كانت السّاعة تشير إلى السّادسة صباحا من السادس من شهر أوت عندما تحرّك بنا القطار من مدينة شتوتغارت بألمانيا إلى مدينة زوريخ بسويسرا في رحلةٍ ستستغرق ستة ساعات حتّى نصل إلى عاصمة الألب غرونوبل بفرنسا.
كان كلّ شيء حولي في هذا الصّباح موحشًا، وشاحبًا وكئيبًا، فالجوّ في شتوتغارت مازال باردًا، والصّبح لم يُسفر عن محياه بعد، وندى الفجرُ ما زال يغطّي كلّ حيّ وجامد، قبل أن يطلع النّهار وتسطع الشّمس فتُرسل أشعّتها الدّافئة على الوجود.
من شتوتغارت عاصمة شوابيا
مع ذلك، فإنّه يبقى يومًا بهيجًا وجميلا ما دُمت سأغيّر فيه بعضًا من الرّوتين والمَلل والضّيق الّذي أصابني منذ أن حلّت بنا هذه الجائحة. أمّا وقد استجابت الحكومة الألمانيّة لدعوة الأكاديمية العلمية في مدينة «هالا» لها بوجوب مراجعة قيود الحجر بعد أكثر من شهر من فرضها، وقرّرت البدء في التّخفيف من إجراءات محاصرة مرض كورونا، ورفع الحظر على السّفر داخل دول الاتّحاد الأوروبي، فقد آن لي أنا أيضًا أن أفكّر في سفرٍ عسى أن تجلو عن نفسي غشاوة الكآبة، وأميط عنها صداة الهموم. وأحرّرها من أثقال العيش وأغلال الحياة التي حبست فيها نفسي في هذه البلاد، وأعوّض حرارة الشَّوق والحنين الى أهاليَّ، وأخفّف من مرارة الغربة خارج وطني.
كنت مرعوبا، أتوجّس خِيفةً وحذرًا من كلّ من آدميّ يمرّ بجانبي، ويُساورني الشّك في كلّ من أراه يمشي في اتجاهي، وأحذر من كلّ غريبٍ يقربني، وتهتزّ نفسي وجلاً من كلّ عطسة أو سُعالٍ ولو كانا خفيفين، فالخطر لا يزال يحوّم في كلّ مكان، ولازالت آثار الصدمة الأولى باقية في نفسي، لقد غيّر هذا الوباء الغريب الكثير من الأشياء في حياتنا، وغيّر الكثير من سلوكاتنا ومن علاقاتنا مع النّاس، كما غيّر أحاسيسنا ومشاعرنا اتجاههم.
كنّا من قبل إذا دخلنا مكانا خاليا من النّاس نستوحشه ولا نرغب البقاء فيه إلاّ اضطرارً، وكنّا نحسّ بالأُنس إذا دخل علينا إنسان ولو كان غريبا أو أجنبيّا. أمّا اليوم فإنّنا صرنا لا نُّحسّ بالأمان إلاّ مع أنفسنا، ونحسُّ بالرّهبة والذّعر من أقرب أقربائنا.
لم يكن القطار في تلك السّاعة وفي ذلك اليوم آهلاً بالمسافرين، ومع ذلك فقد بقيت متوتّرا بعض الشيء، ليس المرض وحده هو من سّبب لي هذا التّوتّر، ولكنّه إحساس غريب تملّكني تمازج فيه التّردّد والحنين، وحبّ الاستطلاع وذكريات حزينة أكتمها عشتها في بلاد السّبعة جبال، فقد مضى عليّ اليوم أكثر من خمس سنوات لم أستقلّ فيها القطار من مدينة شتوتغارت إلى مدينة زوريخ، ومن زوريخ إلى باقي سويسرا.
حاولتُ أن أبدوَ رابط الجأش، متمالك النّفس، فلا ينتبه إليَّ أولئك النّفر القليلون الّذين استقلّوا معي القطار هذا الصّباح، وجلس كلّ واحدٍ منهم في زواية من زواياه بعيدًا عن الآخرين بضعة أمتار، وعلى وجهه كمامة يمنع بها الرّذاذ الّذي يمكن أن ينبعث مع شهيقه أو سُعاله أو عُطاسه فيؤذي الآخرين.
1 ــ في ألمانيا الوضع دائما متحكّم فيه
أغمضت عينيَّ محاولا أن أجد غفوة أو نومة أستعين بها على وعثاء السّفر وبُعده، فلم أستطِع أخرجت كتابًا وقلّبت بعض صفحاته فلم يُجدِ الأمر معي، فما الفائدة من تصفّح كتابٍ اذا غاب عنك التّركيز فلم تَعِ شيئًا ممّا تقرأه. طويت الكتاب وأخرجت هاتفي النّقال ورُحت أقرأ عناوين الصّحف الألمانيّة لهذا الصّباح.
ــ مسيرة السّبت الرّابع من أوت ببرلين: 24 ألف مشارك من دون كمّامات ومتلاحمين، الكتف للكتف، ولا مسافة آمان بينهم. كلّهم يُطالبون بصوتٍ واحد ارفعوا إجراءات الحجر الصّحي عنّا فقد مللنا! نريد أن نعود إلى حياتنا الطّبيعيّة.
