يعتبر تحدّي تحقيق الأمن الغذائي والمائي أحد الأولويات الرئيسية للجزائر الجديدة، بقيادة رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، خاصة أمام شحّ الموارد والتقلّبات المناخية وشدّة التنافُسية الإقتصادية التي تتطلّبُ مزيدًا من الجُهود لبناء اقتصاد قوي ومستدام، ويكمن التّحدّي على الصّعيد الداخلي في توفير الكمية المطلوبة من الغذاء والماء للمواطنين الحاليين، وضمان حق الأجيال القادمة إذا استمرت معدلات النمو ذاتها، والمشجّعة في مؤشرات الاقتصاد الوطني.
ويكبر التحدّي أكثر على الصعيد الخارجي في ظّل الظّروف السيئة التي تضرب الاقتصاد العالمي باستمرار؛ بدءاً بالتقلبات المناخية وانخفاض المعروض من المحاصيل الغذائية وارتفاع أسعارها، إلى انخفاض أسعار المحروقات، ونقص التزود بالمياه، إلى بروز تحدّيات بيُولوجية عالمية، والتقلبات السياسية التي تواجه المنطقة والعالم.
في هذا الموضوع، تناولنا أهم العناصر ذات العلاقة بإشكالية الأمن الغذائي والمائي في الجزائر الجديدة، من خلال التركيز على الفلاحة الصحراوية وشعبة الحبوب كزراعة إستراتيجية بالنسبة للأمن الغذائي، وتحلية مياه البحر كبديل مائي آمن مستدام بالنسبة للأمن المائي، والجهود الكبيرة التي بذلتها الدولة لأجل ذلك في مقدّمتها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، وفاءً بالتزاماته الرئاسية لصون كرامة المواطن، وتعزيز سيادة البلاد من خلال اعتماد مقاربة شاملة لكل محاور الأمن الغذائي والمائي، بإدماج كل الإمكانيات الوطنية المتاحة، وهو نفس ما ذهب إليه خبراء ومختصّون ومستثمرون في ندوة نظّمتها “الشعب”.
وقد اعتمدنا في ذلك كوثائق لإثراء الموضوع والإلمام به، على بيانات مجلس الوزراء برئاسة السيد عبد المجيد تبون، رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، وزير الدفاع الوطني، كمرجع موثوق لكل ما يتعلقُ بقرارات السيد الرئيس، وكذا تصريحاته الرسمية، ثم مخرجات مجالس الحكومة برئاسة الوزير الأول، السيد أيمن بن عبد الرحمان، وكذا قرارات وزيري قطاعي الفلاحة والتنمية الريفية والموارد المائية والأمن المائي، وبعض القوانين ذات الصلة.
وقبل الخوض في الموضوع، لابدّ من توضيح مفهوم الأمن الغذائي والمائي، حسب منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو)، فالأول يعني: “توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة”، في حين يُقصد بالأمن المائي قدرة: “كل شخص على الحُصول على مقدار كافٍ من المياه الآمنة بتكلُفة معقُولة ليعيش حياة نظيفة وصحية ومُنتجة، مع ضمان حماية البيئة وتحسينها”.
لذا نجد أنّ اهتمام الجزائر الجديدة بهذا الموضوع، دليل على رُؤية حكيمة وثاقبة للرئيس نحو المُستقبل أمام المخاطر التي عبّرت عنها أزمتا الغذاء خلال جائحة كورونا والحرب الرّوسية الأوكرانية، وارتفاع الأسعار في السّوق العالمية.
الأمن المائي للجزائر الجديدة.. رهان استراتيجي وأولوية الأولويات
حقّقت الجزائر الجديدة إنجازات كبيرة في قطاع الري والموارد المائية، بوضع أسُس استراتيجية وطنية فعّالة لتحقيق الأمن المائي باستغلال الموارد البديلة كتحلية مياه البحر، إذ يُعد تحقيق الأمن المائي من التزامات الرئيس، لمُواجهة مشاكل التزود بالماء خاصة الصالح للشُّرب، وتجلى ذلك في إعداد استراتيجية عمل آفاق 2024 و2030، تُعطي الأولوية لحشد الموارد المائية المُستدامة للبلاد.
