يعيش الشعراء أسوأ أيامهم، مع تراجع مقروئية الشعر وتقلّص فرص النشر، مع نفور الناشرين من نشر القصائد خوفا من الكساد، مما اضطر البعض إلى نشر أعداد محدودة وعلى حساب المؤلف. وجعل الكثير منهم يتحوّل إلى الكتابة الروائية أو إلى الصمت الطويل.
في هذا الحوار مع الناقد عبد القادر رابحي، نحاول الاقتراب من أبعاد هذه المسألة الشائكة، من خلال جملة من الأسئلة تحاول تناول الموضوع من مختلف جوانبه.
ورابحي، بالإضافة إلى كتاباته المتعددة في النقد الثقافي، فهو شاعر معروف، من آخر إصداراته «رجل التبن يحرس الحقول الصفراء» الذي صدر مؤخرا عن «منشورات ضمّة».
كان الأمراء قديما يدفعون مالا للشعراء، ثم جاء زمن أصبح الشاعر يدفع للناشر من أجل طبع قصائد قد لا تُقرأ إلا في إطار ضيّق، أين الحقيقة من المبالغة في هذه المفارقة؟
عبد القادر رابحي: هذا أمر واقع تاريخيا وفعليا، وهو دليل على تغيّر واقع الكتابة الشعرية ومعطياتها وكذا تغيّر معطى تلقيها من طرف الجمهور.
نحن نعيش في عصر مختلف عن العصر الذي كان فيه الأمراء والملوك يرمون صرر المال للشعراء لمجرد سماعهم مدحا أو هجاء أو رثاءً ولم يكن ذلك يعد عيبا بالنسبة للشاعر والقراء المتلقين. ذلك زمن آخر كان يحمل رؤية شعرية أخرى ومقاربة إبداعية تنظر للكتابة وللمبدع والمثقف الذي لم يكن غير الشاعر بغير نظرة عصرنا الحالي الذي صار فيه الشعر منفصلا عن الأجناس الأدبية والإبداعية الأخرى التي تحاول محاصرته من كل جانب، بالإضافة لواقع فكري وثقافيّ لم يعد ينظر للشعر بالمقاييس الجمالية والفنية نفسها التي كان عليها الشعر والشاعر في أزمنة سابقة. نحن في عصر الثورة الرقمية وعالم الافتراض والوسائط الاجتماعية التي غيرت المعطيات التي تتعلق بالإبداع عموما وبالكتابة الشعرية على الخصوص. وهي المعطيات التي وجب على الشاعر المعاصر التأقلم معها من خلال استغلال إيجابياته من أجل إيصال شعره إلى القراء أو من بقي منهم في عالم لم يعد فيه ما يخفى وما يُدسّ وما يُستر. لكن ثمة إشكالية كبرى يطرحها العالم الافتراضي والوسائط الاجتماعية، بالنظر إلى الكتاب الورقي وطرائق نشره وجدوى توزيعه، ما دامت التكنولوجيا تتيح له إمكانات الوصول إلى القارئ بطرق أخرى سهلة ومجانيّة. ولعله لهذا السبب يضطر الشاعر لدفع المال لنشر ديوانه بسبب ما أصبح يعترض سوق الكتاب الشعري من صعوبات متعلقة بغياب من يشتري الديوان الورقي. والمشكل أن هذا القارئ نفسه يسارع إلى قراءة الشعر عبر الوسائط الافتراضية التي توفره له مجانا في غالب الأحيان.
لهـذا السبب يضطر الشاعر لدفع المال لنشر ديوانــــه
هل خسر الشعراء حربهم نهائيا؟ وهل أصبحت الرواية «ديوان العصر الجديد»؟
لا أعتقد أن الشعر خسر معركته مع واقع الكتابة الإبداعية. وانتصار الرواية على الشعر فيه نوع من المبالغة التي تصمد أمام حقيقة نشر الشعر في العالم وفي العالم العربي، على الرغم من الصعوبات التي تعترضه. أتصور أن معركة الشعر مع نفسه، مع المستقبل، مع تحديث رؤيته الإبداعية من خلال أمثل اللحظة التاريخية الكفيلة بضمان مسايرة الشعر لعصره. وهذا كان ديدنه في كل وقت وفي سائر الأمصار.