عاد بي هذا العنوان إلى الأيّام الأولى لظهور الجائحة في ألمانيا، فرغم أنَّ أرقام الإصابات التي كنّا نسمع عنها كانت مُرعبة، إلاّ أنّ الهيئات الطّبيّة والصّحية كانت تبعث برسائل الاطمئنان أنّ الوضع مازال متحكّمًا فيه:
لقد وصل عدد الحالات المؤكّد إصابتها بفيروس كوفيد 19 في ألمانيا في اليوم 8 من أبريل إلى حوالي 108 ألف حالة وبلغ عدد المتوفين 2016. ومع ذلك لا زالت السّلطات تصرّح أن الوضع إلى حدّ السّاعة متحكّم فيه، وأنّ معدّل الوفيات بسبب الفيروس لا يتجاوز نسبة 2 %. وهو معدّل ضئيل جدّا اذا ما قورن بالدّول الأكثر تضررا مثل ايطاليا واسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، ويرجع الخبراء ضعف هذه النسبة إلى:
1 ــ تعامل السلطات الألمانية بجدّية مع المرض عند بداية تفشيه وأخذ الاحتياطات اللاّزمة لمكافحته، فمنذ الأيام الأولى لظهوره في مدينة وُوهان بالصين أمرت وزارة الصّحة الألمانية بإجراء فحوصات الكشف عن المرض على العائدين من الصّين، وإلزام من أصابته العدوى بالحجر الصّحي، والبحث عن كلّ من كان له بهم أي احتكاك وفحصهم.
ومع هذا فقد تفشى المرض بصورة سريعة ومروّعة وفي بعض المناطق بصورة غريبة مثل ما حدث في محلّة هاينس برغ على حدود هولندا، فإلى اليوم لا يُعرف كيف دخل الفيروس إلى هذه المَحِلِّة الصغيرة، وكلّ ما يعرف أنّ الفيروس انتشر بعد إحدى الحفلات، لم يشارك فيها إلاّ سكّان هذه القرية.
لم تثق السّلطات الألمانية يومها في المعلومات والتقارير التي كانت تأتي عن الفيروس من الصّين، وقامت بفتح مكتب في «هاينس برغ» لتتبّع المرض ومعرفة طبيعته وطريقة انتشاره وبالفعل فبعد شهر من الدراسات وفحص المرضى، تأكّد أنّ الكثير من المعلومات التي كنّا نتداولها عن المرض وكيفية انتشاره كانت معلومات خاطئة.
2 ــ الفيروس أصاب إلى حد الآن 80 % من الفئات العمرية ما بين 0 و60 سنة. ما يعني أن الفيروس لازال بعيدا عن الفئة العمرية التي تجاوزت 70 سنة، وهي الفئة التي يمكن أن يفتك بها كثيرا.
وبالنّظر إلى خريطة توزّع المرض نجده أكثر انتشارا في المناطق التي تمثّل مركز الاقتصاد الألماني، والتي بها أكثر قوّة عاملة ونشيطة وشابّة وهي مقاطعة بافاريا (أكثر من 28 ألف حالة) ثمّ مقاطعة نورد فاست فاليا (23 ألف حالة)، ومقاطعة بادن فيرتمبرغ (22 ألف حالة)، ومدينة هامبورغ. أمّا باقي ألمانيا وخاصة ما كان يسمى ألمانيا الشرقية والتي بها أكثر من 20 % من الفئات العمرية التي تجاوزت 70 سنة، فإنّ نسبة الإصابات بها لا زالت ضعيفة.
ما تخشاه السلطات الألمانية وتعمل على الحيلولة دونه هو أن يصل الوباء الى هذه الفئات العمرية، فآخر الإحصائيّات تشير إلى أنّ 17,88 مليون من المجتمع الألماني تجاوزت سن 65، أي ما يُعادل نسبة 21 %.
3 ــ المستشفيات الألمانية تحوي على أكثر من 28 ألف سرير للإنعاش، مجهّز بأحدث أجهزة التّنفّس الاصطناعي وبالإمكان في حالة الضّرورة القصوى رفعها الى 40 ألف سرير.
ورغم أنّ الوضع كان متحكّمًا فيه إلاّ أنَّ الحكومة الألمانيّة بقيت متردّدة في رفع قيود الحجر وأمام تردّدها ودعوة السّياسيّين الى عدم التّسرّع في مثل هذه الظّروف. وجّهت الأكاديميّة الوطنيّة العلميّة في ألمانيا ليوبولدينا (نسبة إلى لوبولد الأوّل قيصر هابسبورغ الّذي أسّس الأكاديمية سنة 1652م وجعل مقرّها مدينة هَالَه الألمانية) رسالة الى الحكومة الألمانيّة دعتها فيها إلى البدء في التخفيف من إجراءات الحجر على المواطنين. وممّا جاء في رسالة اللّجنة المكوّنة من 30 باحثًا وعالمًا، بالإضافة إلى علماء في البيولوجيا وأطباء وعلماء نفس وعلماء اجتماع واقتصاديّين:
1 ــ العودة التدريجية إلى المدارس الابتدائية، مع إبقاء دور الحضانة ورياض الأطفال مغلقة.
2 ــ السّماح للمواطنين بالخروج مع تحمّل كلّ فرد لمسؤوليته، وأن تقوم المؤسسات الحكومية بتوضيح طرق الوقاية من العدوى وحماية المجموعات الأكثر عرضة لخطر الإصابة بالمرض.
3 ــ الفتح التدريجي للمحلات التجارية والمقاهي والمطاعم.
4 ــ السفر والتنقل في وسائل النقل العمومية بشرط وضع الكمامات والأقنعة.
5 ــ تعميم فحوصات الكشف عن المرض على الجميع، وليس على من ظهرت عليهم أعراض المرض أو من احتكّ بهم كما هو معمول به الآن.
ورغم الضّجة التي أثارتها هذه الرّسالة، إلاّ أنّ الهيئات الحكوميّة تعاملت معها بايجابية.
في الأيّام الأولى من شهر أفريل أعلنت شركة «بيون تيك» الألمانية لصاحبها من أصول تركيّة شاهين أوغور أنّها تقدّمت إلى معهد باول اهرليش بطلب البدء في إجراء الدّراسات السّريريّة ــ المرحلتان الأولى والثّانية ــ فأحيت الأمل في النّفوس أنّ لكلّ داء دواء، وأنَّ اللّه سيرفع العناء والبلاء عن خلقه ان هم اجتهدوا وفق سننه وبعيدًا عن كلّ شعوذة أو خرافة.
