“الطيّبون يرحلون باكرا”.. مقولة نردّدها كلّما غادرنا من خبِرنا صفاءه ودماثة خلقه..فنيدس بن بلة أحد هؤلاء..رحل في هدوء، وهو الهادئ دائما، لم يترك لنا فرصة لنودّعه، لنخبره كم كان عزيزا علينا، وهو الذي طالما أخبرنا كم كنّا أعزّاء عليه..
فنيدس بن بلة زميل، وصديق، وأخ، عرفته منذ ما يناهز العقدين، حين التحاقي بجريدة “الشعب” وأنا لم أتجاوز حينها الثانية والعشرين سنة، ورغم فارق السن، والخبرة، والتجربة، بل والرؤى أحيانا، إلاّ أنّه لم يجعلني أشعر بهذه الفوارق، لم يكن يهمه سنّ هذا أو شكل ذاك، كان بشوشا مع الجميع، وواصل على ديدنه حتى آخر رمق له..
أشهد، بل يشهد جميع من عرف بن بلة، أنّه نذر وقته، وجهده، وفكره، وقلمه للصّحافة، هذه المهنة النّبيلة التي أحبّها الفقيد، فأحبّته وكشفت له أسرارها..
لم يكن بن بلة “يتكبّر” على أي عمل، ما دام في صالح الجريدة وقرّائها، كان قلمه سيّالا، وكان فخورا بما يكتب، متقبّلا للنّقد، باحثا عنه..كان دائما ما يسألني: “هل قرأت مقالي؟” أو “ما رأيك في عمود اليوم؟ هل وصلت الفكرة كما ينبغي؟”.. ومن يرَ سعادة كاتب برؤية نصوصه تُقرأ، يدركْ مدى شغف هذا الكاتب بما يكتب، بل وبفعل الكتابة في حدّ ذاته..
هي إذن مسألة شغف، وهو ما ميّز بن بلة عن كثيرين، وهو أيضا ما يميّز هذه المهنة، على متاعبها، عن باقي المهن والأعمال.. أذكر، لما عملت بإحدى المؤسسات الحكومية لفترة معينة، كيف كان فنيدس بن بلة يرافقنا إلى مختلف الولايات، وهنالك، رأيت كيف كان دأبُ الرجل في الميدان: قليل التذمر، سريع التأقلم، حسن المعشر، حاضر النكتة، نقي السريرة، هادئا رصينا، يصغي أكثر ممّا يتكلّم، يجمع بين الاجتراء والحياء، وإلى جانب كل ما سبق، كان أوّل من ينهي تغطيته، وأول من يرسلها، وكانت من أجود التغطيات المنجزة حول الحدث، حتى لا نقول أجودها وأحسنها، كتابة وصياغة وإلماما بالموضوع وسياقاته.
لا أزعم أنّنا لم نكن نتجادل في العمل، ونختلف في الرؤى، وقد تتعالى الأصوات وتجلجل الكلمات ملئ الحناجر، ولكننا نعود فيما بعد وكأن شيئا لم يكن، واحتراما له وتوقيرا، أسأله إن كان ما يزال في نفسه شيء، فيجيب: “ما حصل جزء من عملنا، وهو أمر طبيعي بل وصحّي، ولا يمكن له أن يؤثر على علاقتنا الشخصية..قد نتعاتب في العمل، ثم نخرج لنرتشف القهوة معا”..ألم أقل إنّه كان طيّب القلب، حسن المعشر؟
عاش “بن بلة” وطنيا حتى النّخاع، وهو الذي حمل اسم أول رئيس للجزائر المستقلة، وكانت تعلو وجهه ابتسامة حين ندعوه “الرايس”، وشاءت الأقدار أن يكون “رئيسا” على الجريدة قُبيل تقاعده..لقد كانت “الشعب” وعمالها، بمثابة العائلة له، وكان هذا أساس تعامله معنا، وتعاملنا معه..لذلك أحببناه، ولذلك نبكيه اليوم..
الوداع أيّها الطيب..بل لنقل إلى اللّقاء، في جنة الخلد إن شاء الله..