للفلاح الجزائري دور بالغ الأهمية في تحقيق أهداف استراتيجية الدولة وخططها الرامية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في الشعب الإستراتيجية الكبرى وضمان الأمن الغذائي للبلاد.
أثبت الفلاح في أكثر من مناسبة، قدرته على رفع التحديات، بإنتاج وفير لمواد زراعية، كانت تستورد في وقت سابق، وتكلف الخزينة أموالا باهظة، لكنه مطالب اليوم بـ “تغيير الذهنيات” واتباع المسار التقني لبلوغ الأهداف الكبرى بتعزيز السيادة الغذائية الوطنية، وتحرير الجزائر من التبعية للأسواق الدولية.
«الشعب”، استطلعت وجهات نظر الفلاحين والمختصين حول خطط الدولة الرامية إلى تحقيق الأمن الغذائي، وقد أجمعوا على ضرورة توجيه العناية اللازمة للفلاحين الصغار ودعم مجال الاستثمار في الصناعات التحويلية وتشجيعها، إضافة إلى تطوير وتعزيز البنى التحتية التي يحتاجها الفلاح المنتج في التخزين والتبريد، زيادة على مكنـنة القطاع والرفع من قدرات السقي الفلاحي.
عناية بالفلاحين الصغار
يرى ممثل اتحاد الفلاحين بولاية معسكر الحاج ميلود بوزريبة، أن الدولة والفلاح يتشاركان “يدا بيد” في مهمة تعزيز الأمن الغذائي للبلاد، عن طريق العمل معا، على مردودية الإنتاج الفلاحي، الذي لن يكون، مثلما قال، “بالتعجيل بتطهير العقار الفلاحي ومنحه للفلاح الحقيقي”، داعيا إلى العناية الكاملة بالفلاحين الصغار باعتبارهم أساس الإنتاج الفلاحي، مع العمل على إدخال المكنـنة ورفع نطاق الأراضي الفلاحية المنتجة، من خلال تعزيز تقنيات السقي الفلاحي المتطورة وما يرتبط بهذا المجال من تسهيلات لحفر الآبار العميقة ورفع حصص السقي الفلاحي، إلى جانب المرافقة العلمية والتقنية للفلاحين من قبل الجامعات والمعاهد الفلاحية.
ثمن المتحدث، قرار مراجعة الدولة لجهاز الدعم الفلاحي وتوجيهه نحو الشعب ذات الأهمية الإستراتيجية في النظام الغذائي، زيادة على تدخلاتها لدعم وتعزيز إجراءات ضبط آليات التخزين والأسعار المرجعية، من أجل التكفل باحتياجات الفلاحين والمربين والمتعاملين في مجال الصناعة الغذائية.
وأكد بوزريبة، أن الزراعة برهنت، بعد الجائحة الصحية العالمية، أنها “كنز لا يقدر بثمن ويحفظ سيادة الدول”، مشيرا أن قطاع الفلاحة يكتسي أهمية بالغة في مخططات الدولة لتحقيق نمو اقتصادي شامل، من خلال تكثيف الإنتاج في الشعب الفلاحية الإستراتيجية وبلورة الرؤى لإرساء السياسة الفلاحية الرامية لتقليص مواطن الضعف وحوكمة القطاع والمناطق الريفية، من خلال تثبيت الفلاح في أرضه وتشجيعه على ممارسة النشاط الفلاحي.
ويعد شح الموارد المائية، ونقص الكمية المخصصة للسقي الفلاحي مشكلا عويصا عند منتجي الزيتون بمحيط سيق والمساحات الزراعية الواقعة خارج المحيط المسقي.
يقول رئيس المجلس المهني لشعبة الزيتون الناصر بن يطو، إن “نقص المياه يحول دون تحقيق تحدي رفع المنتوج كمّا ونوعا”، وهو المشكل نفسه الذي يعاني منه منتجو الحمضيات بمحيط هبرة وطالبوا على لسان رئيس جمعية المنتجين محمد بوخاري، بسلت سد فرقوق لأنه شريان النشاط الفلاحي بالناحية الشمالية لإقليم الولاية.