2 ــ العقل الألماني اللّغز
إنّ الخبر الّذي أعلنت عنه شركة بيونتيك، والّذي أحيا الأمل في النّفوس جعلني أتساءل لماذا تنجح ألمانيا في تجاوز الأزمات والكوارث في كلّ مرّة بينما يعجز باقي العالم؟
1 ــ فعلى إثر خسارتها للحرب العالميّة الأولى، وبعد الأزمة الماليّة التي عرفها العالم في يوم 29 من أكتوبر 1929م، والتي تسبّبت في نتائج كارثيّة للاقتصاد الألماني حتّى أنّ البطالة بلغت فيها نسبة 30 %. غير أنّه بحلول سنة 1939م عادت ألمانيا إلى السّاحة الدّوليّة كأكبر قوّة اقتصادية وعسكريّة وتراجعت البطالة فيها إلى حدود 0 %.
2 ــ وكذلك بعد الحرب العالميّة الثّانية 1945م، والتي خسرتها ألمانيا أمام الحلفاء ودمّرت فيها البلاد تدميرًا شبه كامل، وفكّكت جلّ المصانع الألمانية،واستولى الأمريكان والرّوس على جميع براءات الاختراع الألماني التي كانت تُعدّ بالآلاف، لكن في عام 1948 تقرّر تعويض مارك الرّايخ الألماني بالمارك الألماني الجديد، واعتمد نظام اقتصاد السّوق الاجتماعي حتَّى أنَّه ما أن وصلت سنة 1958م حتّى صارت ألمانيا التي خرجت من تحت الرّكام أكبر قوّة اقتصادية عالمية وبلغت نسبة البطالة فيها سنة 1960م 0,7%، ممّا تطلّب استجلاب اليد العاملة الأجنبيّة وهذا ما يُسمّيه الانجليز «المعجزة الاقتصاديّة الألمانيّة».
3 ــ إنّ الأزمة الماليّة لسنة 2007 و2008م والتي انفجرت سنة في سبتمبر 2008م، والتي تعتبر الأسوأ بعد أزمة الكساد لسنة 1929 ودخول الاقتصاد العالمي في شلل شبه تامّ، وعلى اثر خطّة الإنقاذ التي اتبعتها الحكومة الألمانيّة لم تمضي شهور على الأزمة حتّى عاد الاقتصاد الألماني الى الانتعاش، إن لم نقل أنّه استفاد من هذه الأزمة في تقويّة مؤسّساته الاقتصاديّة، وزيادة نسبة صادرته الخارجية بينما بقي الكثير من الدّول الصّناعية الغربيّة يُعاني من آثار هذه الأزمة إلى اليوم.
4 ــ وبسبب وباء كورونا انكمش الاقتصاد العالمي وأعلنت الكثير من المؤسّسات إفلاسها وازدادت نسب البطالة، واحتار العالم في مواجهة الوباء وكان لذلك تبعات على الاقتصاد العالمي، إلاّ أنّ الاقتصاد الألماني يبدو أنه لم يعد يتأثّر بالوباء بعد امتصاصه للصّدمة الأولى، كما أنّ جميع المؤشّرات توحي بأنّ ألمانيا صارت بمنأى عن خطر الوباء بعكس بعض الدّوّل الأوربيّة مثل فرنسا واسبانيا وبريطانيا. وأنّ الحياة بدأت تعود تدريجيا إلى طبيعتها وأنّ الاقتصاد بدأ في التّعافي، كلّ هذا نتيجة الخطّة التي اعتمدتها ألمانيا في الأيّام الأولى لبداية انتشار المرض.
في سنوات الخمسينات حاولت اندونيسيا أن تُقلِّد النّموذج الاقتصادي الألماني، فاستدعت نفس شخص الدكتور شاخت الّذي أعاد تنظيم الاقتصاد الألماني في ثلاثينيّات القرن الماضي وأظهر نجاحات باهرة، وأعادت نفس الخُطّة التي اتّبعها في ألمانيا، لكنّ التجربة فشلت في أندونيسيا فشلاً ذريعًا، رغم أنّ الظّروف التي كانت عليها اندونيسيا أفضل بكثير من الظروف التي كانت عليها ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثّانية.
وقد أرجع مالك بن نبي – رحمه اللّه – سبب الفشل في اندونيسيا والنجاح في ألمانيا إلى ما أسماه «المعادلة الاجتماعيّة»، والتي يعزوها إلى الفروق الثّقافية بين الإنسان الألماني والإنسان الأندونيسي، حيث تقوم ثقافة الألماني على الوعي والفعاليّة والتخطيط الاقتصادي والمبادرات الفرديّة.
وثقافة التصنيع تمتدّ إلى عشرات العقود، بينما تقوم ثقافة الإنسان الاندونيسي على الاقتصاد الزّراعي والثّقافة الرّيفيّة التي لا تعترف لا بالمبادرات الفردية ولا التنظيم الصّناعي وتوزيع العمل، أيّ أنّ النّهضة كي تنجح يجب أن تسبقها «ثورة ثقافية»، وهذا ما حدث قبل قرون في ألمانيا ففي بداية القرن 16 انطلقت من ألمانيا حركة الإصلاح الدّيني التي خلّصت الإنسان الألماني من ضغط الكنيسة وسطوتها عليه، ومهّدت لظهور المناخ العقلي الّذي مهّد بدوره لظهور الفلسفة العقلانيّة والمثاليّة الألمانيّة في القرنين 18 و19 على يد كريستين توماسيوس وايمانويل كانت، وماكس فيبر، وهيجل وفيخته، وهاردر ونيتشه وشلايمخر والّذين عملوا على تطوير نظام جامعي بقي هو الأحسن الى أن جاءت كارثة الحرب العالمية الثّانية.
