لا خلاف حول قوّة الادّخار في حشد الأموال، وسرعته في تجنيد المقدّرات المالية وضخّها في الاقتصاد، فلا انتعاش للنمو دون استثمارات، ولا يمكن امتصاص البطالة وطرح القيمة المضافة، دون استحداث المؤسّسات المنتجة للثروة، إذن..ما هي السّبل المتاحة والميكانيزمات الممكن استحداثها لجعل الادّخار موردا رئيسيا، يساهم في طرح القيمة المضافة؟
خبراء ومختصّون في الشأن المالي والمصرفي، يتّفقون على خطوات وآليات يمكنها أن تنعش السوق المالية بسيولة ضخمة، تدمج فيها الأجور عبر قنوات الادّخار البنكي.. علما أنّه لا يوجد رقم تقريبي يحدّد حجم الادّخار الحالي، العائلي منه خاصة، ولا نسبة الاستثمارات التي قد تستفيد من أموال المدخرات، ويقابله استمرار تداول أموال معتبرة في الدائرة الموازية، لذا جاءت الدعوة إلى ضرورة إعداد دراسة دقيقة حول “الادّخار”.
نبيل جمعة: ضرورة استقطاب 30 بالمائة من النّاتج الإجمالي
دعا نبيل جمعة، خبير اقتصادي، إلى الاستمرار في امتصاص بعض الاختلالات في الاقتصاد النقدي من أجل إقامة الآليات الأساسية لتفعيل الادخار، مشيرا إلى أنّ الوزير الأول ومحافظ بنك الجزائر قطعا شوطا معتبرا في مجال التصحيح، ويعتقد أنّ ما لا يقل عن 80 بالمائة من كتلة أجور الجزائريين لا تفي قدرتهم الشرائية متوسطة وضعيفة، في حين يعد الادخار إحدى الأدوات الأساسية المتاحة لتطوير اقتصاد أي بلد، لكن عندما تكون الأجور منخفضة عقب ارتفاع الأسعار، فهذا سيؤثّر دون شك بالسلب على الادّخار، كما يتطلّب الوضع الحالي التعجيل بإنعاش قيمة الدينار وحمايته من أي انزلاق.
كما اغتنم الفرصة ليشيد بقرار رئيس الجمهورية، القاضي برفع أجور الموظفين والعمال ومعاشات المتقاعدين، على خلفية أنّ الناتج الإجمالي الجزائري والمؤشرات المالية والاقتصادية الحالية للجزائر، توصف بأنها من أفضل المؤشّرات في منطقة البحر المتوسط، وكان قد ترجم قرار رئيس الجمهورية في الرفع من ميزانية التسيير في قانون المالية 2023 بنسبة 23 بالمائة، بهدف الزيادة في الأجور.
وقال جمعة، إنّه من الضّروري إجراء دراسة لرفع الأجور، مع امتصاص أي اختلالات يعاني منها الاقتصاد النقدي، نتيجة ترسّبات تعود إلى العشرية السوداء، وانزلاق عملة الدينار آنذاك، بعد أن خفضت الجزائر من قيمة عملتها بمئات المرات مرة. كما ذكر أنّ تقييم الدينار سابقا، كان إداريا، أما أسس تقييم الدينار حاليا، صارت تعتمد على النمو وأسعار النفط والتنافسية التجارية واحتياطي الصرف، واتّفقت الجزائر مع الشّركاء مثل الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية العالمية، على أسس يتقوّى بها الدينار.
«السّوق الموازية” تحتكر 90 مليار دولار..
في قراءته لأثر الزّيادة المرتقبة في الأجور على تحسين مستويات الادّخار، اعتبر الخبير أنّ أسعار المواد الاستهلاكية بعد الجائحة، تضاعفت بحوالي أربع مرات، لذا يتوقّع أن ينتعش الادّخار بشكل طفيف، غير أنّه استحسن الدعم الذي أقرّه رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، لدعم أسعار المواد الواسعة الاستهلاك التي التهبت عبر الأسواق العالمية، لذا تمّ رصد ما لا يقل عن 18 مليار دولار لدعم القمح والحليب، وغيرها من المواد الواسعة الاستهلاك، وعاد جمعة ليقترح خيار الدعم الموجه، حتى لا يتساوى الفقير والغني في الاستفادة من نفس الدعم.
