ينتظر من المجتمع المدني في الجزائر أن يقوم بدور تنموي ميداني، وانخراط فعلي في مسارات البناء المنتهجة من طرف الدولة، والمساهمة في اقتراح حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، مع العمل على التصدي للأخطار والمناورات الإقليمية المحدقة بالبلاد.
واكب المجتمع المدني بكل أطيافه وفواعله منذ الاستقلال التحولات العميقة والسياقات السياسية المرحلية، ولم يتزحزح عن أهدافه الوطنية ومبادئه النوفمبرية الأصيلة، بل كان أفضل سند متين لمؤسّسات الدولة في مواجهة مختلف التحديات الظرفية الإقتصادية والسياسية.
ذوبان في الغايات الكبرى للأمّة
يقول الباحث في علم الاجتماع السياسي الدكتور عبد الله رقيق في تصريح لـ «الشعب ويكاند»، إنّ الجزائر تَنبّهت لدور البنى الوسيطة بعد تحقيق الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية مباشرة، من هيئات وهياكل وحركات وتنظيمات ورابطات شبانية ومجتمعية مختلفة الأطياف، قصد إشراكها في مسارات التنمية والحفاظ على النسيج الاجتماعي الوطني، الذي حاول المستعمر الفرنسي طمس هويته، وإحداث جملة من التغييرات الفكرية عليه.
وبصرف النظر عن تعريفات المجتمع المدني متعدّدة وجهات النظر، يرى رقيق أنّه الحالة الطبيعية لصيرورة المجتمعات، والمساهمة في نشأة الدولة المواطنية الحديثة، باعتماد آليات ديمقراطية لتشكيل ذاته وأداء أدواره.
مارس المجتمع المدني وفق الخيار الذي انتهجته الدولة الجزائرية ما بعد الاستقلال، وكان يمارس حريته وتكوينه في داخلها، وانطلق من خلالها للقيام بدوره والذوبان في مخططات الجمهورية، والغايات الكبرى للأمة الجزائرية ومبادئ ثورة التحرير المجيدة.
وأضاف «قام المجتمع المدني بدور محلي بارز ونشاط تضامني طيلة ستة عقود، اتّسم بالتّشاركية مع الدولة ووحدة الهدف، بل هي من كوّنت أعضاءه عبر الاتحادات الوطنية النسائية والشبابية والفلاحية والنقابات القطاعية، بالإضافة إلى الرابطات الفكرية التي أدّت دور التثقيف والتكييف الاجتماعي، ولا يعيبها ذلك لأنّها كانت تُضَمِّد جِراحَها من مستعمر خَلّف وراءه تشويه للإنسان والمجتمع، وتفكّك أسري من أرامل وأبناء شهداء ومعطوبين، ودمار للبنية التحتية بكل أشكالها، وبالتالي كان للمجتمع المدني الجزائري دور مختلف عن مهمة الوسيط، ومارسه معتمدا على الدولة كفاعل أساسي في إثبات توجهاتها وغاياتها».
انفتاح عام
يعتقد الباحث رقيق، بأنّ تَبنّي الدولة الجزائرية لخيار التعددية نتيجة تحوّلات مرحلية، ما دفع بالمجتمع المدني للانفتاح العام على السياسات الاجتماعية، مَثّل فرصة للتنظيمات والجمعيات والأفراد لإنشاء منظومة الحقوق المرسّخة في الدستور، في حين لم يُلغ دور الدولة المرتبط ببناء هيكل المجتمع المدني، الذي وجد نفسه متعاليا عن ذاته للحفاظ على مقوّمات الأمة ومؤسّساتها الجمهورية خلال العشرية السوداء، وانخرط طواعية في الحفاظ على كيانها.
وبحسبه، يُعتبر الانتماء الطوعي للأفراد في المجتمع المدني، ثمرة صيرورة تاريخية واجتماعية مميزة للواقع الجزائري، ولم تُثنيه التحديات الحالكات من المساهمة والقيام بأدوار مهمة تعدّت أفكار منظري الفلسفة الاجتماعية بربطه بالوساطة وحرية الفعل، إلى فاعلية الفعل الحقيقي الذي يحمل دلالات المعنى والمصير، والانخراط الجاد في البناء التنموي، والحفاظ على النسيج الاجتماعي للأمة ومؤسساتها وقِيَمها الكبرى.
قوّة البناء والفاعلية
دافع المجتمع المدني في الجزائر، ملثما يشير الدكتور عبد الله رقيق، عن توجّهات وتاريخ الدولة ومنتجاتها الحضارية والاجتماعية والاقتصادية، وحافظ على تاريخها المجيد بالانتماء لعهد جديد سيكون فيه قوّة فاعلة في مسارات البناء، وفي أوساط المجتمع بتفاعل إيجابي مع حقوقه وواجباته، وتنشيط مجالسه المنتخبة البلدية والولائية والوطنية، وكذا المساهمة في إنجاح استحقاقات الأمة ليس كوسيط، وإنما بانغماس في خدمة الأفراد والمجموعات المجتمعية تحقيقا لغايات الدولة العليا.