وجاءت محطات تحلية مياه البحر ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، كحلول بديلة ودائمة تضمن الوفرة، من أهم المشاريع التي باشرت بها السّلطات بأمر من الرئيس وركّز عليها، حيث تُحصي الجزائر اليوم، ما يقدّر بـ 11 محطة بقدرات إنتاجية مُتوسطة بحوالي 2,11 مليون متر مكعب من المياه المعالجة ليرتفع العدد إلى 19 محطة تحلية المياه آفاق 2024، حسب تقارير المُؤسّسة التابعة لشركة سوناطراك المُكلفة بعملية الإنجاز، إضافة إلى مضاعفة إنتاجية محطات معالجة مياه الصرف الصحي، وإعادة تدويرها للاستعمال الفلاحي.
لذا يعتبر مشروع تحلية مياه البحر، حسب ما أوضحه، لـ “الشعب”، الخبير المائي بجامعة تولوز 3 بفرنسا، أحمد لطفي غرناوط، ذا بُعد استراتيجي هام جدًّا، في مسألة رفع العرض من المياه بشكل مُستدام وآثاره الايجابية المُباشرة على الأمن الغذائي، وذلك من خلال جُهود ميدانية لمُضاعفة عدد محطات التحلية والمُعالجة، ورفع القُدرات الإنتاجية لتلبية حاجيات المُواطنين من مياه الشرب والمياه المُستعملة في القطاع الصناعي، ممّا يساهم بشكل محسوس في تخفيف الضغط الكبير على مخزون مياه السدود التي تُخصّص أساسا لتلبية حاجيات أكثر من 70 % من المياه المُخصّصة للشُّرب، رغم أنّ منسُوبها يشهدُ انخفاضا محسوسًا على فترات طويلة من السنة رغم طاقتها الاستيعابية، وهذا ما يُؤثر على قُدرتها لتلبية حاجيات القطاع الزراعي، ويُساهم في النُدرة والضغط على استعمال المياه الجوفية وانخفاض مستوياتها، وعليه -يضيف محدّثنا – فإنّ هذا التوجه الاستراتيجي للجزائر الجديدة يُساهم في رفع منسوب السُدود ثُم رفع العرض بالنسبة للفلاحة في المناطق الشمالية من البلاد، وتخفيف الضغط على المياه الجوفية في المناطق الشمالية، وتخصيصها حصريًا لتلبية الطلب الكبير للقطاع الزراعي في تلك المناطق.
وتحرص السّلطات العليا للدولة على تأمين تزويد سكان الجزائر بمياه التحلية، خاصة سكان الولايات الساحلية، وتلك التي تقع في حدود 150 كلم من محطات التحلية، حيث أنّ الجزائر تهدفُ إلى تحقيق 60 % من الاحتياجات المائية للسكان عبر تحلية مياه البحر، كحلول آمنة وصديقة للبيئة، حسب وزارة الموارد المائية والأمن المائي، وهو طموح كبير يتحقّق بإشراك المؤسّسات الناشئة والمتوسطة والصغيرة في العمليات الخاصة بالتجهيز والصيانة والبناء، ضمن مُخطط تعميم محطات تحلية مياه البحر عبر كامل الشريط الساحلي، على أن تستعمل مياه الصرف الصحي المُعالجة في الري الفلاحي كخيار مُفيد، حسب ما أكده الرئيس تبون، خلال إشرافه ببلدية فوكة بتيبازة، على وضع حجر الأساس لإنجاز محطة تحلية مياه البحر “فوكة 2” بطاقة إنتاج 300 ألف متر مُكعب يوميا، في إطار زيارة عمل وتفقد لولايتي الجزائر وبومرداس في 5 جويلية 2023.
تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصّرف الصحي.. بدائل آمنة ومستدامة بسواعد جزائريّة
يكتسي ملف الأمن المائي اهتماما بالغًا في الجزائر، في ظلّ التغييرات المُناخية والبيئية المُتسارعة، إذ تُقدّر احتياجاتها المائية حاليا (الشرب، الزراعة والصناعة)، 11.3 مليار متر مكعب سنوياً، ما دفعها لتخصيص أكثر من 2.2 مليار دولار منذ 2021 إلى غاية 2024، لاستكمال المشاريع الموجودة وإطلاق أُخرى جديدة لتحلية مياه البحر، ضمن رُؤية إستراتيجية لتحقيق الأمن المائي بالحفاظ على الموارد المائية الجوفية.
وفي هذا الصدد، يشير الخبير الفلاحي لعلى بوخالفة، إلى قوة وأهمية قرارات الرئيس تبون باستحداث 14 محطة لتحلية مياه البحر على طُول الساحل الجزائري لضمان الأمن المائي مُستقبلاً، بالموازاة مع رفع العدد لـ 25 محطة تحلية في 2030، لتصل نسبة تزويد السُكان بالمياه المُحلاّة 45 % في 2025، و60 % في سنة 2030، دُون إهمال نسب التزود من مياه السدود بـ 20 %، والمياه الجوفية بـ 20 %.
ومن بين قرارات الرئيس الإستراتيجية في هذا المجال أيضا، إنشاء وكالة خاصة لتحلية مياه البحر، وهي هيئة مُستقلة عن الحكومة تتمتع بتمويل خاص، لتكون بذلك إحدى الوسائل الجديدة والفعّالة في تنفيذ السياسة الجزائرية في مجال تحلية مياه البحر، تهدف إلى تدعيم القُدرات الوطنية في إنتاج المياه قصد تحقيق الأمن المائي، بعدما كانت عملية تسيير ملف تحلية مياه البحر تتأرجح بين وزارتي الموارد المائية والطاقة، وبإنشاء هذه الوكالة سوف تتضح الرُؤية في تسيير هذه الموارد المائية الهامة، والتي حتمًا ستُغطّي النُقص في التزود بالمياه.
كما دفع تحدي الأمن المائي، الجزائر – حسب الدكتور عبد الباسط بُومادة من جامعة ورقلة – إلى وضع إستراتيجية لإدارة والتسيير المُدمج لموارد المياه السطحية والجوفية وغير التقليدية، ومن ثّم استعمال المياه العادمة المُعَالَجَة في القطاعات الأُخرى، خاصة القطاع الفلاحي، ليُعتبر استخدام مياه الصرف الصحي المُعالجة في الري الفلاحي خيارًا جذابًا خاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة، حيث تُمثّل مصدرًا للمياه وأسمدة تكميلية مُتجدّدة وموثوقة.
الأمن الغذائي والمائي وجهان لعملة واحدة
أولى رئيس الجمهورية أهمية خاصة لقضية الأمن المائي، بل جعله أولوية رئاسية لصون كرامة المُواطن، من خلال مراقبة عمليات منح تراخيص استغلال المياه الجوفية، وتفعيل دور مصالح الأمن عبر شرطة المياه لمراقبة ترشيدها، إضافة إلى استحداث مُؤسسات ناشئة تُساهم في إنجاز دراسات علمية، ودراسات هيدروجيولوجية للحفاظ على هذه الثروة، لتأمين احتياجات المواطن والقطاع الفلاحي والصناعي من هذه المياه الحيوية.
