ما زلنا نقول إن العلوم الإنسانية ليست مما يدخل في أبواب التّرف والدّعة، ولا مما يحسب على (الشبعة الزايدة)، وهي ليست – في المشهد المعرفي – كمّا مهملا يمكن الاستغناء عنه، أو تعويضه، كما أنها لا تصلح لتكون لها المرتبة الدنيا في مقابل العلوم الطبيعية والعلوم الدقيقة؛ فـ”الطبيعة” و”الدّقة” كلاهما، لا يكتسبان المعنى إلا في الدائرة التي يحدّدها «الانسان»..
ولسنا نشكّك مطلقا في صدق نوايا بعض الدارسين الذين يعتقدون أن مسألة «التطور» مرتبطة باكتساب المعارف التقنية المحض، غير أننا نودّ التنبيه إلى أن هذا «التطور» مرتبط أيضا بالمعارف الجمالية، وقد تكون أشكال البنايات في بلادنا – على سبيل المثال – برهانا على ما نقول، فقد صار نادرا أن نرى تحفة معمارية منذ صارت البنايات عبارة عن مكعبّات متراصة لا تعير انتباها للجوانب الفنية، ولا ترى حاجة في العناية بالمنظر الجميل، لأن المسألة عندها صارت متعلّقة – حصرا – بـ»حسابات» الطول والعرض والسّعة، والكميات اللازمة لـ»كذا»، و(الدّوزاج) المناسب لـ»كيت»، ما جعل الأحياء السكنية – في معظم الحالات – مجرّد تراكم للإسمنت المسلح، يفتقد إلى ذلك الروح المجنح الذي يمنح السكن معناه..
ونعترف أن إقامة البرهان على أهمية العلوم الإنسانية، صعب للغاية؛ ذلك لأن تأثيراتها لا تظهر للعيان في وقتها، وليس يمكن إقناع أيّ كان بجدوى قراءة الأعمال الأدبية – مثلا – فهو لا يلمس أهميتها إلا بعد أن يقضي وقتا لا بأس به في مطالعتها..
وفي كل حال، الأمم التي تطوّرت وعانقت المستويات الحضارية الراقية، لم تحلّق بجناح واحد، وإنما جعلت المعرفة ضالتها الوحيدة، وراهنت على بناء «الانسان»..