كما يرى منتجو البصل والبطاطا بولاية معسكر، التي تحتل الريادة الوطنية في هذه المنتجات الإستراتيجية واسعة الاستهلاك، أن تحقيق الاكتفاء الذاتي لن يكون دون المرور بمعالجة المعوقات التي يعاني منها الفلاح، على رأسها غلاء الأسمدة والأدوية التي تدخل في متابعة مسيرة الإنتاج، موضحين أن غلاء الأسمدة الفلاحية في الأسواق الدولية وعدم فعاليتها في غالب الأحيان، يدفعنا إلى تعزيز إنتاجها محليا، خاصة وأن الجزائر تستوردها بمبالغ طائلة.
أما منتجو الكروم، فيسعون إلى استعادة أمجاد هذه الشعبة، التي تراجع إنتاجها وزراعتها في الجزائر، عن طريق دعم وتشجيع الفلاحين على الانخراط في برنامج غراسة جديد، لاسيما في المناطق الجبلية، على حد تصريح رئيس الغرفة الفلاحية زروقات محمد، الذي قال إن “هذا البرنامج سيرتكز على تشجيع إنتاج عنب فالانسيا، وأصناف أخرى من الكروم تكاد تختفي من إقليم الولاية”.
إضافة إلى ذلك، يعتبر الإنتاج الفلاحي الحيواني من بين مقومات تحقيق الاكتفاء الذاتي، بالنظر إلى تنوع الثروة الحيوانية في البلاد، والجهود التي تبذلها الدولة لترقية الإنتاج ورفعه في هذه الشعبة الإستراتيجية، دون أن يكون لذلك أثر ملموس على أسعار اللحوم والألبان بأنواعها، حيث يرى مربي الأبقار محمد شرقي، أن الحال سيظل على حاله متذبذبا بين ظروف ممارسة نشاط تربية الحيوانات وبين أسعار منتجاتها المرتفعة غير الموجودة في متناول جميع المواطنين، بسبب ضعف هذه الشعبة وعجزها عن التطور بسبب مشاكل كثيرة يواجهها المربون، على غرار ندرة الأعلاف وغلائها، وغيرها من المشاكل المسجلة في مسار الإنتاج الحيواني.
وطرح شرقي، مشكل التخصص الفلاحي والمرافقة العلمية للفلاح، مؤكدا أن العلم والمكنـنة أساس تخطي عقدة النقص وعدم القدرة على ترقية الإنتاج، والتخلي عن أساليب النشاط التقليدي، بالإضافة إلى تقرب أجهزة الدولة من الفلاحين الصغار، لتجاوز العقبات والمشاكل التي تعرفها شعبة تربية الحيوانات والشعب الإستراتيجية الأخرى، وقال: “لن يكون ذلك سهلا إلا بإنشاء تعاونيات فلاحية متخصصة وملتزمة بنوع مسار إنتاجها، كما لابد أن يناسب تخصص هذه التعاونيات مقومات النشاط الفلاحي وعوامل نجاحه واحتياجات السوق”.
هاجـس نوعيـة البـذور يلاحق مساعي رفع المردوديـة
إذا كانت المصالح الفلاحية للولايات المنتجة للحبوب، حضرت ورقة طريق لشعبة الحبوب، في موسم الحرث والبذر 2022-2023 تقضي برفع مردودية الإنتاج إلى 30 قنطارا في الهكتار، وفق توجيهات رئيس الجمهورية، بالاستناد على الجانب العلمي والتقني.
في هذا الصدد، أوضح مدير المعهد الوطني للزراعات الواسعة لولاية بلعباس محمد عرجاني، أن الفلاحين غالبا ما يطرحون مشكلة نوعية البذور وعدم مردوديتها، مطمئنا أن وزارة الفلاحة أطلقت برنامج حقول البرهنة لتكثير بذور الحبوب من أصناف عالية الجودة.
