يحاول الدّكتور العيد بوده في إصداره الانثربولوجي الموسوم بـ “اللثام التارقي” الصادر عن دار العكاظية للنشر والتوزيع، الكشف عن البعدين الاسطوري والواقعي لظاهرة اللثام التي أثيرت حولها أقاويل كثيرة.
أكد الدكتور العيد بوده، أن المجتمع التارقي يتميز بقدر كبير من الأسرار والمميزات التاريخية والثقافية، مما يجعله فضاءً بحثياً خصباً، ومجالاً مناسباً لإشباع الفضول المعرفي، وهذا ما دفعه إلى تحرير هذه الدراسة التي تتناول أحد الجوانب المهمة في منظومة التراث الثقافي اللامادي لشعب الطوارق.
وذكر العيد بوده، أن الامر يتعلق بمحاولة الكشف على البعدين الأسطوري والواقعي، لظاهرة اللثام التي أُثِيْرَت حولها أقاويل كثيرة، بما فيها المقول الأسطوري الذي حاول تتبعه انطلاقا من مصادره التي انبثق عنها؛ بغية الكشف عن خلفياته، ومقاربته مع واقع المجتمع الإيموهاغي (التارقي)؛ في محاولة جادة لبيان حقيقة اللثام، بوصفه عنصراً لباسياً مُهِمّاً في تمظهرات الزَّي التارقي المتغلغل في موروث التوارق العريق.
وأوضح المتحدث “إنّ مما دفعني للتقدم إلى تحرير هذا المنجز الأنثروبولوجي هو محاولة تقديم الصورة الصحيحة لموضوع اللثام، الذي أُشِيعَ عنه أقاويل غير بريئة سببت وما زالت تسبب لأخواني التوارق شيئا من الاستفزاز والانتقاص. وإن من أسباب الدراسة هو انفراد التوارق بعادة اللثام دون النساء، مخالفين بذلك كل المجتمعات الإسلامية، فقد جرت العادة في المجتمع الإسلامي، أن يكون الرجل سافر الوجه، والمرأة محتجبة أو مبرقعة، إلاّ أنّنا نجد عكس ذلك في المجتمع التارقي؛ إذ يلتزم الرجال بوضع اللثام على وجوههم، بينما لا تلتزم النساء بذلك. وهذا ما لا تشترك فيه مع التوارق أيّة مجموعة بشريّة على الإطلاق”.
واشار الدكتور، الى ان هذه الدراسة انطلقتْ من عدة تساؤلات من قبيل: فِيمَ تتجلى حقيقة وضع اللثام عند رجال التوراق؟ وما السر الكامن وراء تلثم الرجال دون النساء رغم أنهم يعيشون في بيئة واحدة؟ وهل يمكن الوقوف على خلفيات الأسطورة التي قيلت في شأن اللثام؟ موضحا انه قد حاول الإجابة عن هذه التساؤلات بتوظيف المنهج الأنثروبولوجي؛ وإن ما دعاه إلى مقاربة الموضوع من زاوية أنثروبولوجية، هو ملائمة الأنثروبولوجيا لدراسة الفلكلور اللباسي، لأنها كفيلة بكشف الكثير من الحقائق حول تاريخيّة نشأة العقائد والأفكار، وأنماط التديّن، وأشكال التطوّر الاجتماعيّ، فضلا عن التثاقف والتبادل.
وحسب المُؤلِّف فان خطة البحث جاءت وفق ما اقتضته طبيعة الموضوع؛ حيث افتتح بتعريف المجتمع التارقي – بوصفه سلالة أمازيغية عريقة – فيما يتصل باسم التوارق ونسبهم ولغتهم وموطنهم، ثم تطرق تبعا لذلك إلى طبيعة الزي التارقي محاولا الوقوف على دلالات مختلف العناصر المكونة لهذا الزي، لينتقل إلى مناقشة موضوع اللثام من خلال التعرض إلى المقول الأسطوري المتعلق به، ونقده على ضوء الحقائق المرتبطة بشخصية الرجل التارقي، مبرزا أهمية ووظيفية اللثام عند الرجال دون النساء، ثم ذيَّل الدراسة بتقديم جملة من التفسيرات والمبررات المتعلقة بأبعاد ظاهرة اللثام. منها ما وجده في بعض الكتب، ومنها ما نَقَله على لسان بعض التوارق الذين تواصل معهم في هذا الموضوع، ومنها ما يمثل استنتاجاته البحثية تبعا لرؤيته الخاصة وعلاقته بالمجتمع التارقي.
وخلص الدكتور بقوله في المنجز، “إنّني لا أدَّعي معرفة يقينية شاملة بهذا الموضوع الشائك، لكن الراجح عندي أن ما جاء عن موضوع اللثام في المقول الأسطوري ليس إلا تَقَوُّلاً مُغْرِضَاً جاء به أعداء التوارق، ثم نسبوا ذلك الادعاء للأساطير؛ إبعادا للشبهة من جهة، وللانتقاص من قدر التوارق من جهة ثانية؛ لأن التوارق معروفون منذ القدم بثباتهم على مواقفهم ومبادئهم، وبشراستهم في الدفاع عن مقدساتهم. ويكفي أن تقرأ بعض الكتابات التي تركها الفرنسيون عن التوارق، لتفهم ما يمكن أن يكتبه الأعداء عن الخصم لتشويهه، وليس هذا بمستغرب ولا جديد، فمعظم كتابات المستشرقين عن الشعوب المستضعفة لم تخل من مثل هذا الصنيع البائس. كما أن للثام بُعْدٌ وظيفي؛ يتمثل في مقاومة عناصر الطبيعة من رياح وحرارة وبرودة، ناهيك عن استعماله كَفَنَاً إذ تَعَذرَّ وجوده في عرض الصحراء الشاسعة البعيدة، إضافة إلى استغلاله عوضا عن الحيل في ربط دلاء الآبار لاستخراج المياه، كما أننا نجد للثام بُعْدَاً أخلاقيا يعكس مدى احترام التارقي لأصهاره ونساء قبيلته”.