أو حين يرى الكاتب نفسه من وراء المسرح
«وقع الأحذية المتعبة» للكاتب سليم بتقة هو آخر أعماله (2020) صدر عن دار المجدد للطباعة والنشر والتوزيع بسطيف، ويقع في خمسة فصول يعكس جانبا من المشهد السياسي المتمثل الحراك الشعبي المبارك.
المسرح في عمقه الفلسفي هو صورة المجتمع في حقيقته التاريخية والثقافية، هو التاريخ الجسدي واللغوي لتحولات المجتمع، فعن طريق المسرح تختزل الحياة عبر مشاهد زمنية تجعل من الإنسان معلما حيويا قادرا على تحويل الحياة ونقل فعل اليوميات إلى أشواق وأحاسيس تجعلنا نفهم هذا الكون بكيفية مخالفة لما هو عليه .
يظل المسرح مكانا نتعلم فيه ونحاول ان نفهم ونحس باننا معنيون بما يجري، مكانا نلتقي فيبه بالآخر ونكشف اننا ايضا آخرون…
في هذا العمل الفني المتواضع في لغته وبنائه اشتغال فكري وجمالي يؤسس لمشهد مسرحي واقعي استوحاه الكاتب من عمق الحياة وفي جزئياتها الخاصة، وهذا من خلال مشاهد الحراك الشعبي الذي عرفته بلادنا في الآونة الأخيرة، ومن فعل هذا الحراك ارتسمت ملامح غضب الشعب الجزائري الرافض لكل أشكال الظلم والقهر والقمع السياسي بكل أشكاله وألوانه، هي ثورة رسمتها هذه اللغة المسرحية في شكل كتابة جمع فيها المؤلف خيوط النسج المسرحي المستمد من تخييل واقعي، غلبت عليه النبرة المّأساوية ممزوجة بروح الفكاهة إنها الحياة حين تبدو واضحة من وراء الكتابة !!!
ولتكن البداية أولا بالمنظورات، فقد اشتغل الكاتب سليم بتقة على مرجعيات تاريخية سجلها بلغة بسيطة وحوارية عفوية، وهذا عبر خمسة فصول كحل فصل يعالج قضية معينة.
يمكن القول إن بناء العمل المسرحي في هذه النص جاء متنوعا من حيث احتواء الأزمة فهناك حديث عن أزمة السكن، وحديث عن حقيقة السلطة السياسية، وحديث عن القمع السياسي ومصادرة الحريات الفردية وحديث أيضا عن أزمة الثقافة والمثقفين، وثمة حديث أيضا عن الأزمات النفسية الحادة التي عرفها هذه الشعب (الفصل الخامس كمثال).
واعتقد جازما أن هذا الفصل « الخامس «في هذه القطعة المسرحية هو أعمق مشهد درامي، وأبلغ فصل كونه ينم عن حوارية تراجيدية نقلها الكاتب في صورة هزلية، ولكنها في حقيقتها مبكية… محزنة (موقف الصحفية وهي تتحدث لبعض الشباب).
للمسرح أسلوبه وتقنياته المعروفة منذ مئة وخمسين قبل الميلاد( 150 ق م) اي منذ أن وضع فلاسفة المسرح المدارات الكبرى لفن التمثيل والكتابة المسرحية. ولا شك أن أهم ركيزة يبنى عليها المسرح هي مسألة التوثيق التاريخي للأحداث والمشاهد، بمعنى أن يشعر المتفرج الحياة الفعلية والحقيقية التي لم يعشها بعد، ولكنها لابد أن تعاش، أي لا يجب على كاتب النص المسرحي أن يغامر تخييلا فيبعد الحس الواقعي عن مجرى الحياة، وهذه النقطة عالجها بشكل واسع وفلسفي المفكر الألماني «هيجل» حكين تحدث عن فكرة التحول النفسي للمشاهد وهو يرى أشخاصا يتحركون ويتقمصون أدوارا يتمنى هو أن يصل إليها، وهذه غريزة في بني البشر كون الإنسان مجبولا على حب التقليد والمحاكاة.