سيظل الأمن الغذائي مرتبطاً بالأمن المائي مهما تغيّرت الأحوال، ويتّضحُ ذلك الارتباط أكثر وقت الأزمات، حيث شدّد الخبير الفلاحي لعلى بُوخالفة على ضرُورة الربط بين الأمن الغذائي والمائي باعتبارهما كُلاّ مًتكاملا، لا يتحققُ المكسبُ الأولُ إلا بتوفر الشرط الثاني، لذا جعلت الجزائر من الموارد المائية سلاحًا لتحقيق الأمن المائي والغذائي، وفق إستراتيجية ورُؤية حكيمة للرئيس تبون، من خلال إصلاحات قانونية عزّزت الترسانة التنظيمية لقطاعي الفلاحة والري والموارد المائية، نحو الانفتاح في حقل الاستثمار، تبعا لما جاء به قانون المالية لسنة 2023، وتضمّنها قانون الاستثمار الجديد 22-18، المُؤرخ في 24 جويلية 2022، خاصة ما تعلق بتوفير العقار الفلاحي وكذا الصناعي، والمُرافقة التنظيمية والجبائية من أجل توسيع استثمارات الإنتاج الفلاحي، لتتجسّد مسألة تأمين الموارد المائية يومًا بعد يوم، ضمن مُخطّط الجزائر الجديدة الاستراتيجي.
كما استطاعت الجزائر الجديدة في كافة المجالات، أن تقطع أشواطا هامة نحو القمة، بل الريادة، بخُطى ثابتة وإرادة سياسية قوية للرئيس، من أجل التوجه إلى القطاع الفلاحي كاقتصاد بديل، وضمان أمن مائي كخيار استراتيجي، إذ شكّل إحدى الانشغالات الكبرى للنموذج الاقتصادي والاجتماعي المحّدد في التزاماته 54.
شهدت الجزائر تحوّلا حقيقيا بفضل خُطّته الاستعجالية للنهوض بالبلاد، وقطاعي الفلاحة والموارد المائية، حيث تضمن البند 18 وضع خُطة استعجالية لتحديث الزراعة لضمان الأمن الغذائي وتلبية الاحتياجات الوطنية، والبند 30 بالنسبة للأمن المائي، بوضع حدّ نهائي لانقطاعات المياه وضمان حصول جميع المُواطنين على المياه الصالحة للشُرب عبر كامل التُراب الوطني، عن طريق تعبئة ناجعة للموارد المائية، وترشيد وسائل توزيع واستهلاك المياه، حيث قدّم الرئيس بذلك نموذجا أكثر تنوّعًا وصلابةً وقُدرةً على مُواجهة تقلبات الاقتصاد العالمي، من خلال استثمار فوائض تصدير النفط والغاز في قطاعات ذات طبيعة مُستدامة، لتحقيق سيادة اقتصادية شاملة، وذلك ضمن مُخطّط يُراعي الفعالية في الميدان، وبعيدًا عن كلّ أشكال البيروقراطية.
فلاحُـون وأساتذة ومُختصون: خُطوات مدرُوسة ونظرة استراتيجية لتحقيق الأَمْنَيْـن الغذائي والمائي
وأكد المُتدخلُون في ندوة أعدّتها “الشعب”، حول الأمن الغذائي والمائي في الجزائر، أنّ رئيس الجُمهورية السيد عبد المجيد تبون، حريص على أولوية تحقيق الأمن الغذائي والمائي ضمن توجه جديد في تسيير شُؤون الدولة، تحقق في أنجازات الثلاث سنوات الأخيرة في قطاعي الفلاحة والموارد المائية، من خلال تحويل مُعظم المُؤشرات الحمراء إلى اللون الأخضر، خاصة مع بداية عام 2023، بتجاوز احتياطي الصرف حاجز 64 مليار دولار، ومن المُتوقع أن يصل إلى 70 مليار دولار بنهاية العام.
في هذه الندوة، ثمن خُبراء ومُختصون في الفلاحة وأساتذة جامعيون من داخل الوطن وخارجه، قرارات الرئيس تبون، واعتبروها انطلاقة جديدة نحو تحقيق السيادة الغذائية والمائية المُستدامة، عن طريق مشاريع حاضنات الأعمال، ودعم إنشاء المُؤسسات الناشئة، تنفيذ مُخرجات البُحوث العلمية، في الميدان، المبنية على منظُومة إحصائية لتوفير معلُومات دقيقة وشاملة لكُل مُتغيرات الموارد المائية والفلاحة، خاصة شُعبة الحُبوب، وتوضيح الرُؤية الحالية والمُستقبلية واحتياجات الجزائر.