3 ــ صاحب قصر حمراء شوابيا يتنحّى عن عرشه!
انتهت الحرب العالميّة الأولى بهزيمة ألمانيا، وأقرّت القيادة العسكريّة العليا بها، لكنّها فقدت التّنسيق مع قيادة القوّات البحريّة للرّايخ التي تمرّدت وأصدرت أمرها للأسطول البحري الألماني للتّعجيل والدّخول في معركة بحريّة مع الأسطول الملكي الانجليزي، لكنّ المعركة لم تحدث ولم تتم، فقد تمرّد البحّارة الألمان في 29 – 10 – 1918م في موانئ فيلهلمس هَافن وكِيل على أمر قيادتهم، ورفضوا الدّخول في المعركة، وانحاز إليهم الشّعب الألماني.
ألهب هذا التّمرّد روح الثّورة التي اجتاحت مثل العاصفة في بضعة أيّام الإمبراطورية بأكملها، وأدّت إلى قيام الجمهوريّة في 9 – 11 – 1918م وتنازل القيصر واختفى من السّاحة، وفي صباح 10 من نوفمبر أعطت الصّحف الألمانيّة صورة واضحة للوضع:
ــ القيصر في هولندا والثّورة في معظم المراكز الحضريّة والمدن، الأمراء بدأوا بالتنازل عن عروشهم لصالح الشّعب، إنّ استمرار النّظام السّابق صار من المحال.
كانت شتوتغارت عاصمة مقاطعة فيرتمبارغ عندما وصلت إليها رياح الانتفاضة والاحتجاجات في 1918م تحت حكم غليوم الثّاني آخر ملوك سُلالة آل فيرتمبارغ، وظنّ النّاس أنّ الرّياح ستستثنيه وتُبقي عليه ملكا، فالمُلك في المقاطعة يستند إلى شرعيّة دستوريّة، والمَلك محبوب من شعبه، فهم لا يزالون يذكرون أنّه عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى ودّع غليوم الثاّني قوّاته التي ستشارك في الحرب والدّموع في عينيه، وأنّه كان متميّزا على باقي الملوك، فكان يتجوّل في العاصمة شتوتغارت مثله مثل عامّة النّاس دون حرسٍ أو أبّهة، وأنّه هو من رفض الزّواج من العائلات المالكة في أوربّا لتوطيد ملكه، واختار الزواج من بنات الشّعب، وأنّه كان لا يتميّز في لباسه عنهم، وأنّه قام بإصلاحات سياسية كبيرة جعلت من الشّعب هو صاحب السّلطة الفعليّة في المقاطعة.
لكنّها رياح التغيير والقطيعة مع ممارسات عهد بائد كان وبالا على ألمانيا، وبداية عهد جديد لابدّ منه لتتصالح الأمّة الألمانية مع نفسها وتعيد تجديد روحها وبناء مجدها.
عندما دخل المتظاهرون في التّفاوض في الرّبع من نوفمبر 1918م مع وزير داخليّته كولنر قال له أحدهم بلهجته المحلّية:
s’isch aber wege dem Sischteem —
ــ إنّها ضدّ النّظام..!
فهم الملك أنّها ثورة ضد النّظام الملكي في كامل ألمانيا، فلم يتذرّع بشرعيّة دستوريّة، ولا بإنجازات اقتصاديّة ولا بإصلاحات سياسية كبيرة قام بها. فخضع لرأي الشّعب وقبل التّنحّي، وخرج في ليلة 9 من نوفمبر 1918م الى قرية «بيبن هاوزن» ليس بعيدا عن مدينة توبينغن أين قضى بقية أيّامه حتى مات في الثّاني من 1921م. ودُفن بمقبرة لودفيسبورغ ليس بعيدا عن البيت الّذي أسكنه أنا اليوم إلاّ ببضع عشرات من الأمتار.
أذكر أنّي في نهاية التّسعينات، وفي الأشهر الأولى من سفري، إلى ألمانيا كُنت وصديقي محمّد نتردّد كثيرا على مكتبة شتوتغارت العموميّة في وسط المدينة لتعلّم اللّغة الألمانية، ولنقرأ في الصّحف العالميّة، والعربيّة بصفة خاصّة، وأذكر أنّ الفضول دفعني ذات يومٍ إلى أن أستقصي ما كتب على الجانب الأيمن من مدخل المكتبة من عبارات: «هذا قصر الملك غليوم الثّاني آخر ملوك مقاطعة فيرتمبارغ، تحوّل إلى مكتبة عمومية بعد أن صار ملكًا للشّعب».
لم أعر الأمر يومها اهتماما كبيرًا فالقصر يبدو متواضعًا وبسيطًا وهو أقرب إلى سكن كبير منه إلى قصر، وكان عليّ أن أنتظر سنوات أخرى حتّى أزور حدائق «فيهيلما» الحيوانيّة والنّباتيّة، فأكتشف أنّ بها قصرا آخر جميل المنظر ومتميّزا في نمط معماره، أو قل إنّ القصر بُني على النّمط الأندلسي حتّى يُحاكي قصر الحمراء في غرناطة، ويُشار إليه هنا في شتوتغارت بـ»حمراء شوابيا». وكان الّذي أمر ببنائه هو غليوم الأوّل جد الملك الرّابع والأخير غليوم الثّاني من أمّه، وتقول الرّواية أنّ غليوم الأوّل كان شغوفًا بالثّقافة الأندلسيّة فكلّف سنة 1837م مهندسه «كارل لويس فون تسانث» بأن يضع مخطّطا لقصر على النّمط الأندلسي المغاربي في حدائقه المسمّاة «فيلهيلما» يكون مقرّا لسكناه في فصل الصّيف كما كان يفعل ملوك بني الأحمر في غرناطة، حيث كانوا يتنقّلون في الصّيف من قصور الحمراء الرّئيسيّة الى قصر جنّات العريف. فأتمّ المهندس وضع المخطّط، وأنتهي من بناء القصر سنة 1864م.