وأوصى منتجو الحبوب بالالتزام بالمسار التقني للإنتاج والاستعانة بالخبرة العلمية للمعاهد والمحطات والأقسام الفلاحية، لتنفيذ المسار التقني للإنتاج، الذي يبدأ من التحضير الجيد للتربة وتسميدها العقلاني عبر مراحل فترة نمو النبتة، دون إهمال التسميد العضوي للتربة والحرث العميق الذي يعد ضروريا، بحسبه، للتجذير الجيد ومقاومة الجفاف، فضلا عن احترام الدورات الزراعية لمقاومة الأمراض الفطرية والأعشاب الضارة.
الطرق الزراعية التقليدية غير مجدية
تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الزراعات الإستراتيجية، ورفع مردودية إنتاج الحبوب، في نظر عرجاني، رهان لا يمكن تحقيقه دفعة واحدة وإنما تدريجيا عبر رفع الإنتاج عبر مراحل، مع توفير سلسلة من العوامل المساعدة على ذلك وأهمها إعطاء الكفاءات والمهندسين والتقنيين مكانتهم، عن طريق إشراكهم في تطوير شعبة الحبوب الإستراتيجية وحتى الشعب الأخرى، إضافة إلى إدماج الشباب المهندسين مع الفلاحين، والعمل على إعادة النظر في المعاهد ودعمها، لأنه لا يمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي بالاعتماد على الطرق التقليدية في الزراعة، إذ لابد من توظيف التكنولوجيا والطرق الحديثة في الزراعة والمهارات والمعارف، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال رد الاعتبار لهذه المعاهد وهذا لضمان إنتاج وفير وذي جودة.
ودعا عرجاني إلى تأسيس مجلس أعلى للفلاحة والأمن الغذائي بالجزائر، وتوفير المكنـنة وإدخال مختلف التقنيات الحديثة المستعملة في الميدان الفلاحي والتي تعتمد عليها حاليا الدول المتطورة، والسعي لتسهيل الاستثمارات الفلاحية للشركات الوطنية الكبرى القادرة على تحقيق طفرة نوعية في إنتاج الحبوب، من خلال الرفع من رقعة الاستغلال للمساحات المخصصة لزراعة الحبوب وتسهيل الحصول على العقار الفلاحي، مؤكدا أن ما تقوم به الجزائر من استصلاح مساحات كبيرة سيساهم في توفير الغذاء وتحقيق الاكتفاء بدرجة كبيرة.
ولم يُغفل عرجاني الدور المحوري الذي تقوم به التعاونيات الفلاحية في تنمية الفلاحة وتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، مشيرا إلى أن المستثمرات الصغيرة لا يمكنها أن تتزود بالماكينات الضرورية لتحسين الإنتاجية، نظرا لضيق الأراضي واحتياجها لهذه الآلات لفترات قصيرة، ما يبرز الدور الهام للتعاونيات التي توفر المكنـنة في الوقت المناسب، إضافة إلى خدمات فلاحية متعددة تتماشى وخصوصيات كل منطقة، فضلا عن تدخلاتها في مجال تسويق المنتوجات الفلاحية قصد تجنب الخسائر الفلاحية، معتبرا التعاونيات الفلاحية متعاملا ضروريا في القطاع الفلاحي، على غرار تجارب العديد من بلدان العالم، داعيا الفلاحين إلى الانخراط في التعاونيات الفلاحية، الأمر الذي يوفر لهم تسهيلات عديدة بفعل عامل الأفضلية وقوة التفاوض المعطاة للتعاونيات، مع التسهيلات الكثيرة عند شراء المدخلات الفلاحية وبيع المنتوجات الفلاحية خلاف الفلاح العادي.