كُلّ الشُرُوط متوفرة لتحقيق الأهداف
تمتلك الجزائر إمكانات طبيعية هائلة، يُمكن أن تجعل من القطاع الفلاحي قائدًا لقاطرة خلق الثروة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي تحقيق الاكتفاء الذاتي في مُختلف الشُّعب الفلاحية، ما يُحقق الأمن الغذائي، بحسب الدُكتور عبد الباسط بُومادة، من جامعة ورقلة.
ونظرا للديناميكية والحركية الكبيرة التي يشهدُها القطاع الفلاحي في بلادنا في السنوات الأخيرة، فإنّهُ يُمكن القول، إنّ الجزائر ماضية قُدما وفي الطريق الصحيح لتثبيت ركائز أمنها الغذائي والمائي، وهي توافر المواد الغذائية بزيادة الإنتاج والإنتاجية، ثُم حوافز أسعار السُّوق وتحديث البنية التحتية من طُرق، أسواق، تخزين وغيرها… إضافة إلى جوانب التغذية السليمة، وأخيرا استقرار الركائز الثلاث على مدار العام، خاصة خلال الجفاف ونُقص الغذاء، وذلك استجابة لمبدإ من لا يملكُ قُوتَهَ لا يملكُ قرارهُ، يُضيفُ المُتحدث.
وبلغة الأرقام يُؤكد بُومادة، أنّ الإنتاج الزراعي ارتفع من 3500 مليار دينار جزائري سنة 2021 إلى أكثر من 4500 مليار دينار جزائري سنة 2022، أي بنسبة تفوق 31% جعلت من القطاع الفلاحي يُساهم في تغطية 75% من الاحتياجات الغذائية ويحقق 14,7% من الناتج الداخلي الخام ويُوظف أكثر من 20% من اليد العاملة بـ2,7 مليون منصب شُغل.
وبالعودة للركيزة الأولى من ركائز الأمن الغذائي، فإنّ الجزائر حققت قفزات نوعية في إنتاج مُختلف المنتُوجات الفلاحية وفي إنتاجية الشُّعب الرئيسية، خاصة الحُبوب التي أولى لها السيد رئيس الجمهورية اهتماما خاصا خلال الجلسات الوطنية للفلاحة المُنعقدة شهر فيفري الماضي، مُركزا على ضرُورة زيادة مردُودية الهكتار الواحد من القمح إلى أكثر من 30 قنطارا في الهكتار الواحد. علما أنّ المُعُدل الحالي أقلُ من 20 قنطارا في الهكتار، خاصة أنّ الدولة وفرّت كُل عوامل النجاح لبُلُوغ هذا الهدف.
وبالنسبة للركيزة الثانية، فإنّ الكثير من الخُطوات اتُّخذَت في هذا المجال، من إنشاء أسواق الجُملة لتسهيل تسويق مُختلف المنتُوجات الفلاحية وبناء غُرف التبريد وصوامع تخزين الحُبوب في مُختلف مناطق الوطن وكذا توسيع شبكات الطُرق والسكك الحديدية، بالإضافة لتشجيع الاستثمار في الصناعات التحويلية لمُختلف المنتُوجات الفلاحية، من خلال قانون الاستثمار الجديد.
وبخُصُوص الركيزة الثالثة المُتعلقة بجوانب التغذية السليمة، فإنّ الكثير من العمل ينتظرُنا –بحسب بُومادة- في هذا المجال وخاصة العمل التوعوي، إذا علمنا أنّ استهلاك الفرد الجزائري من الحُبوب هو الثاني على مُستوى العالم بعد تركيا، بمُعدل 230 كيلوغرام للفرد في السنة، وهو استهلاك مُفرط للحُبوب فيه الكثير من التبذير وخاصة الخبز.
