.. وأنت تتجوّل بنهج الأمير عبد القادر في وسط وهران، تشدّك الكتب المتراصّة على رفوف حديدية في ركن صغير من الرصيف، وأخرى تقلها مركبة نفعية كلاسيكية من العلامات التجارية القديمة في صورة جمالية، تضفي رونقا خاصا على المكان، الذي صار يعرف باسم بائع الكتب، حمشاوي موسى.
يقول السيد حمشاوي «إنه والكتاب تجمعه قصة حب ملهمة ليست ككل القصص، دامت لأكثر من 50 سنة، ولا تزال علاقتهما مستمرة، رغم كل التحولات والتحديّات والتطورات المتلاحقة والسريعة لواقعنا المحلي والعالمي».
وأضاف السيد موساوي صاحب الـ77 سنة في لقاء جمعه مع «الشعب» بمكان مزاولته لمهنته» عشقت الكتب والمكاتب، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتي، بل هي مهجتي وكياني ونبض قلبي، لن تخرج منه إلا حين تخرج روحي، مشيرا إلى أنه أفنى شبابه ونشاطه في المطالعة وبيع الكتب المستعملة في شارع مستغانم ونهج ملاح، قبل أن يستقر بنهج الأمير عبد القادر، حيث استطاع أن يجمع آلاف الكتب من الأدباء والأسواق والتجار، وحتى من المنازل.
وتابع بالقول، إن «وهران حتى وقت قريب، كانت عاصمة لتجارة الكتب، تزدحم بالمثقفين ومحبي القراءة الذين يقصدونها من داخل وخارج الوطن، ينهلون من مكاتبها النظامية وأرصفتها وأسواقها التي كانت تعجّ بالكتب والروايات والقصص ودواوين الشعر، وخاصة الأحياء العريقة».
واعتبر السيد حمشاوي موسى أن «التراجع المستمر في استهلاك المادة الثقافية والكتاب على وجه الخصوص، يعكس الوضع الثقافي العام المتدبدب، وتكريس سياسة التهميش للثقافات المجتمعية والقيم السائدة في خضم التحولات السوسيوثقافية التي يقودها العقل الإلكتروني والثروة المعلوماتية».
وفي حديث مع ابنه البكر مهدي، أفاد أن «والده، شديد الحرص على مكتبته وكتبه؛ فهو ينظفها ويصلحها ويرتبها بإحكام، ولا يوقفه برد الشتاء ولا حر الصيف، وذلك رغم تقدّمه في السنّ».
وقال حمشاوي مهدي أنه «يساعد والده في عملية البيع، وكذا البحث واقتناء الكتب الجديدة والمستعملة، ذات القيمة العلمية الكبيرة من داخل وخارج الوطن»، معتبرا تجارة الكتب القديمة، دعامة أساسية للثقافة والمعرفة، بكونها تتميز بخاصية فريدة، تجمع بين الثمن الزهيد والندرة في الوقت نفسه، كما ندّد محدثنا في الوقت ذاته بتردي نسبة المقروئية وحب المطالعة والكتاب، «لدرجة أننا نبيع أحيانا كتابا واحدا في الأسبوع»، يضيف المتحدث.
ويحظى بائع الكتب باحترام كبير من قبل زبائنه، لدرايته الدقيقة بالكتب والبحوث، حسب ما أكده السيد بن بسي ابراهيم، ناشط في المجال الثقافي، والذي اعتبر أن «رائحة الأوراق القديمة في حد ذاتها دواء للحنين إلى الماضي؛ حيث كان الكتاب يحظى بمكانة بالغة الأهمية داخل الأسرة والمجتمع».
كما أثنى على ما وصفه بمكتبة الرصيف لما توفره من كتب مستعملة وجديدة بعناوين في مختلف حقول الفكر والأدب والنقد والدين والتراث والفن.. فضلا عن الكتب الفلسفية والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وكتب عن الفنون وتعليم اللغات وغيرها من المجالات الأخرى.
وختم بن بسي قائلا: «ومهما قيل ويُقال عن تراجع دور الكتاب في الحياة الثقافية، في ظل هيمنة التكنولوجيا، سيظل الكتاب الورقي من الصور المشرقة في التاريخ والتراث الجزائري».