جمال درير، واحد من ذوي القدرات الخاصة، شقّ طريقه في مختلف دروب الحياة، مخالفا توقعات المجتمع لمصير شخص ولد مكفوفا، وفضل بناء نفسه والاعتماد على قدراته، والإرادة والعزيمة لتذليل الصعاب والعقبات نحو التألق والنجاح.
بدأ مساره التعليمي، في المدرسة الابتدائية العادية بمعسكر، ثم التحق بمدرسة صغار المكفوفين بولاية وهران، أين تحصل على شهادة التعليم الأساسي، ثم عاد ليتابع تعليمه بالطور الثانوي، بمسقط رأسه، أين نال شرف التموقع في المراتب الأولى ولائيا للفائزين بشهادة البكالوريا، واصل تكوينه الجامعي متمسّكا بشغفه بتخصص الإعلام والاتصال، حتى تحصل على شهادة الدكتوراه في هذا التخصص من جامعة الجزائر 3.
تميز وإبداع
يرى جمال درير، وهو الشاب الثلاثيني الكفيف-المبصر، أن حصوله على درجة الدكتوراه، أمر مميز في الحياة، ومن خلال ذلك يكون قد حقّق أحد طموحاته الخاصة، ويرى أيضا أن العمل البحثي والدراسات العلمية مجال شيق جدا، وغاية يطمح لتقديم المزيد فيها مستقبلا، مصرّ على أن كل تحدي فرصة للنجاح، فالإعاقة وصعاب الحياة بصفة عامة، بالنسبة له هي باب للإبداع والتميز.
يصفه الزملاء في الأسرة الاعلامية لمعسكر، بحكم تواصلهم الدائم بجمال درير المكلف بالإعلام والاتصال، لدى مؤسسة اتصالات الجزائر، بالمعجزة، وغالبا ما يستغربون استباقه في الرد على الأسئلة الصحفية، وكأنه يوحى إليه بقراءة ما يجول في فكر الصحفي الذي يقابله، فيرد مبتسما بملامح بشوشة، تشتت نظر من يقابله إلى عينيه الضريرتين.
منذ التحاقه بالمديرية العملية لاتصالات الجزائر بمعسكر، أصرّ جمال درير ألا يكون موظفا عاديا أو ثانويا، رافضا أن ينظر له بعين العطف والشفقة، فالكل هناك يحترمه ويحسب لنشاطه الدؤوب ألف حساب، بين مكلف بالإعلام وعنصر ناشط جدا في الحملات التحسيسية والترويجية لمنتجات قطاع اتصالات الجزائر، وحتى كخطيب ومنشط للجلسات العلمية والاكاديمية التي تنظمها مؤسسته.
ومن شغفه بمجال الاتصالات، تحوّل جمال درير إلى التأليف، فأصدر كتابا عن الإدارة الإلكترونية سنة 2020، وأشرف على تأليف وتنسيق كتاب جماعي تحت عنوان: “رهانات الاتصال الحديثة في المؤسسة الجزائرية، بين النظرية والتطبيق: دراسات وأبحاث”، بمعية 21 باحثا جامعيا جزائريا، إضافة إلى عدة منشورات علمية له عبر مجلات مختلفة، ومشاركاته في ملتقيات ومؤتمرات وطنية ودولية.
عن مجال بحثه الذي تفوق فيه رغم الإعاقة البصرية، يقول جمال درير، عن موضوع الإدارة الإلكترونية بصفتها منظومة إدارية، بشرية وتقنية متكاملة، أن اتجاه الجزائر بكل مؤسساتها إلى تطبيق الإدارة الإلكترونية أمر حتمي وضروري، ومع أن هناك مبادرات اتخذت في هذا الإطار، والحديث المتزايد في السنوات الأخيرة، عن الرقمنة في الجزائر، غير أن التأمل فيما أنجز يدفعنا للقول إننا بحاجة لإرادة أكبر، واستراتيجية متكاملة لتحقيق هذا التحوّل حسب الدكتور درير.
