تملك الجزائر عدّة فرق عريقة في كرة القدم صنعت تاريخ كرة القدم الجزائرية، وساهمت في جعل الجزائر أحد أكبر بلدان القارة السمراء شغفا بالسّاحرة المستديرة، لكن فريق مولودية الجزائر يعد فريقا استثنائيا أسّس في ظروف غير عادية، لمقاومة المستعمر الفرنسي فوق المستطيل الأخضر.
كان الشّعب الجزائري في بداية القرن الماضي يبحث عن إعادة بعث الهوية الجزائرية، وهو ما دفعه لإيجاد فكرة لاكتساح الحركة الجمعوية.
فكرة إنشاء فريق رياضي بدأت تنضج من حقبة الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر، الذي وجد وقتها ثغرة في قانون الأهالي لم يتفطّن لها مشرّعو هذا القانون وهي ممارسة الرياضة، لمحاربة قمع المستدمر الفرنسي الذي كان يتعرّض له الجزائريّون.
هذا هو ملعب حديقة الأمراء الخاص بهم..جملة كانت سببا في ميلاد أول فريق رياضي مكوّن من لاعبين مسلمين، وجاءت بعدما سمع مؤسّس النادي المرحوم عبد الرحمن عوف، هذه الجملة من أحد عساكر المستعمر الفرنسي.
كان عوف متّجها إلى مقهى تلمساني بالقصبة السفلى ليقف على مشهد حزّ في نفسه كثيرا، بعدما لاحظ مجموعة من العساكر الفرنسية التي كانت تقوم بدورية، تسخر من أطفال يلعبون بكرة ورقية ويستمتعون بلعب كرة القدم، لينطق أحدهم ويقول الجملة التي كانت سببا في إنشاء أكبر جمعية رياضية في الجزائر.
الطعنة التي تلقّاها عوف بعد سماع هذه الجملة، جعلته يعرض فكرة تكوين فريق رياضي خاص بالجزائريين على أصدقائه..وبعث بأول رسالة إلى السلطات الفرنسية عند عودته إلى البيت، يطالبهم فيها بإنشاء فريق كرة قدم، ليتم الرد عليه بالرفض بسبب عدم بلوغه سن الرشد.
رفض السّلطات الفرنسية لم يثن من عزيمة عبد الرحمن عوف، الذي راح يطالب من يكبرونه سنا في حي القصبة بكتابة طلب جديد باسم أحدهم.
تواجد “بابا حمود” كما يلقّبه أنصار المولودية في البيت، جعله يجد حيلة من أجل التوجه الى الإدارة، وإقناعهم بتأسيس فريق رياضي مكوّن من الجزائريين المسلمين، بعدما وجد وثائقا خاصة بابن عم والدته المتوفي، ليعيد الكرة ويقدّم طلبا جديدا باسم ابن عم والدته المتوفي، وهنا أجابه رئيس اللجنة المعنية وطالبه بالتقدم إلى المحافظة.
تنقّل عوف إلى الإدارة بالعاصمة، أين طالبته الأخيرة بالدوافع التي جعلته يفكر في إنشاء فريق رياضي مشكل من لاعبين عرب مسلمين، فكانت إجابته “لاحتواء الشباب الذي يقبع طيلة اليوم في المقاهي”، موضّحا له بأنّ الهدف هو ممارسة الرياضة وتلقينهم قواعد الانضباط، ليسهل الأمر على الشباب الجزائري لأداء خدمتهم الوطنية.
صاغ بعدها عوف النظام الأساسي لفريق مولودية الجزائر مكوّن من عشرين مادة، وقدمه لذات اللجنة التي قبلت بفكرة تأسيسه لفريق رياضي، ليصل إلى المرحلة الأصعب وهي جمع الأموال في زمن الحرمان والفقر الذي كان يتخبط فيه الشعب الجزائري، حيث شرع مع رفاقه في جمع الأموال لمحاولة تجسيد فكرته، لكنه وجد صعوبات ولم يتمكّن إلا من جمع 54 فرنكا فرنسيا من 3 تجار كبار، وبقي يبحث عمّن يقف إلى جانبه ويدعمه ماديا لكنه عجز عن ذلك، وفي يوم من الأيام عاد إلى البيت منهكا وقلقا فسألته والدته، هل وجدت المال؟ فأجابها بحسرة “لقد فشلت”، وأكّد لها بأنه سيكتب رسالة يطالب فيها بحل الفريق، لتفتح والده باب الخزانة وتضع فوق المائدة 1500 فرنك، وقالت له “لقد قمت ببيع 3 دويرات “منازل” كانت لتكون إرثك، قمت بهذا لأمكّنك من بلوغ هدفك حتى لا تخجل أمام رفاقك”.