ترسيخ ثقافة منح الدعم ما بعد الإنتاج
أكد المختص الاقتصادي عبد القادر لحول، أهمية إرساء تنافسية بين التعاونيات الفلاحية لتطوير قدراتها الإنتاجية، وكذا تحفيزها على منحها امتيازات أكبر في حال بلوغ أهدافها المسطرة سابقا، ومنه ترسيخ ثقافة دعم المخرجات أو ما بعد الإنتاج بدل سياسة دعم المدخلات أو ما قبل الإنتاج التي فشلت، بحسبه، في الفترة السابقة.
وأوصى بالتوجه الفوري نحو استحداث مناطق ومجمعات صناعية خاصة بالصناعات الغذائية التحويلية قريبة من المناطق الفلاحية التي تشهد تميزا في كم ونوع الإنتاج الفلاحي، وتشجيع المستثمرين الشباب الذين ينشطون في بعض الشعب الفلاحية المهمة التي تجني الحكومة منها أموالا طائلة إذا اهتمت بها، مثل شعبة العسل وتربية النحل، شعبة زراعة النباتات الطبية واستخلاص الزيوت النباتية ذات الأسعار المرتفعة دوليا، شعبة تربية المائيات وغيرها من الشعب التي توفر العمالة وزيادة الدخل القومي.
وأوضح الدكتور لحول، أنه لابد من تعميم فكرة إنشاء بنك البذور على كافة المنتجات الفلاحية، مع ضرورة إشراك الجامعة ومخابر البحث للاستفادة من أحدث البحوث والدراسات العلمية والتطبيقية للأساتذة والطلبة من ذوي الاختصاص، مشيرا إلى أن قانون الاستثمار الجديد في الجزائر، يعد الدعامة الأساسية لإرساء قواعد جديدة وسليمة لتطوير الاستثمار المحلي وفتح المجال أكثر أمام المستثمر الأجنبي لتوظيف مختلف قدراته محليا خدمة للاقتصاد الوطني، على غرار جلب رؤوس الأموال الأجنبية والتقنيات الحديثة والخبرات والموارد البشرية على أعلى مستوى في التأهيل وكذا توفير فرص عمل جديدة وخلق تنافسية أكثر مع مؤسسات أخرى بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات.
وأشار إلى أن رهان السلطات العمومية على قطاع الفلاحة كبديل من بين البدائل المتاحة لقطاع المحروقات في الجزائر، هو مشروع واقعي، ولكن يحتاج إلى إستراتيجية وطنية فعالة تسعى بالدرجة الأولى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجال الفلاحي، الأمر الذي تم بالفعل من خلال سنّ القوانين والتشريعات الجديدة لتفعيل عمل التعاونيات الفلاحية والمستثمرات النموذجية، خاصة في بعض الشعب، على غرار القفزة النوعية التي سجلت في إنتاج الحبوب محليا، وكذا سياسة الغرس المكثف للأشجار المثمرة أو ما تسمى بـ “المقاولات الخضراء” التي تهدف إلى حماية البيئة وصناعة قيمة مضافة في الاقتصاد الوطني، بما يعرف بسياسة التحول نحو الاقتصاد الأخضر باستغلال الإمكانات الطبيعية في الجانب الاقتصادي والبيئي، داعيا إلى مواصلة سياسة دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في إطار مختلف الصيغ لدعم نشاطها وتوسيعها، من حيث عدد العمالة وكذا ممارسة أنشطة جديدة، وعرض منتجات أكبر لسد حاجات السوق المحلية.
وأكد الدكتور لحول، أن تحقيق الأمن الغذائي في الجزائر، يعزز قدرتنا على خفض واردات السلع والمنتجات الغذائية، وتقليص فاتورة استيراد الغذاء، واقتصاد مبالغ بالعملة الصعبة، وبالمقابل التوجه نحو تصدير بعض المنتجات الغذائية الأخرى، ما يؤدي إلى الحصول على مداخيل معتبرة من رؤوس الأموال الصعبة ومنه تغذية رصيد الدولة الجزائرية من احتياطات الصرف الأجنبي وتقوية المكانة المالية للدولة.