في البدء لم يكن يُسمح بدخول القصر إلاّ لأفراد العائلة المالكة، لكنّه ابتداءً من عام 1880م صار مفتوحًا لكافّة زوّار الحدائق بشرط أن يكون معهم تصريح خاص بزيارة القصر. دُمّر القصر خلال الحرب العالميّة الثّانية لكن أعيد بناؤه في سنة 1971 وترميمه سنة 2002.
بين مدن قمم الجبال السّبعة في سويسرا
كنت مستغرقا في التّفكير وتصفّح الجرائد الألمانيّة، فلم أنتبه أنّي خرجت من الحدود الألمانيّة حتّى سمعت رنّة رسالة الكترونيّة على هاتفي النّقال تخبرني أنّني الآن متواجد داخل التراب السّويسري. إنها دقائق معدودة ربّما لن نتجاوز 5 دقائق ونكون في محطّة «شاف هاوزن»، هذه المدينة الصّغيرة على الحدود الألمانية والمتداخلة مع التّراب الألماني، لم أكن في بداية رحلاتي إلى سويسرا أستطيع أن أميّزها عن المدن الألمانية، فهي مرتبطة بسكّة الحديد مع ألمانيا وجغرافيتها وثقافتها هي استمرار للجغرافيا والثّقافة الألمانيّتين، كما لم أكن أعرف أيضًا أنّ لألمانيا جيبًا داخل التراب السّويسري يحيط به كانتون «شاف هاوسن» من كلّ جانب، وأنّ هذا الجيب هو قرية «بوزنجن»، التي لا تبعد عن الحدود الألمانية سوى 700م، ففي سفري في المرّات السّابقة لم أكن أفهم لماذا في كلّ مرّة أخرج فيها من التّراب الألماني كانت الرّسائل الالكترونية تتوافد على هاتفي النّقّال تخبرني بأنّي في سويسرا ثمّ تعقبها في الحال رسالة ثانية لتخبرني أنّي في ألمانيا، ثمّ على إثرها رسالة أخيرة تؤكّد لي أنّي في سويسرا، والسّبب هو هذا الجيب (بُوزنجن).
ربّما أكون معذورًا أنّي لم أستطع أن أفرّق بين مدينة «شاف هاوزن» وبين أيّ مدينة ألمانيّة، فأثناء الحرب العالميّة الثّانية وفي الأوّل من أبريل 1944م قام سلاح الجو الأمريكي بثلاثة غارات على المدينة المُحايدة، وألقى عليها 378 قذيفة فقتل 40 مدنيّا وشرّد 465 إنسان بعد أن هدّم منازلهم وهدّم المصانع التي كانوا يعملون بها، حتّى قام الرّئيس الأمريكي «روزفلت» بتقديم اعتذاره لساكنة المدينة واعتبر أنّ القصف كان عن طريق الخطأ، رغم أنَّ التحاليل تُشير إلى أنّه كان متعمّدا لقطع طرق الإمداد عن ألمانيا النَّازيّة، لكنّهم قبلوا عذره فأرجو أن يقبل عذري أنا أيضًا.
توقّف القطار بمحطّة «شاف هاوزن» دقائق معدودة كي يلتقط المسافرين من هذه المدينة، عدت الى هاتفي النّقّال أبحث عن الأخبار في الجرائد السويسريّة المكتوبة بالفرنسيّة، فكانت جريدة «الوقت» هي أوّل جريدة أتصفّحها وأنا على التراب السّويسري وأوّل عنوان فيها هو خبر غير سارٍّ بالنسبة لي:
«الحكومة البلجيكيّة تحذّر رعايها من السّفر إلى كانتونات جنيف وفالي بسويسرا، إنها مناطق غير آمنة وانتشار فيروس كورونا عاد إلى الإرتفاع من جديد».
عاد الاضطراب والقلق إليَّ من جديد بعد أن كنت نسيته ردهة من الزّمن، فما العمل فجنيف هي وجهتي الأخيرة في سويسرا بعد مدينتي زوريخ ولوزان، ومنها أستطيع العبور الى التراب الفرنسيّ. لكنّه كان قلقا عابرًا فسرعان ما نسيت الأمر واستغرقت في تصفّح الجرائد الإلكترونية، حتّى يحدث فجأة ما لم يكن في الحسبان، لقد انقطع اتصالي بالعالم عن طريق الأنترنت ودون إعذار، حاولت بكلّ الوسائل معاودة الاتصال فلم أقدر فاستسلمت لقدري ثمّ انحنيت على حقيبتي التي كانت بجانبي وأخرجت كتابا بالانجليزيّة بعنوان «الرّواق الضّيّق» لمؤلّفيه «جيمس روبينسون» و»دارون أسيموغلو» ورُحت أطالع فيه بدءًا من الصّفحات التي انتهيت إليها قبل سفري هذا. ورغم أنّ القراءة فيه كانت ممتعة ومشوّقة إلاّ أنّ مشاعر الملل والقلق امتزجت في نفسي، فلم أكمل أكثر من عشرين صفحة حتّى رحت أقلّب صفحاته من جديد كمن يبحث عن شيء لا يعرف ما هو! حتّى وصلت الى الصّفحة 269 فلفت فكري هذا العنوان:
War made the state, and the state made war
1 ــ دول تصنعها الحرب، ودول تصنع الحرب
والعنوان هو لعالم الاجتماع الأمريكي «شارلزتيلّي» الّذي وضع إحدى أشهر النّظرّيات حول دور «العوامل البنيويّة الخاصّة ــ وتواتر الأخطار وتزايد تهديدات الحروب بين الدّول الى ظهور دول (جديدة) في أوروبّا الغربيّة عقب الثّورة العسكريّة التي عرفها القرن السّابع عشر. وسويسرا هي المثل الكامل لهذه الفكرة، حيث يُعتبر الاتحاد السويسري تاريخيًّا جزءًا من الإمبراطوريّة الرُّومانية المقدّسة التي عاصمتها بألمانيا، وتقع سويسرا على أطرافها، ولا يفصلها عن الأراضي الايطالية إلاّ جبال الألب، ولم يكن للإمبراطورية الرُّومانيّة المقدّسة إلاّ سيادة اسميّة على هذا الجزء من الكانتونات، فقد منحتها منذ البدء حريّة تطوير نظامها السّياسي والإداري.