لماذا مولودية الجزائر؟
بعد نيل موافقة السلطات الفرنسية بإنشائه فريقا رياضيا مسلما، وتمكّنه من جمع الأموال لتجسيد ذلك، قرّر عوف تنظيم اجتماع مع أصدقائه لاقتراح اسما للفريق، حيث اقترح أربعة أسماء هي برق العاصمة، والهلال الرياضي لمدينة العاصمة، والنجم الرياضي للعاصمة، وشبيبة العاصمة، إلى غاية الاتفاق على تسمية الفريق بالمولودية العاصمية، بما أن تأسيس العميد بتاريخ 07 أوت 1921 تزامن مع المولد النبوي الشريف، ليكون دلالة أخرى على أن هذا الفريق مسلم وأسّس لمحاربة الاستعمار الفرنسي الغاشم، ومن أجل العمل على استعادة الهوية الوطنية.
في ذات السّياق، تمّ اختيار اللونين الأحمر والأخضر للفريق، وعند مقابلة السلطات الفرنسية قدّم عوف والمؤسسون الألوان على أن اللون الأخضر يرمز للجنة، واللون الأحمر يرمز للنار التي سيلقاها منافسو المولودية في المباريات الرياضية، أما المعنى الحقيقي للألوان التي تمّ اختيارها وإخفاؤها عن السلطات الفرنسية، فكان اللون الأخضر يرمز للإسلام واللون الأحمر كان يمثل حب الوطن والمقاومة.
بتاريخ 15 أكتوبر 1921 خاض فريق مولودية الجزائر في الملعب البلدي لرايس حميدو بالعاصمة، أوّل مواجهة له باللونين الأحمر والأخضر وانهزم بنتيجة ثقيلة، لكن المؤسسين فرحوا كثيرا بجني أولى ثمار العمل الذي دام لأكثر من سنتين لإنشاء الفريق، الذي أصبح مع مرور السنوات مشتلة للاعبين الجزائريين، الذين كانوا يحملون ألوان العديد من النوادي الفرنسية، وأضحى فريقا متكاملا ويجابه كبار الفرق الفرنسية، ليحقّق الصعود سنة 1936 إلى القسم الشرفي ما كان يمثل الدرجة الأولى آنذاك، وكان ذلك بمثابة إنجاز تاريخي للفريق، وكل الشعب الجزائري الذي كان يناصر المولودية بقوة، ويتنقل معها إلى كل الملاعب.
النتائج الباهرة التي حققها فريق مولودية الجزائر، كانت ملهمة لبقية الفرق الجزائرية المسلمة التي سارت على درب العميد، لمجابهة الاستعمار الفرنسي في كل الأقسام، حيث تأسّست فرق عدة على غرار اتحاد البليدة التي كانت تنشط في القسم الشرفي، وكل من (اتحاد العاصمة، نصر حسين داي، رائد القبة، اتحاد الحراش) في فرق الوسط، وغيرها من الفرق الرياضية بغرب وشرق البلاد التي كان هدفها واحدا مع المولودية.
إنشاء فريق مولودية الجزائر ساهم في تأسيس الكشافة الإسلامية الجزائرية سنة 1935، التي أنشأها لاعب مولودية الجزائر فرع كرة القدم محمد بوراس، بالإضافة إلى اتحاد الطلبة الجزائريين الذي كان يقيم اجتماعاته في مقر الفريق، رفقة المنظمة السرية التي كان يترأّسها محمد بلوزداد.
العميد كان سببا في إنشاء أيضا نادي الترقي مؤسّس النهضة الجزائرية الحديثة والفكر التحرري، الذي كان يجتمع بمقره بعدها مسؤولو الفريق واللاعبون لمدة خمس سنوات، وهنا كان يطالبهم الشيخ الطيب العقبي أحد كبار أعلام الجزائر بضرورة الفوز على الفرق الفرنسية، طلب أعطى روحا جديدة للمولودية التي رفعت مستواها مع مرور المواسم، وأضحت تجلب إلى المدرجات جمهورا غفيرا وهو ما بدأ يقلق المستعمر الفرنسي، إلى أن وصلت رسالة إلى عوف من قبل محافظ الشرطة لحسين داي، وعند انتقال “بابا حمود” إلى هناك طالب محافظ الشرطة بضرورة انتداب لاعبين أوروبيين بفريقه، ليجيبه “حاولت في أكثر من مناسبة انتداب لاعبين أوروبيين، لكن لا أحد أراد تقمص ألوان الفريق”.
تفوق لاعبي مولودية الجزائر على اللاعبين الفرنسيين، وتغني الأنصار بروح عميد الأندية الجزائرية، جعل السلطات الفرنسية تبحث عن طريقة لقمع الأنصار واللاعبين معا للقضاء نهائيا على الفريق الرمز للمسلمين، الذي أبان علو كعبه، وأضحى أحد أقوى فرق شمال أفريقيا، بالرغم من الإمكانيات المتواضعة لمؤسّسيه، وعدم حيازته على ملعب مثل بقية الفرق.