ويرى جمعة أنّ الادّخار نوعان، الأول اختياري والثاني إجباري، أما بخصوص “الاختياري” فإنّه تأثّر بالأزمة الصحية الأخيرة، مثلما حدث في جميع دول العالم، ويقدّر محدّثنا أنّ كل النظم الاقتصادية بالعالم لم تصمد في وجه الإغلاق القسري زمن الجائحة، ليعصف التضخم بالبنوك وبمختلف المؤسسات المالية. وفي هذا المقام، عاد الخبير ليؤكّد على فعالية ونجاعة المعاملات المالية الإسلامية؛ لأنها الحل الأمثل، أي أشار إلى الاستعانة بالمالية الإسلامية لتطوير الادخار، مع توفر عنصر الثقة لبناء سياسة ادّخار قويّة، وإعادة الاعتبار للعملة.
ووقف جمعة على حجم الأموال المتداولة بالسوق الموازية، وقدّرها بحوالي 90 مليار دولار، ما يعادل 10 آلاف مليار دينار، أي ما يناهز 45 بالمائة من الناتج الإجمالي الخام، في وقت وصف الادخار المتدفق على البنوك بالضعيف، واشترط لانتعاش الادخار، استقطاب 30 بالمائة من الناتج الإجمالي للجزائر.
وبالموازاة مع ذلك، يراهن الخبير نبيل جمعة على الاستثمارات المعتمدة على الادخار، باعتبار أنّ الحكومة تدخّلت لدعم الاستثمارات، واستحسن تدخّل الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمان، ومحافظ بنك الجزائر، لإزالة العديد من الاختلالات الموروثة منذ 20 عاما، وعلى إثر ذلك، أخذ الدينار يتعافى نسبيا وارتفع أمام الدولار والأورو بنسبة 12 بالمائة، بفضل تعديلات قانون المالية للعام المقبل، حيث قدّر سعر برميل النفط في قانون المالية بـ 60 دولارا بدل 45 دولارا في خطوة إيجابية. كما أن رئيس الجمهورية منح المستثمرين الحق في تحويل العملة الصعبة.
وقال نبيل جمعة إنّ الادّخار الإجباري، يمثّل ما تودعه البنوك لدى البنك المركزي، ويصل إلى نسبة 8 بالمائة، كضمانات تقدّم للبنوك، ويستحسن أن تصل هذه النسبة إلى مستوى 10 بالمائة حسب المعايير الدولية، واقترح في الادّخار الاختياري أن تعتمد البنوك على تحفيز الزبائن مثل منحهم حق الاستثمار للمدخر، أو اقتناء سكن أو سيارة.
ناصر حيدر: الطّلب على الصّيرفة الإسلامية تزايد بـ 47 بالمائة
أكّد ناصر حيدر، مدير بنك السلام، أنّ الادّخار يسمح بتجميع الموارد المالية من أصحاب الأموال، سواء كانوا مؤسسات أو أفرادا، أي تجميع فائض السيولة لديهم عبر القطاع المصرفي، لاستخدامها في الدورة الاقتصادية؛ لأنّ دور المصارف يكمن في الوساطة بين أصحاب المدخرات وأصحاب الاحتياجات المالية، سواء كانوا أفرادا لتلبية احتياجاتهم الاستهلاكية، فيما يتعلق بالأجهزة المنزلية أو السيارات وحتى احتياجاتهم السكنية، أو مؤسّسات تستغلّ السّيولة في اقتناء المواد الأولية أو دفع مستحقات مترتبة عليها، تجاه الموظفين أو الموردين أو إدارة الضرائب، أو حتى فيما يتعلق باحتياجاتها الاستثمارية المتعلقة بالمعدات.
واعتبر حيدر أنّ هذه الوساطة المالية، تسمح بتجميع المدخرات بما يسمح بتوظيفها في الدورة الاقتصادية، إذ أنّ الادّخار، في تعريفه العلمي، هو كل ما زاد عن الحاجة الاستهلاكية، وينبغي، عوض اكتنازه خارج القطاع البنكي، أن يستثمر عبر المؤسسات المصرفية في عمليات اقتصادية، وهو ما يدر على أصحاب المدخرات ربحا.