أين الخلل؟ هل في غياب قامات شعرية لا يجود الزمان إلا بالقليل منها، أم في العصر الذي تجاوز القول لصالح فنون أخرى حملتها الثورة الرقمية الجديدة؟
القيم الجمالية التي يسير بها ومن خلالها الإبداع عموما والشعر خاصة، قيم متغيرة بما تحمله رياح العصر ومتغيراته، ولا يمكن أن ترسو هذه القيم على صورة ثابتة ومُتجاوَزَة. ما هو مؤكد أن ربطنا لتقهقر الشعر ولدوره بغياب شعراء كبار يحملون رايته يحمل فكرة خاطئة عن الشعر ومراحل تطوره عبر العصور.
لقد انتهى دور ما سماه النقاد بـ(الشاعر/النبي) الذي يدعو إلى الفضيلة وينشر القيم الكبرى بين الناس وفي مجتمعه ومعاناته مما يتحمله في نضاله من أجل تحقيق كل ذلك. لم يعد ثمة من إمكانية لقبول تصور جماليّ يسير بهذا المسار، نظرا لتطور المعطى التاريخي لدور الشاعر في المجتمع وتطور التصورات الفكرية والجمالية التي صار يصاغ بها الشعر. هذا لا يعنى أنه لن يعد للشاعر ما يعطيه. العكس من ذلك تماما، فالشاعر لا يزال في الصفّ الأول لإنتاج الأفكار الطليعية من خلال بحثه المتواصل المضني عن آفاق حرية جديدة لم يصل إليها من سبقه من الشعراء والمبدعين عموما. وذلك على الرغم مما توفره الثورة الرقمية من طرائق استهلاك قد لا تعير في الوهلة الأولى أهمية إصغاء عميقة للشعر وللشعراء.
انتهـــى دور «الشاعر- النبي» الذي ينشر القيم الكبرى
وهل لظهور قصيدة «النثر» دور في «موت الشعر» عندما اختلطت القصيدة بـ»اللاقصيدة» وأصبح القارئ العادي لا يفرّق بين الشاعر والمدّعي؟
قصيدة النثر وجه مهيمن من وجوه تطور الكتابة الشعرية. وهي دليل قاطع على قدرة الشعر على تخطي المحددات الفنية والجمالية التي تريد أن تأسره في بوتقة زمنية أو مرحلة تاريخية معينة. كما لا يمكن للناقد تحديد وجهة الشعر والتنبؤ بمصير الشعر. فهذا من اختصاص الشاهر لوحده. وقصيدة النثر، بوصفها تشكل مرحبة وعي متقدمة بفكرة ضرورة تغيير الشاعر لأقانيم وجوده الشعري، لا يمكن للشاعر أن ينأسر داخل نظرية جمالية أو مذهب فكريّ أو منهج نقديّ. هذا ليس من دوره ولا من مهمته.
لأن دوره أساسا هو الوعي باللحظة التاريخية وتحويلها بالشعر ومن خلال الشعر. ولذلك، فمعركة الأشكال الشعرية لا تطرح أمامه عائقا إبداعيا أو إشكالا نقديا، لأن ذلك من اختصاص النقاد، لكن صعوبة انتشار قصيد النثر ورفض الذوق السائد لها يرجع أصلا إلى المتلقي وطرائق فهمه لما تحمله قصيدة النثر من مرجعية متصلة بالإبداع الشعري في مراحل تطوره التاريخي وليس بإبداع أدبي آخر. وعدم التفريق بين الشعر واللاشعر راجع إلى صعوبة إدراج إشكالية التطور الشعري عبر المراحل التاريخية ضمن البرامج التعليمية وفي السياقات والأنساق الثقافية الراهنة التي بإمكانها أن تلعب دورا في تجاوز إشكاليات التجنيس بين الشعر واللاشعر.
ولعله لهذا السبب، نجد الخلط الواضح بين قصيدة النثر وما يمكن إدراجه ضمن الخواطر والتداعيات عند العديد ممن كتبوا أو يكتبون ما يعتقدون أنه يندرج ضمن قصيدة النثر. ذلك أن قصيدة النثر لها منظومتها الكتابية التي يجب وعيها بدقة لكي نصل إلى كتابة قصيدة النثر. ولقد كتب النقاد والشعراء الكثير عن هذا الإشكال المتعلق بالخلط بين ما هو نثر وما هو قصيدة نثر. فالعودة لقراءة التأسيسات الفكرية والجمالية لقصيدة النثر ضروري جدا لكي نتجاوز هذا الإشكال.