وبتاريخ 11 مارس 1956، عرفت مباراة مولودية الجزائر والفريق الرياضي سانت أوجان بملعب بولوغين حاليا أحداثا مؤسفة، حيث تمكّنت المولودية من التعديل في الأنفاس الأخيرة من المواجهة بالرغم من الظلم التحكيمي، وهو ما جعل مجموعة من المناصرين الفرنسيين يدخلون في اشتباكات مع أنصار المولودية، وسرعان ما تحوّلت الاشتباكات بين الشرطة الفرنسية وأنصار المولودية إلى مجزرة حقيقية، حيث استشهد العديد من الأنصار خارج الملعب، إثر المواجهات العنيفة التي اندلعت بمحيط الملعب، والبقية الأخرى داخل مراكز الشرطة تحت آثار التعذيب، مع وقوع عدد معتبر من المصابين، وتحويل عدد هائل آخر إلى السّجون بتهمة الإخلال بالنظام العام، ليقرّر مولود جازولي وابراهيم دريش تجميد نشاط النادي..
محبوبة وملهمة الفنّانين والمغنيّين
المولودية أحببها جميع الفنانين على غرار الحاج مريزق الذي ألّف أغنية تاريخية، تحت عنوان “يا اللّي تحب تعمل السبور، شارك في المولودية”، التي كان الجميع يطالبه بأدائها حتى في الأعراس، كما أنّ أيقونة الفن الشعبي الحاج محمد العنقة والشيخ منور، كانا يقيمان “قعدات الشعبي” لجمع الأموال لفريق المولودية لمساعدته.
في ذات السياق، ساهم العميد في كسب قلوب العديد من الفنانين الآخرين على غرار المرحومين اعمر الزاهي ومحمد الباجي ورويشد، الذين كانوا يتابعون أخبار الفريق باهتمام، ويعربون عن حبهم للفريق في كل مرة.
قبل وبعد تجميد نشاط الفريق، لبّى غالبية لاعبي مولودية الجزائر نداء جبهة التحرير الوطني والتحقوا بصفوفها، بصفتهم أعضاء فاعلين في القيادة ليسقط 103 شهداء لتحيا الجزائر حرّة مستقلة، من أبرزهم مفجّر الثورة ديدوش مراد، زيغود يوسف، ومحمد بوراس، بالإضافة إلى الشاب بوعلام رحال الذي أعدم في سن 19 سنة، بعدما ألقي عليه القبض بعد وضعه لقنبلة في ملعب الفروسية بالخروبة (شرق العاصمة)، وتمّ إعدامه بالمقصلة بعدم تم تزوير شهادة ميلاده، وهي القصة التي أثّرت كثيرا في الفنان المرحوم الشيخ محمد الباجي، الذي كان يقاسم الطفل رحال نفس الزنزانة، أين كتب قصيدته المشهورة التي تعد من أحد روائع الفن الشعبي “يا المقنين الزين”.
المولودية كانت أيضا مهدا للثورة، حيث أنّ مؤسّسيها كانوا عناصر فعّالة في جبهة التحرير الوطني، أين فتح أحد مؤسّسي الفريق إبراهيم دريش بيته العائلي بتاريخ 22 جوان 1954، لمجموعة الـ 22 لإقامة اجتماع تحضيرا لانطلاق الثورة التحريرية، وهو الاجتماع الذي تقرّر فيه اندلاع الثورة، وكان الشهيد ديدوش مراد من قرّر أن يقام الاجتماع بالمرادية في منزل عائلة دريش بحي المدنية، الذي كانت تحيط به 3 ثكنات عسكرية للمستعمر الفرنسي، بحكم أنه ابن الحي ولعب بالمولودية تحت قيادة إبراهيم دريش.
بعد الاستقلال عاد الفريق إلى التنافس، وكان أوّل فريق جزائري يعانق لقبا قاريا، وكان ذلك في عام 1976 عندما قام بمسيرة مميّزة في كأس إفريقيا للأندية البطلة، ويفوز في النهائي على حافيا كوناكري الغيني. ويمكن القول أنه في ذلك الموسم فاز بالثلاثية (بطولة وطنية، كأس الجمهورية وكأس إفريقيا للأندية البطلة)، وبعد اللقب الإفريقي الأول لنادي جزائري، تمكّنت شبيبة القبائل من الفوز باللقب القاري للأندية في 1981 وكذا 1990..كما حقّق وفاق سطيف لقبه القاري الأول في عام 1988، وحقق اللقب الثاني في عام 2014..كما تمكّن المنتخب الوطني من التتويج بلقبين قاريين في 1990 و2019، وتمكن من المشاركة في 4 نسخ لكأس العالم.