وأوضح حيدر أنّ الفارق بين البنوك الإسلامية والتقليدية أي حسابات الادخار والحسابات لأجل، تستخدم بالبنوك التقليدية، ويتلقى الزبائن مقابلها فوائدا، أما على مستوى البنوك الإسلامية، فتتقاسم الأرباح التي يحصل عليها من عمليات التمويل التي تقوم بها مع أصحاب هذه المدخرات.
وأكّد مدير بنك السلام، أنّ الموارد المالية للدورة الاقتصادية تتوفر عبر مؤسسات خاصة أو مشاريع حكومية، كلّما كان الادّخار عاليا على مستوى الاقتصاد الكلي؛ فالمشاريع الحكومية – يقول محدّثنا – تحتاج إلى ادّخار وطني، على غرار مشاريع إنجاز الهياكل القاعدية التي تحتاج إلى استغلال الادخار الوطني، وتُعبّأ عن طريق الادخار العام وما تصدره الخزينة العمومية، ومع ضرورة استقطاب هذه الموارد لتمويل مشاريع حكومية، أي حتى لا تموّل البنى التحتية من ميزانية التجهيز أو ما يسمى بالموارد الدائمة فقط، بل يمكن تمويلها كذلك عن طريق الاقتراض، مثل القرض السندي الذي أصدرته الخزينة العمومية، قبل أجل النمو الذي صدر منذ أربع سنوات على سبيل المثال، أو عن طريق صكوك الاستثمار التي استعملت صيغا إسلامية لتعبئة جزء من الادخار العام، عن طريق الاستثمار، فيتقاضى أصحاب صكوك الاستثمار عوائد بصيغة شرعية، عن طريق الادّخار بصكوك المشاركة، وما تدر هذه المشاريع من إيرادات.
10 ملايير دينار بالحسابات البنكية للاستثمار
حول حجم الادّخار الذي تستقطبه البنوك حاليا، ويجربه مصرف السلام في الصيرفة الإسلامية، على اعتبار أنّه يعد إحدى أدوات التحفيز على تدفق الادخارات بالبنوك، من خلال صيغ شرعية، يقول حيدر إنّها تقوم على أساس المضاربة الشرعية التي تستند إلى اعتبار أصحاب حسابات المدخرات بالمصرف، مستثمرين وأصحاب أموال، ويقوم البنك باستثمار مدخّراتهم، عن طريق تمويل مشاريع تدر أرباحا، ويتم تقاسم هذه الأرباح مع أصحاب الحسابات البنكية، والصيغة – يواصل محدّثنا – تتمثّل في حسابات ادّخار الأفراد أو حسابات الاستثمار بأجل، مع دوام حضور مسألة المضاربة، وقد حقّقت نجاحا ورواجا كبيرا، كونها صيغة شرعية لا تعتمد على دفع فوائد لأصحاب هذه الحسابات، وإنما أرباحا مقابل مشاركتهم في مخاطر الاستثمار.
وبالنسبة للأرقام، كشف حيدر مدير بنك السلام، أنّ هذه الحسابات تسجّل نموّا منذ السنوات الخمس الماضية أي برقمين، وذكر أنّ نسبة النمو بلغت حوالي 47 بالمائة، بمتوسط 6 ملايير دينار في السنة، وبلغت نسبة النمو في عام 2021 ما يناهز 12 مليار دينار، أي حسابات الدفاتر وكذلك حسابات الاستثمار حققت نسب نمو معتبرا، أما حسابات الاستثمار، فقد نمت في سنة 2022 بحوالي 10 ملايير دينار خلال العشرة الأشهر السابقة، وذكر حيدر أنّ هذا يدل على نجاح هذه الصيغة، وقدرة البنوك الإسلامية على تعبئة الادخار العام وإدماج هذه المدخرات المالية، ضمن المنظومة المصرفية وكذا المنظومة الاقتصادية الشفافة، لذا تمنّى انتشار صيغ التعامل بالمعاملات المالية الإسلامية، معتبرا أنّها ستزيد من قدرة البنوك على استقطاب مثل هذه المدخرات.