كانت بداية نشوء الاتحاد السويسري سنة 1291م عندما أعلنت المقاطعات الغابيّة الثّلاثة «أوري ونيدرفالدن وشوِيتس» حلفًا أبديًّا فيما بينها، وأقسم أهلها على أن يتعاونوا فيما بينهم وأمضوا «الميثاق الفديرالي» من أجل ردّ غارات الممالك الأجنبيّة، والقضاء على الفتن الدّاخليّة، وأن يحلّوا نزاعاتهم بالتحكيم، وألاّ يعترفوا بأيّ قاضٍ يولّى عليهم اذا لم يكن من واديهم، أو كان قد اشترى منصبه، ثمّ انضمّ اليهم مدائن «لوسرن، وزيوريخ، وكونستانس»، في عام 1315م أرسل آل هابسبورغ جيشين للقضاء على هذا التّحالف وإجبار سكّان هذه الأقاليم على أداء التزاماتهم الإقطاعية، فانهزم الجيشان هزيمة ساحقة انسحب على إثرها آل هابسبورغ من هذه الأقاليم.
وفي معاهدة وستفاليا 1648م أعترف لسويسرا باستقلالها القانوني عن الإمبراطورية الرُّومانيّة المقدّسة. وفي سنة 1715م كان هناك 13 مقاطعة تُؤلّف الاتحاد السّويسري.
وفي مؤتمر فينَّا عام 1815م ضمنت القوى الأوربيّة الكبرى استقلال سويسرا وحيادها. كما انضم الى الاتحاد كل من كانتونات «جنيف، وفالي (لوزان)، ونوشاتيل النّاطقة بالفرنسيّة. وفي عام 1848م انتهت أقصر وآخر حرب داخليّة بين سبعة من الكانتونات الكاثوليكيّة المحافظة وباقي الكانتونات الليبيراليّة البروتستانتيّة بعد أن استسلمت الأولى.
عندما توقّف القطار بنا في محطّة «شاف هاوزن» لفتت انتباهي لوحات إشهاريّة تدعو الشّعب السويسري الى الاستفتاء بشأن تقييد الهجرة الوافدة إلى سويسرا، وتعليق اتفاقية حرّية التّنقل بين سويسرا والاتحاد الأوروبي، وهي مبادرة طرحتها الأحزاب اليمينيّة للحدّ من الهجرة من دول الاتحاد الأوروبي 27 الى دولة الاتّحاد السّويسري، هذه المبادرة التي حسم فيها النّاخبون في 27 من سبتمبر 2020م، فكانت أغلبيّة الأصوات رافضة للمبادرة ورفضت أن تكون سويسرا جزيرة معزولة بين أمواج الاتّحاد الأوروبي.
ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي يرفض فيها السّويسريّون مثل هذه المقترحات فقبل ثلاث أو أربع سنوات كان هناك استفتاء غريب تقدّمت به الطّبقة السّياسيّة «هل توافق أن يكون لكّل مواطن لا يعمل راتبا من 2500 فرنك شهريّا»، إنّ مثل هذا الاستفتاء يغري النّفوس الكسولة في بلد يتمتّع بجودة الحياة، وباقتصاد قويّ نابض بالحياة، لا تؤثّر فيه الأزمات العالميّة، ويتميّز بأعلى المداخيل في العالم.
إنّ سويسرا بلد براغماتيّ التّفكير، ويُمارس انفتاحًا حذرا على باقي العالم، إنّه يستفيد كثيرا من الطّاقات العلميّة المهاجرة من دول الاتّحاد الأوربّي وبخاصّة ألمانيا وفرنسا اللّتين بهما أحسن وأجود نظام تعليمي في العالم. إنّه مثلما تُعاني دول الجنوب من هجرة أدمغتها الى الشّمال، فإنّ دول الاتحاد الأوروبي وبخاصة ألمانيا تعاني من استنزاف سويسرا لطاقاتها العلميّة، إنّها تنفقٌ مئات الآلاف من الأورُوَات على الطّالب الواحد في ميدان الطّب والإعلام الآلي وبخاصّة أصحاب الدكتوراه، لتقوم سويسيرا بإغرائه بمرتّبات خياليّة واستقطابه بفرص البحث العلمي، والمختبرات المتطوّرة لتلبيّة احتياجات اقتصادها العلميّة والفنيّة والفكريّة، والمختبرات المتطوّرة، فينجذب إليها وتخسره ألمانيا.
والاستفتاء على مشاريع القوانين هي سمة الكونفدراليّة السويسريّة، وهي تقليد عريق لا علاقة له بديمقراطيّة المدن الإغريقية المباشرة في العصور القديمة بقدر ما له علاقة بثقافة القرويّين بجبال الألب، فقد خضعت سويسرا للدّولة الرُّمانيّة المقدّسة، لكنّ سكّا الجبال بقوا متمرّدين ولم يمكن إخضاعهم، ورغم أنّهم كانوا يُؤدّون التزاماتهم الاقطاعيّة إلاّ أنّهم كانوا يختارون موظّفيهم ومن يحكمونهم، وينفّذون قوانينهم الخاصّة، ولم يكن السّادة الإقطاعيون يعترضون على هذا الأسلوب في الحكم مادامت المستحقّات الضّريبية تصل الى خزائنهم في وقتها.