وبخصوص قرار إنشاء المرصد الوطني للمجتمع المدني، يراه الباحث، تتويجا لمسار تفاعلي تراكمي لهذا الكيان في العمق المجتمعي، وبدوره الجديد سيساهم في ترقية المواطنة والممارسة الديمقراطية التشاركية، تعزيز القيم الوطنية على المستويَيْن المحلي والوطني، كما جاء تجسيده وفق قوانين الدولة كهيئة استشارية للعمل على ترقية المواطنة وفاعلية المجتمع القَوِيمَة، وترسيخ علاقته بالمؤسسات العمومية في إطار تشاركيّ تَنْبَني عليه وحدة الأمة وأهدافها.
روح المواطنة
اعتبر رئيس المنظمة الوطنية من أجل الإستثمار والمواطنة طارق عصمان في اتصال مع «الشعب ويكاند»، دور المجتمع المدني أساسي ومفصلي ومحوري في بناء واستقرار المؤسسات العمومية والحفاظ عليها.
وبحسب عصمان، لابد أن يكون المواطن أداة لتبليغ هذا الهدف النبيل الهام، كلٌّ من موقعه وتواجده مؤسساتيا وإقليميا ودوره اجتماعيا أينما كان موضعه، كما أنّ روح المواطنة تقتضي سعى مختلف المنظمات والتنظيمات والجمعيات لتحقيق الدور الأساسي للمجتمع المدني على ضوء الأهداف العامة التي يتبناها الشعب الجزائري.
من هذا المنظور، يرى طارق، ضرورة وأهمية دفع المجتمع المدني ليكون أغلبية مطلقة بالمقارنة مع باقي التنظيمات الأخرى السياسية سواء النشطة في فلك السلطة أو المعارضة، ولا يتحقق الأمن القومي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بحسبه، إلاّ من خلال تولى المجتمع المدني المسؤوليات كمعني أوّل مع مؤسسات الدولة التي يسندها في كل الأحوال والظروف حفاظا على فعاليتها الميدانية، ودعمه لاسترجاع هيبة الدولة الوفية لمبادئ أول نوفمبر 1954.
قوّة منسجمة
أوضح طارق عصمان، أنّ المؤسّسات التنفيذية التي تسعى لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني، باعتبارها هياكل دائمة تُعبّر عن وجود الدولة واستقرارها وسيادتها لا تكتمل إلاّ بما يقوم به المجتمع المدني في كليته، كلٌ حسب مشاغله واهتماماته وتطلّعاته ومصالحه، التي قد تكون متضاربة أحيانا أو منسجمة مع بعضها بما يخدم التلاحم الاجتماعي، وفق مسميات هذا الهيكل من منظمات جماهيرية، مهنية، نقابية، فكرية وطنية وجهوية ومحلية وفقا لمجال التخصص.
ومن هذا المنطلق، كما يقول، يأتي دور المنظمات الوطنية الأهلية المحلية لتولي نشر ثقافة المؤسسة الوطنية الرامية إلى التعاون بين مختلف شرائح المجتمع والسلطات العمومية وأرباب العمل، بغية تشكيل كتلة تحمي الجزائر من الداخل كقوة واحدة منسجمة، وموحّدة أمام المخاطر التي تهدد كل دول العالم في المراحل الراهنة والقادمة المتوقعة.
السّلطة الخامسة
يعتقد الأستاذ عصمان، بأنّ هيكل المجتمع المدني في المجتمعات الحديثة مُكوّن من مجتمعين أساسيين هما المجتمع السياسي والمجتمع المدني، فالأول هدفه السعي المستمر والدؤوب للوصول إلى ممارسة المسؤولية في مختلف مفاصل الدولة، والبحث عن أنصار من مختلف شرائح المجتمع ومناطقه للاندماج أو المساندة في تحقيق برامج هذا المجتمع السياسي، في حين المجتمع المدني يُشكّل أغلبية الشرائح الاجتماعية من الفئات الدنيا والوسطى والعليا بأغلبية مطلقة في المجتمع، ولا يهدف الوصول إلى المسؤولية وإنّما متابعة مدى تطبيق قوانين الدولة بشكل عادل على كل الشرائح.
وأردف في سياق كلامه «المجتمع المدني في المجتمعات الديمقراطية هو الغربال الذي يتم من خلاله غربلة المجتمع السياسي لإبراز نخبة تحكم باسم الشعب، ولابد من الإدراك جيدا أنه يمكن انتقاء فاعلين ومؤثرين من بين منتسبي المجتمع المدني لتولي مناصب قيادية كأفراد وليس كهيئات بحكم درايتهم، وتعبيرهم عن إرادة المجتمع».
