تظهر مؤشرات جادة، أن الاقتصاد الجزائري بصدد تحقيق تغير جذري من حيث الأنموذج والأدوات. ويتوقع أن تبدأ أولى النتائج بالظهور قريبا بعد المكاسب المحققة.
كثيرا ما استعصت الإجابة عن السؤالين الكبيرين: ما هي طبيعة النظام الاقتصادي الجزائري؟ وأي اقتصاد نريد؟. وطالما تأرجحت في سنوات ماضية إجابات الخبراء بين الحديث عن مزيج بين أنماط اقتصادية مختلفة كالرأسمالية، أو اقتصاد السوق أو الاشتراكية الحديثة، لكن الواقع ظل ولعدة سنوات، أن الجزائر تستورد تقريبا كل شيء من الخارج، و98٪ من صادراتها محروقات (بترول وغاز).
غير أنه ومنذ أزيد من سنتين، رفعت السلطات العمومية سقف الطموحات عاليا جدا، وطرحت أنموذجا يشكل النقيض الكلي لما ظل سائدا في الفترات الماضية. فرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، أعلن عن التحول إلى بلد منتج لأغلب ما يستهلك، مع الرفع من الصادرات خارج النفط إلى أقصى درجة ممكنة.
وبغض النظر عن جملة التوصيات المدونة في وثيقة مخطط الإنعاش الاقتصادي، المنبثقة عن منتدى ضخم ترأسه الرئيس تبون يومي 18 و19 أوت 2020، مهدت الدولة الأرضية اللازمة لاحتواء مشروع اقتصادي طموح.
وليس خفيا أن منطلق التحول العميق للاقتصاد الجزائري، نابع من عاملين رئيسيين، هما التحولات العالمية الحاصلة، وتثمين القدرات الوطنية البشرية والمادية وخاصة الطبيعية (المواد الأولية).
فهم واستشراف الجزائر للعلاقات الدولية في وضعها الحالي، لخص في تصريح للوزير الأول أيمن بن عبد الرحمان، الخميس الماضي، خلال إشرافه على تدشين البنك الوطني للبذور، إذ قال: «إن عالم اليوم لا مكان فيه للضعيف».
وألمح أن استغلال القدرات الذاتية بأحسن طريقة وحدها من تحدد توجه أي بلد بين الضعف والقوة، عندما شدد على ضرورة الاستفادة من عشرات الآلاف من الشباب الجزائري المتخرج من المعاهد والجامعات بشهادات علمية، كفيلة بالمساهمة في تحقيق الأمن الغذائي.
في المقابل، يسير مخطط المراجعة الشاملة للأنموذج الاقتصادي الوطني، وفق مراحل مترابطة زمنيا ومتداخلة وظيفيا، فقد كان واضحا أن تأمين السيادة الوطنية، خاصة المرتبطة بصناعة القرار، مهما كان نوعه، شكل حجر الزاوية في برنامج الرئيس تبون.
رئيس الجمهورية، شدد في أكثر من مناسبة، على أن «الجزائر لن تتراجع ولو قيد أنملة أمام كل ما شأنه المساس برمزية السيادة». ورفض بشدة، كل محاولات جرّ الجزائر إلى المديونية الخارجية، حتى عندما وصلت أزمة كورونا إلى أحلك فتراتها.
وصارح الرئيس تبون الجزائريين، بأن ما وراء المديونية «هو تقويض السيادة؛ سيادة القرار الاقتصادي وقرار السياسة الخارجية (دعم قضايا التحرر العادلة).
بعدها، أعلنت السلطات العمومية، أن 2022 التي تصادفت مع الذكرى الستين لاسترجاع الاستقلال الوطنية، سنة تحقيق الاستقلال الاقتصادي. وأقدمت على خطوات غير مسبوقة، على رأسها تجفيف منابع «الاستيراد المرضي».
وعندما حسمت سريعا معركة تضخيم الفواتير التي ناهزت 30٪ من القيمة الإجمالية للواردات، مضت في تطهير السجلات التجارية للمستوردين، لتقرر أخيرا تقليص تغيير واقع أكبر القطاعات المستوردة.
تغيير نمط الاستهلاك
وفي السياق أفاد الوزير الأول، الخميس، بالتوجه نحو تحقيق الأمن الغذائي، لتصبح الجزائر «دولة تأكل مما تنتج وتلبس مما تخيط»، مشيرا إلى أن واردات البلاد من الغذاء تفوق سنويا 10 ملايير دولار، أي ثلث إجمالي الواردات.
والسنة الماضية، انخفضت قيمة الواردات إلى 33.8 مليار دولار، بعدما استقرت لسنوات عند عتبة 60 مليار دولار، وتم تحقيق فائض تجاري بقيمة 1.4 مليار دولار.
الأرقام المحققة السنة الماضية، خالفت توقعات المؤسسات المالية الدولية التي راهنت على واردات بـ50 مليار دولار.
ومن أبرز ما حملته كلمة الوزير الأول، في خرجته الأخيرة، أن الجزائر بصدد تغيير نمطها الاستهلاكي، ليرافق الأنموذج الاقتصادي المأمول، فهي لا تريد الاستمرار في موقعها كرابع «مستورد للقمح اللين في العالم»، بل تعود إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب وتصديره إلى الخارج «كما كانت دائما منذ عهد النوميديين إلى غاية النصف الأول من القرن الماضي».
التخلي التدريجي عن استيراد القمح اللين (المصدر الرئيسي لمادة الفرينة)، لن يوفر مبالغ بالعملة الصعبة للخزينة العمومية فحسب، بل سيكون له آثار جد إيجابية على الصحة العمومية.
وبعدما ارتفع إنتاج الحبوب بـ10٪ هذه السنة، حدد رئيس الجمهورية رفع الإنتاج السنة المقبلة بنحو 60٪، مؤكدا القدرة على تحقيق ذلك.
ومع بعث خطوط التعامل التجاري مع عديد البلدان خاصة الإفريقية، فإن مخطط الإنعاش الاقتصادي، لا يستهدف إنقاذ الاقتصاد الوطني من غيبوبته، وإنما تطوير بنية تقوم على «تنافسية الإنتاج»، بدل «تنافسية المعروض من السلع»، والتموقع خارجيا بصادرات نوعية لمواد أولية ونصف مصنعة، ومنتجات فلاحية.
وبعد تهيئة الأرضية اللازمة من قبل السلطات، يبقى الرهان الرئيسي، مدى سرعة التنفيذ في الميدان، من قبل مختلف الفاعلين، وإذا رفع التحدي يمكن رؤية أولى النتائج، بدءاً من النصف الثاني لسنة 2023، وفق تقديرات المختصين.