2 ــ حتى نعرف قصة صاحب التمثال عدنا إلى مدينة نوشاتيل
في العاشر من أوت وأنا في طريق العودة الى مدينة شتوتغارت بألمانيا أبت عليَّ نفسي إلاّ أن أتوقّف بمدينة نوشاتيل، حاولت أن أقنعها بكلّ الوسائل لكنّنها تعنّتت وأصرّت، قلت لها أنّ تذكرة العودة لا تسمح لنا بالسفر في هذا الوقت فلم تمتثل، وقالت اشترِ تذكرة جديدة، قلت ولم إهدار مال نحن في حاجة إليه، لكنّها أصرّت وقالت إنّ بنوشاتيل تمثال يجب أن تعرف قصّة صاحبه، جاريتها وأنا أعلم في قراري أنّه ليس هذا هو السّبب، وأنَّ السّبب هو ما قاله جبران خليل جبران: «إذا وجدت نداء الحبّ في قلبك فاتّبعه» فهانا أنا أتّبع قلبي، دون أن أدرِ أين سيُرديني.
قبل سنوات وكنت كلما مررت بصاحب هذا التمثال ذكّرني ما هو مكتوب أسفل قدميه بمآثر الرّجل وأعماله التي قدّمها لمدينة نوشاتيل، الأمر الّذي دفع المجلس البلدي للمدينة بتسميّة مركزها باسمه، تكريما له وتخليدا لذكراه.
فصاحب التمثال هو دافيد دي بيري، ولد بمدينة نوشاتيل وعاش بها طفولته ثم انطلق في رحلة طويلة قادته إلى فرنسا والبرتغال والبرازيل وامريكا ثم استقر به المقام في الأخير في مدينة لشبونة البرتغالية أين مات ودفن. وقد جمع الرجل ثروة فاحشة من المعاملات المالية ومن تجارة الماس والعبيد، غير أنه عاش أعزبا. ولم تنسه طول غربته المدينة التي أنجبته فأوصى لها بمعظم ثروته، والتي تُقدّراليوم بـ 600 مليون فرنك سويسري.
وقد استغل المجلس البلدي للمدينة هذه الثروة من سنة 1781 إلى سنة 1853، أي تقريبا 72 سنة في تعمير المدينة فبنى بها:
ــ أول مستشفى سنة 1781.
ــ أول مكتبة عامة سنة 1788.
ــ دار البلدية 1790.
ــ تحويل مجرى نهر سايون من سنة 1836 إلى سنة 1843.
ــ تأسيس المدرسة اللاتينية.
ــ تأسيس مدرسة للبنات.
ــ شقّ الطرقات وبناء السكك الحديدية.
عندما عُدت في 10 من أوت إلى مدينة نوشاتيل، وأردت قراءة ما كتب أسفل قدمي صاحب التمثال من جديد، وجدت عناءً كبيرا في فكّ شفرة الكتابة، فقد قام أحدهم في ليلة 13 من شهر جويلية بصبّ طلاء أحمر اللّون على جسد التّمثال بعد مقتل الشّاب الأسود خنقًا على يد الشرطة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في شهر جوان، احتجًاجا على نشاط ابن المدينة دافيد دي بيري في تجارة العبيد ابّان القرن 18، وجمع ثروته الكبيرة التي تركها للمدينة من هذه التجارة، ثمّ أرسل رِسالة الكترونيّة إلى جريدة «أرك أنفو» حملت هذا العنوان:
«معلم تِذكاري للمقاومين للاستعمار وليس لتجّار العبيد».
عندما عدت إلى نوشاتيل لزيارة صاحب التّمثال والاعتبار بوطنيّته وحبّه وإخلاصه لمدينته، صدمتني هذه العبارة التي أرسلها أبناء المدينة إلى الجريدة، أي نعم لقد جمع الرّجل ثروة وأهداها لمجلس المدينة ليعيد بناء وتنميّة المدينة، ولكنّها ثروة ذهب ضحيّتها عشرات الآلاف من أفارقة موزمبيق وأنغولا، الّذين رُحّلوا قصرا إلى أمريكا ليعيشوا هناك عبيدًا بعد أن كانوا أحرارا.
3 ــ جنيف: من أجلها استجدى الملك أوتو الأمير عبد الرحمان النّاصر
وصل بنا القطار أخيرا إلى محطّة مدينة جنيف، لم نعد نبعد عن الحدود الفرنسيّة إلاّ بضعة كيلومترات،عاودت الاتصال بالعالم عن طريق انترنت المحطّة، لم يأخذ الأمر منّي وقتا ولا عناءً، فقط سجّلت الدّخول وانتظرت رقم الدخول على الهاتف النّقال، ثمّ اتصلت بمُضيفي بفرنسا في الحال وطلبت منه رقم هاتفه ثمّ قطعنا الاتّصال، وخرجت لتوّي من المحطّة واتجهت مباشرة الى «بحيرة جنيف» أو مثل ما يُسمّونها هنا «بحيرة لومان»، فليس هناك أجمل من الوقوف على شواطئ البحيرات السويسريّة، والنّظر إلى زرقة الماء الصّافي والأفق الواسع والاستمتاع بالهدوء في هذا الفصل والاستغراق في التّأمّل في جمال الخلق، وتذكّر عظمة الخالق وقدرته، وكذلك فعلت أنا فقد وقفت أمام بحيرة جنيف أرجع البصر حولي، لكنّ خيالي أبى إلاّ أن يتسلّل في أعماق التاريخ محاولا كشف خباياه وأسراره. لتتجلى لي مشاهد لم تعد تراها العين.