دسترة قانون المجتمع المدني في الجزائر، يجعله سلطة خامسة وبمثابة إنشاء نخبة جديدة أكثر حيوية ونشاطا وتطلعا للجزائر الجديدة، وكذا ضخ دماء جديدة في مؤسسات الدولة والمجتمع، كما يضيف رئيس المنظمة الوطنية من أجل الاستثمار والمواطنة طارق عصمان.
تحدّيات ورهانات
يكشف الباحث الأكاديمي المتخصص في شؤون الجماعات المحلية الدكتور عبد الرحيم لحرش في حديث مع «الشعب ويكاند»، بأن مفهوم المجتمع المدني من أحد التعابير الأكثر انتشارا في نهاية القرن الماضي، وبداية الألفية الجديدة، وأصبح أحد المعالم الرئيسية التي تُعطي للمراحل القادمة هويتها وخصوصيتها السياسية والتنموية.
يُشير مصطلح المجتمع المدني، بحسب الدكتور لحرش، إلى مجموعة كبيرة من المنظمات والجماعات غير الربحية وغير حكومية، تتأسّس للنهوض بالحياة العامة للمواطنين، حيث يشمل هذا المصطلح الجمعيات المجتمعية المحلية، المنظمات غير الحكومية والنقابات العمالية والمهنية، كما يتوسّع أيضا ليمس لجان الأحياء والجمعيات والمنظمات الخيرية إضافة إلى اللجان الدينية وغيرها، يُعبّر من خلالها هؤلاء بطرق قانونية منتظمة على آرائهم بشأن القرارات المتعلقة بالسياسة المحلية.
كما تساهم هذه المنظمات مختلفة التوجهات، مثلما يقول الباحث، في الحياة المحلية وإدارة المدينة، مجال الديمقراطية التشاركية وتفعيل المحيط الإجتماعي للمجتمع المحلي، إذ لا يمكن أن يُستبعد دورها في تحديث الشؤون المحلية كونها أحد دعائمها ومحرّك من محرّكاتها، وهو ما تتأسّى به العديد من دول العالم بالتعويل على المجتمع المدني في نقل هموم وانشغالات المواطنين، وإيصالها بطرق منظمة وحضارية.
المجتمع المدني والحركة التّنموية
يُبرز الباحث الأكاديمي عبد الرحيم لحرش، ظهور أفكار حديثة تدعم دور المجتمع المدني في تفعيل وتنشيط الحركية التنموية، ما قد ينعكس على مهامه بإعطائه بعدا إيجابيا خاصا في مختلف مراحل الحياة المجتمعية ضمن المجالات التنموية والاقتصادية والثقافية والسياسية والبيئية وغيرها، كما يعتبر عنصرا فاعلا في كثير من المجتمعات المعاصرة التي شهدت نهضة تنموية سريعة.
وأضاف «احتكاك المجتمع المدني بالواقع أهّلَهُ ليكون له دور في الشأن المحلي التنموي من خلال العديد من المبادرات والمشاريع التنموية، إذ جاءت وعود رئيس الجمهورية في السياق من أجل بناء مجتمع مدني قوي وحر ونشيط وقادر على تحمل مسؤوليته كأداة تقييم للنشاط العمومي في خدمة المواطن والوطن معا، وتُرجِم ذلك بما جاء في دستور 2020 عندما كرس مكانة المجتمع المدني في ظل الحريات العامة بإنشاء مرصد وطني للمجتمع المدني كهيئة دستورية استشارية لأول مرة في دساتير العالم خصوصا بالعالم العربي».
وبناء على كل هذا، ينتظر المجتمع المدني الحقيقي في الجزائر اليوم الكثير في مجال تنمية المجتمع ونشر الوعي، ومواجهة التحديات عكس ما ترمي إليه أطراف مغرضة لا تريد للجزائر الاستقرار والتقدم، وأمامه مسؤولية كبيرة للتصدي لهذه الإشاعات المغرضة التي أصبحت علنية ورسمية من قبل بعض الجهات الإقليمية وحتى الدولية التي يُراد منها زعزعة استقرار الجزائر، يضيف الباحث المتخصص في شؤون الجماعات المحلية الدكتور عبد الرحيم لحرش.
التحديات التي مرّت بها الجزائر خلال ستة عقود من البناء المؤسساتي والتنموي والاقتصادي، أظهرت بالفعل وعيا سياسيا وموثوقية في المجتمع المدني، والقيام بأدوار رئيسية في التحولات العميقة السابقة، في انتظار انخراطه بكل ثقله في مسارات البناء والتنمية والتطوير، ومجابهة كل التحديات التي تواجه الدولة بغية تحقيق التنمية المستدامة المنشودة.