والنص الذي بين أيدينا نراه جديرا بتمثيل هاته المواصفات الجمالية والفكرية، ولعل الجانب الواضح في هذا العمل يكمن في طبيعة الحوار المتنوع الدرامي، واللغة المشهدية بين دارجة جزائرية وعربية فصحى. فكل هذه المعالم هي إنجازات وصفية ذات دلالات اجتماعية يفهمها المجتمع بصورة واضحة ومعقولة، وهذا ما يجعلنا نفهم جيدا عمق الأزمة الجزائرية من وراء الأسماء والأفكار، فنشعر ونحن نقرأ هذا العمل بارتياح شديد لطبيعة الشخصيات، وطريقة حديثها وخاصة أن هذه الشخصيات جاءت متنوعة من حيث البنية الثقافية و المستوى المعيشي .
حين نقرأ هذا العمل نشعر بروح الالتزام بحدود الأزمة وهذا واضح وجلي من خلال اللغة المسرحية المعتمدة في هذه الكتابة، فالكاتب تقشف في توظيف اللغة، إذ لم يسترسل في التراكيب والمفردات والجمل، وهذا أمر في غاية الدقة والأهمية، فاللغة قليلة، لكن معانيها واسعة الدلالة تحتويها رموز وأفكار تترك القارئ يعيد النظر في كثير من المسائل الاجتماعية والسياسية، ولاشك أن هذا الاشتغال جد ضروري في عملية بناء الفكر المسرحي.
فالتوزيع الجيد للغة يمنح العمل المسرحي خصوصية الكثافة والعمق والإيحاء، لأن المشاهد في مثل هذه المواقف لاتهم الكلمات بقدر ما تهمه الملامح الرمزية للأشياء التي تظهر أمامه أثناء عملية التمثيل: من ديكور وملابس، وإضاءة، وفضاء المسرح، والحركة الجسدية، وكذا الإشارات والصور ومختلف الملامح الجسدية والتلميحات .
ثمة جانب تقني نراه جديرا بالطرح وهو دمج الموقف الذاتي بالموقف الفكري والاجتماعي، بمعنى أننا نستطيع قراءة صورة المؤلف النفسية من خلال بعض الفصول. فهذه المسألة لا بد من مراعاتها في الكتابة المسرحية، فالكاتب جزء من المعادلة المسرحية، فهو أيضا يريد أن يرى نفسه من خلال التمثيل أو من خلال الكتابة، فهو مسكون بروح التحول، معني أيضا بالصراع، ومعني أيضا بالأفكار المطروحة، وعليه لا ينبغي على المؤلف أن ينساق وراء اللغة كحركة متواصلة في عملية الكتابة، بل ينبغي أن ينفصل عن الهواجس الفنية ويفتح مسارا واقعيا يجعله صادقا في طرحه بشكل يجعل القطعة المسرحية قابلة للتمثيل, وربما هذه الميزة أو الصفة هي ما أسماه النقاد «بالصدق الفني» ويمكن لنا أن نستحضر بعض المشاهد الكلامية من مسرحية «وقع الأحذية المتعبة» كما الحال في هذا الموقف:
النادل: أنتم المثقفون شيئا آخر، أنتم لطفاء للغاية ونحن نأخذ حريتنا معكم خلاف بقية الزبائن الآخرين.
بشير: نحن أيضا نجد راحتنا في هذا المقهى كما تلاحظ لم نغيره.. الخدمة جيدة.. مكان نستطيع فيه سماع خفقات القلوب الطيبة.. الشيء الجميل في هذا المقهى أنك تحس بدفء يلفك من أولئك البسطاء، فالنظر إليهم محبب، والاستمتاع الى أحاديثهم مبهجة.. بالأمس كنا نجلس ونتنفس بصعوبة.. نحتسي قهوتنا ورؤوسنا مطأطأة حتى لا نرى. أما الآن فلم نعد نعيش فوق تلك الجزيرة البركانية نتعاطى المسائل المختلفة السياسية وغيرها بحرية تامة.. فلم يعد هناك ما نخشاه على الاقل لحد الساعة…» ( النص:ص54)
ما يمكن قراءته في هذا الحوار هو العفوية اللغوية التي تحدث بها الكاتب عن طريق الشخصيات الراسمة للملمح الصراعين بين صوت الجماهير وصوت النخبة المثقفة. في هذا الحوار تمثيل واقعي بسيط للتكوين النفسي الذي يلف الطبقة المثقفة والتي هي العمود الفقري لهذا الحراك الشعبي.