الخبير قندوزي: الادّخار العائلي يقضي على التّضخّم
اعتبر ابراهيم قندوزي، خبير اقتصادي، أنّ الادّخار لديه علاقة مباشرة مع المداخيل، خاصة الأجور التي يتقاضاها العمال والموظّفون، على خلفية أنّ أجور العائلات من تبني هذا الادخار، بالإضافة إلى مداخيل أخرى، مثل الربح التجاري، وعلى اعتبار أن هذا الادخار يعد أساس التمويل الاقتصادي والاستثماري، لذا، فإن الاقتصاد الذي ليس لديه ادخار، أكد قندوزي، يحتاج إلى طبع العملة النقدية، محذّرا من هذه الخطوة أو القرار، لأنه يؤدي إلى حدوث تضخم؛ ولهذا، يمكن للادخار أن يمول الاستثمارات التي يحتاج إليها البلد، من دون التعرض لتهديدات التضخم القاسية.
تحفيز آليات الادّخار.. ضرورة
قال الخبير وأستاذ العلوم الاقتصادية، إنّ الادّخار لديه شكل مالي وآخر غير مالي، أمّا بخصوص الشكل المالي، نجد أن العائلات تجمع الأموال أي عبارة عن كمية من الأجور، وكذا مداخيل أخرى تجمع وتخبأ بالمنازل، علما أنّ الادّخار لديه علاقة بالاستهلاك، وكل ما لا يستقطبه الاستهلاك من أموال الأجور عندما يخبأ ويدخر بالمنزل، لا يخدم الاقتصاد لأنّ الادخار المالي الجيد، ينبغي أن يكون على مستوى البنوك والمؤسسات المالية.
وسلّط الخبير قندوزي الضوء على وجود أدوات أخرى تشجع ادّخار العائلات، على غرار الصيرفة الإسلامية، كونها بدون فوائد، أي تمثّل إحدى أشكال الادخار المالي، ويضاف إليه ادخار غير مالي، لديه أهمية كبيرة بالجزائر، ويندرج على صعيد اقتناء العقار والسيارات، ويرى قندوزي أنّ خيار الادّخار يأتي بالنسبة لأغلبية المدخّرين، كخطوة حذرة لمواجهة الأزمات الطارئة، خاصة تلك التي تواجه اقتصاديات البلدان، لذا يتجه البعض الآخر نحو الادخار لتجميع ثروة ولاقتناء شقة أو سيارة، وبالمقابل هناك من يدّخر من أجل ممارسة المضاربة، أي عند تذبذب الأسعار يتدخّل المضارب لاستغلال الظرف والوضع.
حاجة ماسّة لدراسة دقيقة
أما فيما يتعلق بوضعية الادّخار بالجزائر، فأوضح الخبير إبراهيم قندوزي، أنّه مرتبط بـ “بحبوحة الأجور”، وينكمش في حالة تسجيل بطالة، لأنّه في هذه الحالة يحضر التضامن العائلي وتتوجه الأجور للتضامن داخل العائلة، وبالتالي، للاستهلاك، فيتعذّر على صاحب الأجر الادّخار، وفي ظل افتقاد كثيرين إلى آليات الادخار عبر البنوك، يحجمون عن ذلك، أي في هذا الوقت بالذات، البنوك مطالبة بإطلاق آليات تحفّز العائلات والأشخاص على الادخار في المؤسسات المصرفية، أي على البنوك استخدام الآليات المتوفرة لاستقطاب الادخار وتحسين عملية تدفقه، في ظل وجود مواطنين يجنون مداخيل ضخمة من السوق الموازية، ولا يصرّحون بها ولا تقتطع منها الجباية، حيث تكتنز بالبيوت، وهذا حسب تقدير الخبير، ما يخفّض من حجم الادخار، لأنه يجمع خارج البنوك.
ويعتقد قندوزي، أنّ الادّخار ما زال ضعيفا في ظل بروز شبح التضخم، لأنّ المداخيل تتآكل بفعل ارتفاع تكاليف الاستهلاك، وتطرّق الأستاذ قندوزي كذلك إلى دور الادّخار في الاستثمارات، والصّعوبات التي تواجهها المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة في إيجاد التمويلات اللازمة، في ظل وجود قانون استثمار جديد يشجّع على الاستثمار، واغتنم الفرصة ليدعو إلى إجراء دراسة دقيقة حول الادّخار لدعمه، ولتقييم مستواه في الأسواق وكذا كل ما يدخل إلى البنوك في هذا الإطار.