الجدير بالذكر هنا، أنّ إنتاج الحُبوب في الجزائر يشهدُ تبعية مُفرطة للأمطار. وبما أنّ الجزائر تمتلكُ مساحة شاسعة، تُشكل المناطق الصحراوية ثُلثيّها وبالنظر للمخزُون الهائل من المياه الجوفية في هذه المناطق المُتمثلة في الطبقة البينية القارية بـ600 ألف كيلومتر مُربع وبحجم يفوق 50 ألف مليار متر مُكعب، بالإضافة لطبقات جوفية أُخرى، فإنّ المناطق الصحراوية يُمكنها تجسيد الاكتفاء الذاتي وبالتالي تحقيق الأمن الغذائي في الجزائر، إذا ما وُفرت كُل الظُروف وذُللت كُل العقبات أمام المُستثمرين في المجال الزراعي، حيث أنّ المناطق الصحراوية تُساهم حاليا، يُضيف مُحدثنا، بـ25,7% من الإنتاج الزراعي الوطني ويُمكن أن تتضاعف هذه النسبة 3 مرات إذا ما تضافرت الجُهود لمُرافقة الفلاحين والمُستثمرين من أجل التغلب على المعيقات.
كما أنّ مُناخ وتُربة المناطق الصحراويه يُمكنها إنتاج الحُبوب خلال دورتين في السنة الواحدة وبمردُودية جدُّ عالية. وبما أنّ الأمن الغذائي مُرتبط ارتباطا وثيقا بالأمن المائي، وجب ترشيد استهلاك الماء في القطاع الفلاحي، باستعمال الطُرق الحديثة للري المُقتصدة للمياه واستغلال المياه المُستعملة بمُعالجتها وإعادة استعمالها في السقي من أجل تحقيق تنمية مُستدامة.
إرادة سياسية قوية لانطلاقة جديدة للفلاحة والموارد المائية
يَعتبرُ الخبير الفلاحي والأمين العام للمُنظمة الوطنية للفلاحة والأمن الغذائي لعلى بُوخالفة، أنّ الأمن الغذائي من السيادة الوطنية. فالدُول التي لا تملكُ أمنها الغذائي والمائي، ناقصةُ سيادة .وبالنسبة للجزائر، فهُناك مجهُودات كثيرة بُذلت لأجل ذلك، وحققت نسبة معقُولة جدا من أمنها الغذائي وصل لمُستوى 75% في بعض المُنتجات الفلاحية كالخُضار والبُقُوليات، لذلك تَمّ تصنيف الجزائر من طرف المُنظمات العالمية في الخانة الخضراء أُسوة بالدُول الأوروبية.
ومُنذ قُدوم الرئيس تبون، لسُدة الحكم، تغيّرت الأُمُور -بحسب بوخالفة-، عبر التشخيص الذي قامت به السُلطات العمومية وتوصلت إلى ارتباط الجزائر بالاستيراد في بعض المواد الاستراتيجية كالحُبوب خاصة القمح، حيث يتم إنفاق أكثر من 3 ملايير دُولار سنويا لتوفير هذه المادة الغذائية الاستراتيجية، ما دفع الرئيس إلى اتخاذ عدة قرارات وإجراءات، بعد دراسة مُدققة في الميدان، والمُتمثلة في رفع أسعار استرجاع الحبوب إلى وحدات الديوان الجزائري للحُبوب والبُقول الجافة بسعر 6 آلاف دينار للقنطار بالنسبة للقمح الصلب، و5 آلاف دينار للقنطار للقمح الليّن، و3 آلاف دينار للشعير والخرطال، وكذا دعم الأسمدة بـ50% بعدما كانت 20%.