لا أعتقد أن الشعر خسر معركتــه
وماذا عن اللغة التي أصبح كثير من المحسوبين على الشعر يتفنّنون في تكسيرها؟
للأسف الشديد، هذا أمر واقع كذلك. وقد لا ينجز منه حتى كبار الشعراء وإن بدرجات متفاوتة طبعا. ذلك أن مادة الشتر الوحيدة التي يعتمد عليها الشاعر هي اللغة. واللغة العربية بالذات بحر غير متناهٍ لا شاطئ له، والوعي باللغة بوصفها بيتا للوجود ضرورة وجودية بالنسبة للكاتب عموما وللشاعر على الخصوص. قد تتوفر الموهبة عند الشاعر فلا يوفر لها الشاعر لغتها وقاموسها وفهما وجوديا لدلالات ما تحتاجه القصيدة من أبعاد. وانتشار الخطأ اللغوي والعروضي في النصوص الشعرية، كلاهما دليل على ضعف التكوين وقلة القراءة وصعوبة الفهم باللغة وعن طريق اللغة. ثم أن الجانب السلبي للوسائط الاجتماعية، كونها أتاحت إمكانات تخطيئ كبيرة لغير الموهوبين، سببها الظن بحسن النصوص التي ينشرونها، كما عمقت بعض الجهل بأبجديات التلقي الشعري عند المتلقين الافتراضيين.
راهن البعض مصالحة الشعر مع روح العصر واستخدم طرق إلقاء «رقمية» مبتكرة، هل ستبعث التكنولوجيا القصيدة من رمادها؟
مثلما أشرت إليه في السؤال السابق، هناك خلط كبير في تصورات التلقي الرقمي التي تحتاج إلى زمن طويل لكي تتوضّح وتستقيم على تصور نظري ثابت بسبب علاقة القارئ الجديدة بما تحدثه الثورة الرقمية من هزات عنيفة في عمق تصورات التلقي القديمة.
فيما يتعلق بالشعر خاصة، يبدو الإشكال على درجة كبيرة من الحساسية، نظرا لكون الشعر هو الإبداع الوحيد الذي لا يمكن أن يُقلَّد على عكس الإبداعات الأخرى. وهو في هذه الحالة لا يمكن أن يُسرق كذلك، نظرا لأن العالم الافتراضي عالم كاشف وله ذاكرة فيلة لم تتوفر حتى للحضارات التي نقشت إبداعاتها على الحجر.
وما يحمله الواقع الافتراضي من مستجدات على مستوى طرائق الكتابة والتلقي، أدى إلى اختلاق أساليب جديدة في تشكيل النصوص الافتراضية من خلال كتابتها المباشرة أو كتابتها التشاركية، أو كتابتها التراكمية. وهذه كلها طرائق جديدة في الإلقاء الإبداعي والشعري التي غيّرت من معطيات التلقي في حد ذاته. ولا يمكن أن نتصور أن الشعر لا يستطيع أن يختلق لنفسه أساليب تؤسس لوجود داخل المعطى الافتراضي للثورة الرقمية.
بادر البعض إلى نشر كلاسيكيات الشعر العربي بالصورة والصوت عبر «يوتيوب»، هل من شأن هذا أن يصالح الأذن المعاصرة مع القصيدة والتراث عموما؟
هذا أكيد. هذه الوسائط تلعب دورا ثوريا في توصيل النصوص عبر وسائل السماع المتوفرة. بإمكانك أن تقرأ كتابا صوتيا لم تتسنّ لك قراءته ورقيا خلال رحلة سفر حتى وأنت تسوق سيارتك خلال سفر طويل مثلا.
لنتصور قليلا مقدار الوقت الذي بإمكاننا ربحه بهذه الصورة الجديدة التي تتيحها القراءة الرقمية، سواء كانت بالصوت وحده أو بالصوت والصورة. نحن أمام إمكانات استغلال رهيبة للوقت واختصار للجهد تسهل وصول الأجيال الجديدة إلى كل ما لا يستطيعون قراءته بالطرق التقليدية المكلفة وقتا وجهدا. ومن المؤكد أن رغبة السماع والمشاهدة ستطغى على رغبة القراءة التقليدية، نظرا لما تبشر به ممكنات الانتشار الرهيب لعوالم الافتراض التي أتاحتها الثورة الرقمية.
لقد أصبح من السهل الوصول إلى قصائد المتنبي والتأكد من صحة بيت شعري أو نسبته لصاحبه، أو تصحيح معلومة علمية أو تاريخية بمجرد الضغط على زر في محركات البحث التي تحيلك إلى فكرة أن المعرفة صارت كونية وأنه يجب المشاركة الفاعلة فيها لكي يبقى صوت الذات وبعدها الحضاري حاضرا لقوة ضمن هذه السيمفونية الكونية التي لا يمكنها أن تنتبه إلى الأصوات الخافتة.