيدي بما قاله مدير نشر شارلي إبدو، من أن: «العلم لم يبرهن على وجود الله….هذه فرضية».
ويعلق قائلا: يا لها من غباوة! هذا هو الرصيد الفكري الذي استخدم كأساس للرسوم الكاريكاتورية عن النبي محمد (صلعم)، فإذا كان وجود الله غير ثابت، فهل تم إثبات عدم وجوده ؟ إن عدم البرهنة على وجوده هي التي تجعل منه معتقدا.
إنّها نظرة «علموية» (والتعبير من ابتكار جمال، وعلى وزن إسلاموية) بدائية «تسعى، مرة أخرى، إلى مجابهة الدين بالعلم، الإيمان بالعقلانية، بينما هذا ميدان وذاك ميدان مختلف من ميادين المعرفة، أحدهما موضوعي والآخر ذاتي، مثل العلم والفن، إنه الخطأ ذاته الذي يرتكبه بعض المؤمنين عندما يجعلون من العلم منافسا للدين، والمنتهي منافسا للانهائي…..ولن ألح أكثر».
«المشكل يكمن في عدم التفريق، من خلال تناول مبتذل للعلمانية، بين الدين كمؤسسة والدين كخميرة ثقافية، روحية، أخلاقية للاحتجاج على السيطرة الأجنبية أو الاجتماعية. لننظر بإمعان: وراء كل احتجاج عنيف على كاريكاتور النبي (صلعم) تقف مجموعات اجتماعية تتألم من التمييز الاجتماعي أو تقف بلدان تتألم من السيطرة الأجنبية».
ويضطر الدكتور العبيدي إلى إظهار مخالبه فيقول: في فرنسا، هناك من يبدي قلقه تجاه «الغزو الإسلامي»، ويستغرب حضور باكستانيين أو أفغان أو ليبيين على الأرض الفرنسية، ولكن هل توجد قوات عسكرية أفغانية في فرنسا مثلما توجد قوات فرنسية في أفغانستان؟ ما هو عدد الموتى، بما فيهم النساء والأطفال، ضحايا العمليات الحربية الفرنسية وغيرها في أفغانستان؟ لقد تسبّب القصف الجوي في ليبيا، بما فيه قصف الطيران الفرنسي، في هلاك الآلاف، هل وقعت عمليات حربية ليبية فوق التراب الفرنسي؟ إلخ. قائمة الضحايا طويلة بالآلاف والآلام، كما هو معلوم.
الشجاعة الحقة، حرية التعبير الحقة، ألا تكمنان في إدانة هذه المظالم؟ هل تكمن الشجاعة وحرية التعبير، باسم تسامح امتثالي، في رسم كاريكاتور معادٍ للإسلام، وتملق قسم من الرأي العام ضيق الأفق وشوفيني، أم تكمن في مواجهة حدود حرية التعبير الحقيقية، كالحدود المفروضة على إدانة الصهيونية في فرنسا؟ بهذا الشأن…صفر تسامح…كما يقولون، وحظر كلّي على التفكير.
فلنتذكّر ماذا حدث للكوميدي، ديودوني، الذي صار منبوذا رسميا لمجرد تلاعبه بكلمتي «إسرا – هايل!» في التلفزيون، أو للرسام «سيني»، الذي تم طرده من شارلي إبدو بسبب رسم كاريكاتوري لابن الرئيس الأسبق ساركوزي وهو يعتنق اليهودية، وذلك بالرغم من أن الأمر في الحالتين من قبيل الفكاهة التي تجعل منها شارلي إبدو حقلا للسخرية من كل شيء (إلا من الادعاء بهلاك ستة ملايين في محرقة).»
وبعد.
كانت تلك سطور لكاتب جزائري يُنتج باللغة الفرنسية، وأتحدى أن يكون هناك من عمالقة الكتابة باللغة العربية من يستطيع أن يقول أكثر مما قاله جمال العبيدي، الذي أعتذر له لأنني لم أستشره فيما أوردته هنا من مقاله الرائع، الذي تجاهلته معظم صحف الأمة الخالدة ذات الرسالة…الخالدة أيضا.
هل أقول، باقتباس مقولة ماركس وآنغلز: يا مسلمي العالم…اتّحدوا، أم نظل في مستوى «السحّ الدحّ امبو»؟
الدكتور محيي الدين عميمور