فعلى الرغم من إطلاق عديد المبادرات لإدراج بعض المعاملات الإلكترونية في الإدارات الجزائرية، – يقول جمال – أن أغلب هذه المبادرات تبقى تفتقد التكامل والتطوير، لذلك فإن أهم عنصر يجب توفره لتحقيق هذا التحوّل، إضافة إلى الإرادة الحقيقية، هو هيئة واحدة تشرف على وضع الاستراتيجيات ومتابعة كل العمليات المتصلة بتطبيق الإدارة الإلكترونية، مع تحيين المنظومة القانونية وتكوين الموظفين في كل المستويات على المعاملات الإلكترونية وتوضيح أهميتها لهم أولا ولكل المواطنين بصفة عامة.
التكنولوجيا والرقمنة تعززان إدماج المكفوفين
ويرى محدثنا الدكتور الكفيف، أن استخدام تكنولوجيات الإعلام والاتصال بصفة عامة، تسهل حياة أفراد المجتمع، ويعتبرها نافذة للمكفوفين، حيث تساعدهم بقوة على الاندماج في الحياة العملية والاجتماعية، لذلك فإنه كلما اتجهنا إلى دعم وتوسيع المعاملات الرقمية في الجزائر، كلما منحنا الفرصة أكثر لفئة المكفوفين للوصول لهذه المعاملات بسهولة وبالاعتماد على أنفسهم ومن دون الحاجة لمساعدة الآخرين، حسب التجربة الشخصية لجمال درير، بمؤسسة اتصالات الجزائر، كمكلف بالاتصال، والتي تعتمد أساسا على استخدام جهاز الحاسوب وتكنولوجيات الإعلام والاتصال، من خلال قارئات الشاشة.
ويوضح المتحدث، أن التكنولوجيا صارت جزءًا من حياته، فالبحث عن المراجع العلمية وتحميلها وقراءتها، وكذلك عملية التحرير والتأليف نفسها، وكتابة الأبحاث والدراسات، كل ذلك يتم باستخدام جهاز الحاسوب وبالاعتماد على قارئات الشاشة، ومع أن التطوّر لم يصل بعد إلى ما نطمح له بخصوص قارئات الشاشة، حيث إن هناك بعض المراجع وخاصة باللغة العربية يتعذّر قراءتها بالاعتماد على قارئات الشاشة، ويتطلب الأمر أحيانا الاستعانة بمساعدة الآخرين، رغم ذلك، يعتبر جمال توفر هذه التكنولوجيات، وسيلة قوية وكبيرة سهلت عليه جزء كبيرا من عمليات البحث العلمي بما فيها التأليف.
في هذا الصدد يقول جمال دير، أن هذا التطور التكنولوجي، سمح له بممارسة عمله بكل بساطة وبشكل آني، فتحرير البيانات الصحفية مثلا، وإعداد التقارير، وتسيير صفحة المديرية (اتصالات الجزائر معسكر)، عبر موقع الفايسبوك، من خلال النشر المنتظم والرد الآني على كل الرسائل والتعليقات التي توجّه للصفحة، لم يكن ليتم بسهولة، بدون الاعتماد على برمجيات قارئات الشاشة، ولذلك يؤكد المتحدث أن الاتجاه نحو الرقمنة في الجزائر، هو فرصة أخرى لتحقيق إدماج أكبر لفئة المكفوفين في الحياة.
وينظر جمال درير إلى إعاقته البصرية، أن الحياة هي ببساطة مجموعة من الفرص والتحديات، بل إن التحديات نفسها هي فرص للنجاح، هذه هي قناعته مع كل التحديات والعراقيل والصعاب التي واجهته، مشيرا أنه يجد فقدان البصر، سببا قويا للاجتهاد، والتكيف مع متطلبات الحياة، حيث يسعى لتحويل إعاقته البصرية إلى عامل للتميز، من خلال العمل والتعلم والبحث، الأمر الذي تحقق بفعل الاصرار والعزيمة، بعد حصوله على درجة الدكتوراه واتجاهه لعالم التأليف.