عرفته زميلا في القسم الوطني، قبل أن يكون مسؤولي المباشر بالقسم الوطني لجريدة “الشعب”، ثم مديرا للتحرير، فرئيسا مديرا عاما لأمّ الجرائد، وبالرغم من المناصب بقي فنيدس بن بلة صحفيا مولعا بالكتابة.. مرحا ينشر البسمة أينما حل، بروحه الطيبة.
بقي يتقاسم معنا نفس الطاولة الكبيرة التي تتوسّط قاعة التحرير، بمبنى شارع الشهداء بأعلى العاصمة، هادئ.. قليل الكلام، لكن الابتسامة دائما تعلو محياه، ولديه تحية خاصة يلقيها دائما بلكنة الشرق الجزائري، “صباح الخير عليكم” بتشديد اللاّم وفتح الكاف.
طالما استفسرت عن سرّ تعلقه وحبه الكبير لمهنته، للقلم والورق، وتحرير أخبار وريبورتاجات في السياسة والاقتصاد يوميا وحتى في الرياضة، دون كلل أو ملل، والقيام بتغطيتها الميدانية، وهو في ذلك العمر، فقد كان يبدو لي أنّه أجدر بمنصب مسؤولية، بعد مسيرة طويلة من العمل الميداني.
حتى عندما قلّد مسؤولية إدارة القسم الوطني بالجريدة، لم يتخل عن تغطية بعض نشاطات القطاعات التي كان متخصّصا فيها، خاصة الاقتصادية منها، فقد كان العمل بالنسبة له ليس عبادة فقط، بل حياة وترياق وهواء ينعش روحه بالرغم من تعب العمل الميداني، والمكتبي في نفس الوقت.
أمّا علاقته مع الزملاء فلم تتغيّر بقيت أساسها الاحترام والتقدير للجميع، بل حرص أكثر على تعميقها، فهو يدرك جيدا ضغوطات العمل اليومي، لأنّه ابن الميدان وصحفي محترف، لا يبخل بالنصح والإرشاد والمتابعة والمرافقة، قبل توزيع المهمّات اليومية أو بعد تسليم المادة الإعلامية، يتابع كل صغيرة وكبيرة، ويضع الصحفي في جو من الراحة، ليبدع أكثر في عمله.
بن بلة الصّحفي والمسؤول النّادر، الذي تجده يطلب رأي زميل له أقل منه تجربة، أو عمرا، في مقال كتبه، دون “عقدة نقص” بل تواضعا منه، فكما يقول “يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر”، وهي فرصة كذلك لكسر حواجز الخوف، خاصة عند الصحفيين من الجيل الجديد، ورسالة منه على أنّ الصحافة الميدان الذي يبقى يتعلم فيه الانسان مهما بلغ من عمر، أو من المستوى.
عرفت بن بلة الإنسان والمسؤول أكثر عندما أسندت إلي مهمّة رئاسة القسم الوطني، وطيلة خمس سنوات، بقيت على رأس هذا القسم، وجدت فيه الأخ والزميل والمسؤول الداعم والمساند، وطالما شجّعني على إكمال المسيرة في تقلّد المسؤولية عندما كنت أعلن استسلامي، بسبب ضغوطات العمل ومشاكل مهنية كانت تحدث بين الفينة والأخرى، ويقول لي “أنا هنا سأساعدك” “معا سنتجاوز كل الضّغوطات”، “الصّحافة عمل جماعي وليس فرديا”، أمّا إذا كانت البلاد على مواعيد مع الأحداث السياسية أو الوطنية الكبرى، فيومها لا ينام رفقة الفريق المناوب في الفترة المسائية التي تستمر إلى ساعة متقدّمة من الليل، ويبقى ساهرا يمد العون لهذا وذاك، ويتنقّل بين مكتبه والقسم التقني حيث يتم تركيب الجريدة لإتمام المهمة بنجاح، حتى وإن اضطره الأمر لقضاء كل الوقت في مكتب التحرير، فصدور الجريدة بالحدث وبعناوين بارزة وجميلة، يسعده كثيرا أما إذا تلقى اتصالات شكر عبر هاتف مكتب التحرير أو هاتفه النقال، فتلك سعادة مضاعفة، لا يخفيها في الاجتماع اليومي لمسؤولي أقسام التحرير، وينقلها بنفسه للصحافيين، لتشجيعهم على التميز والاستمرارية.
يجحد من ينكر فضل فنيدس بن بلة، سواء عندما كان صحفيا أو مسؤولا على مديرية التحرير، أو مسيّرا للمؤسسة، أخلاقه العالية وطيبته اللاّمتناهية، جعلته مثل الماء المنهمر كلّما غرف منه، إلاّ وازداد تدفّقا وعطاءً، ولا يرتاح إلاّ بعد أن يروي ضمأ العطشى، فتجده يناوب مكان هذا في عطلة الأسبوع، ويخلف ذاك في أيام العيد والعطلة السنوية، ويتولى القيام بمهمّة مسؤول ما إذا تعذّر عليه الحضور للجريدة، ويقوم بكل تلك المهمّات وهو هادئ ومبتسم، لا يبدي انزعاجا أو تذمّرا…فسعادته كانت تقديم الدّعم والمساعدة ولو على حساب راحته وعائلته…رحمك الله أيّها الصّادق الوفي، وجعل مقامك في عليّين وألهم ذويك الصّبر والسّلوان.