كما يمكن لنا في هذا المقام استحضار المقطع الآتي
حكيم: المحسوبية والمعريفة في كل مكان صديقنا «سليموفيتش» أستاذ جامعي وخبرة طويلة في الميدان حرم من الاستفادة من سكن وظيفي تصور وظيفي !!! للأسباب التي ذكرناها، بينما يلجأ المستفيدون المزورون إلى تأجيرها، لأن الأغلبية تملك سكنات خاصة.
بشير: الموظف أصبح شحاذا نظيفا يفتش عبثا عن البلاء والشقاء الذي يسميه السعادة
حكيم: (يضحك) هذه إهانة ما سمعنا بها من قبل..
عيسى: ليس لهذه الدرجة سي بشير فأنت وأنا وحكيم موظفون محترمون أعطتنا الوظيفة الاحترام من الآخرين، وهذا في حد ذاته كنز لا يقدر بثمن، فكم من الناس يلقون ما نلقى؟
بشير: احترام ينتهي داخل الزمن الوظيفي، أما خارجه فنحن لا شيء (النص:13/14)
فالكاتب في هذا التعبير اللغوي تجاوز مشهدية الحراك حين راح يتحسس الأزمة من خلال الوجود الفعلي للثقافة والتي ما تزال تشكل أزمة فعلية تنخر جسد هاته الأمة. فالمحتوى الموضوعي لأفكار هذا النص المسرحي يكمن في طريقة الطرح والذي أخضعه الكاتب لوقائع اتسمت بالثراء والتعدد، بحيث نشعر ونحن نقرأ هذه العمل بأننا جزء من هذا التشكيل الاجتماعي والذي أداره المؤلف بطريقة بسيطة وعفوية نتعلم من خلالها كيف تتحول الحياة إلى واقع آخر من خلال عملية الكتابة.
ومن جانب آخر نقرأ حفريات معرفية وتقنية نرى فيها مضمرات وأبعادا جمالية ذات صلة بالكتابة المسرحية لنقول:
ـ ان أهم ما يؤسس المسرح هو قابيلية النص على التحول من الأدبية الى المشهدية، وكما نعلم أنه في ميدان الكتابة الفنية ذات البعد التمثيلي يختلف نص الكتابة جذريا عن نص التمثيل، فحركة التحول في هذا المقام هي التي تؤسس ما يسميه نقاد المسرح بـ»التمسرح»، بمعنى الانتقال من لغة الكتابة إلى لغة التمثيل وهو ما يشيد فعلا حركة الكتابة المسرحية، وما يكوّن الحركة المسرحية، هو هذا الكل المركب الذي يحتكم إلى:
ـ الفضاء المسرحي
ـ جماليات الاشتغال الفني
ـ الأداء التمثيلي
ـ جماليات الكتابة الدرامية
ونظن أن هذه المدارات قد وجدت صداها في هذا العمل المسرحي.
تتحرك مسرحية «وقع الأحذية المتعبة» ضمن مدارات سيميائية اشتغل فيها الكاتب على علامات ذات دلالات اجتماعية عميقة فيها الرمز، وفيها الإشارة، وفيها العلامة، إنها علامات تتنظر تحويلا بطوليا يجعل من لغة الكتابة حركية مشهدية قادرة على ضخ المعنى في روح الحياة وهي تشاهد على الركح.
خلاصة: النص المسرحي «وقع الأحذية المتعبة» للكاتب سليم بتقة نص يجمع بين التراجيديا والكوميديا فيه انفتاح على عوالم البشر وهم يتحركون وفق صراع مرير، الحلم فيه أقوى من الواقع… إنّه الطفل الذي يبكي الرجل الذي سيصيره…
الدكتور عبد الرزاق بن دحمان