عندما خرجت من محطّة القطار وتوجّهت إلى البحيرة، لفت انتباهي وجوه سمراء البشرة وأخرى بلباس عربيّ تدخل وتخرج من الفنادق التي تنتشر قريبًا من شواطئ البحيرة، فأيقنت أنّي لست العربيّ الوحيد الّذي جاء الى المدينة زائرا، وإن كانت زيارتي تختلف عن زياراتهم فأنا جئت إلى هنا لأبحث في سوالف التّاريخ عن آثار عظماء هم فخر أمّتنا مرّوا من هنا، وأسأل هل من أثر مازال باقيًا يدلّ حقّا أنّهم مرّوا فيما مضى من هنا عنوة، ولم يوقفهم أحد حتّى وصلوا إلى مدينة «كونستانس» بألمانيا، ولكن أين لي أن أبحث، ومن أسأل. لم يبق لي إلاّ أن أسأل عالم الآثار السويسري «فرديناند كيلر» الّذي مات بزوريخ سنة1881م، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالّنظر في كتابه الّذي ألّف:
Der Einfall der Sarazerenenen in der Schweiz
جاء في الكتاب أنّ عشرين مسلما (عربًا وبربرًا) خرجوا من سواحل أليكنت بالأندلس سنة 891م فرمت بهم الأمواج بالرّغم منهم نحو خليج «سانت توبيز» ببروفانس بفرنسا، وأنّهم ملكوا تلك النّاحية واتخذوا الجبل الّذي يُسمّى موروس معقلا لهم ومحرزا يحتمون به من عادية الأمم المجاورة، وأنّهم أمّنوا المكان، فصاروا يجولون في الجهات المجاورة من دون خوف، فلمّا رأوا أنّهم تمكّنوا من المكان أنفذوا رسولا الى الأندلس (أليكنت) يندبون اخوانهم المسلمين ليلتحقوا بهم، فرجع الرّسول إليهم ومعه مئة رجل.
وقد أسعف هؤلاء العرب ما كان بين أهالي بروفانس من الشّقاق والنّزاع وحرب بعضهم بعضا، ثمّ صارت للمسلمين هناك شوكة وغارات يتحدّث النّاس بها، ومن روايات مؤرّخي ذلك العصر أنّ غاراتهم لم تكن ذات هدف سياسي وانّما هي غارات من أجل الغنائم، وقد بلغت مدًا بعيدا حتّى وصلت إلى بحيرة كونستانس بألمانيا مرورا بجنيف ولوزان ونوشاتيل بسويسرا، وغورنوبل ونيس بفرنسا. لكنّ المصادر العربيّة لم تشر إلى مثل هذه الغارات أو المغامرات ولو قليل،اً فقد أشارت مثلا إلى أنّ أهل ربض قرطبة لما فشلت محاولة خلعهم الحكم الأول حفيد عبد الرّحمان الدّاخل، نفاهم الأخير فذهبوا إلى الإسكندرية بمصر فلمّا أخرجهم منها أميرها جنحوا إلى جزيرة كريتا اليونانية، فتملّكوها وأسّسوا بها مملكتهم التي لم يُنهِ وجودها إلاَّ قيام الحروب الصّليبيّة في القرن الحادي عشر.
غير أنّ صاحب كتاب «غارات المسلمين في البلاد السّويسريّة» يصرّ أنّهم حقّا مرّوا عنوة من هنا، وسنده في ذلك أنَّ هرمان أمير سويسرا الألمانية قد التمس من أوتو الكبير في المجلس الّذي عقده الإمبراطور في «كوبيد ليندبورغ» سنة 940م أن يُعوّض «فالتو» أسقف «كور» عمّا لحقه من اجتياح العرب لديره،وأنّ الإمبراطور قد أجابه إلى ذلك وعهد الى القس بإدارة كنيستين من كنائسه. ثمّ إنّ أوتو الأوّل الملقّب بالعظيم عندما عاد إلى فراكفورت عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدّسة أرسل سنة 955م سفارة إلى الخليفة عبد الرحمان يحتج فيها من غارات الأسطول الأندلسي انطلاقا بروفانس ضدّ الشواطئ التّابعة له في جنوب فرنسا وايطاليا، وتوغّل المغامرين العرب في الأراضي السويسريّة ويدعوه أن يتدخّل لوضع حدّ لمثل هذه الغارات، وأنّ جواب عبد الرحمان النّاصر كان بأنّه ليس له أي سلطان عليهم، ولا أنّه يتحمّل تبعات أعمالهم. إنّها مغامرة شيّقة لـ 20 بحّارا رمت بهم الأقدار في هذه الأرض ثمّ جاءهم دعم من 100 آخرين من إخوانهم، فصاروا قوّة يهابها أمراء الاقتطاعات وتودّدون إليها ويتحالفون معها، إنّها رواية جميلة لم يفسدها إلاّ تلك الصّورة النّمطيّة التي يريها عنهم الرّهبان بأنّهم يقتلون الطّفل والمرأة ويتلذّذون برؤية دمائهم أو النّار الملتهبة وهي تنهش من أجسادهم. ربّما تستطيع كبرى شركات الأفلام يوما أن تخرج منها فيلما إذا وجدت كاتب سيناريو جيّد. أمّا نحن هنا فلم يبق لنا إلاّ أن نذهب إلى غرونوبل لنتمّ بحثنا عن قصّتهم هناك.
لم يبق على وصول قطاري المتّجه إلى مدينة غرونول بفرنسا إلاّ وقتا قليل،اً فما عليّ إلاّ أن أطوي كتابي الالكتروني «غارات العرب في البلاد السويسريّة» وأعود إلى المحطّة لأكمل رحلتي إلى عاصمة بلاد الألب. عسى أن أكلّل باكتشافات جديدة ومثيرة.
بقلم: نور الدّين بحوح