وهناك إجراءات أُخرى اتخذنها الدولة خلال كل مجلس وُزراء لفائدة قطاعي الفلاحة والموارد المائية لارتباطهما الوثيق، خاصة الزراعات الاستراتيجية كالحُبوب، حيث سجّل محدثنا وُجود إرادة سياسية قوية عبر الرئيس شخصيا، بوضع إمكانات كبيرة لصالح المُستثمرين والفلاحين، وقد شُرع في تنفيذ خارطة الطريق هذه للوُصول للأَمْنَيْـن الغذائي والمائي، عبر التوجه إلى الفلاحة الصحراوية، بإنشاء الديوان الوطني للفلاحة الصحراوية.
لون أخضر للمُؤشرات الفلاحية والمائية بالجزائر
كما حدّدت الحُكومة، بتعليمات من الرئيس، مُحيطات زراعية كُبرى على مُستوى غالبية الولايات الصحراوية كأدرار، تيميمون، المنيعة، غرداية وغيرها… مُخصصة لزراعة الحُبوب، خاصة القمح الليّن، نظرا لشساعة الأراضي ووفرة المياه والطاقة. مع العلم أنّ أكبر منبع للمياه الجوفية موجُودٌ في الصحراء الجزائرية، يُقدر بـ50 ألف مليار متر مُكعب، يُمكن استغلاله لمُدة طويلة تصلُ إلى 5 آلاف سنة، واكتشف معها مُؤخرا مياه مُتجددة أيضا يُضيف بُوخالفة.
وهُناك مصدر آخر، لا يقل أهمية –بحسب المتحدث- هو امتلاك الجزائر لساحل بحري طُولُهُ 2148 كم (بحسب دراسة علمية جديدة أطلقتها وزارة البيئة والطاقات المُتجددة والمعهد الوطني للخرائط والكشف عن بُعد، تحت وصاية وزارة الدفاع الوطني)، يُمكن استغلاله لإنشاء مُركبات ومحطات تحلية مياه البحر وهو ما تفطن له رئيس الجمهورية بإسدائه تعليمات صارمة للإسراع في إنجاز هذه المحطات عبر هذا الشريط الساحلي، لتوفير المياه الشروب للمُواطنين أولا، ثُم تُوجيه كميات منهُ للفلاحة، مع تلك التي يتمُّ مُعالجتها وبذلك يُمكن للجزائر أن تُصبح قُطبًا فلاحيًا إقليميًا تُوفر أمنها الغذائي وتُحقق أمنها المائي المُستدام.
نُذكّر هُنا بتصريح الرئيس، أنّ بين ولايتي عين صالح وأدرار فقط تُوجد9 ملايين هكتار يُمكن استصلاحها للفلاحة، مُوجهًا تعليماته للشركة الوطنية سونلغاز لإيصال الطاقة إلى هذه المُحيطات الفلاحية الكُبرى. والحقيقة التي لا يُمكن إنكارها، تحقيق خُطوات كبيرة في هذا المجال عبر البرامج المُجسّدة ميدانيا لتجسيد “حُلم القرن”، ولِمَ لا الوُصُول لمُستوى الدُول الكُبرى في هذه الشُعبة كالصين، الهند، أوكرانيا وروسيا؟.
وخلافًا لولايات الشمال والهضاب العُليا، حقّق فلاحو الجنوب نسبَ إنتاج كبيرة وصلت لـ80 قنطارا في الهكتار الواحد، حيث تستوردُ الجزائر سنويا من 80 إلى 90 مليون قنطار سنويا من الحُبوب، تُجهد هذه الكمية خزينة الدولة بمبالغ مالية طائلة، لو استُثمرت -بحسب بوخالفة- في تنمية الشُعبة بالصحراء لتغيّرت الكثير من المُعطيات وأصبحت الجزائر في غُضون سنوات بلدًا مُستقلاً غذائيًا في الحُبوب وآمنًا مائيًا.
ويُفصل الخبير الفلاحي بُوخالفة في ذلك بالقول، إنّ تخصيص 1 مليُون هكتار فقط لإنتاج الحُبوب، في حال تمّ إنتاج 80 قنطارا في الهكتار، نكُونُ أمام إنتاج 80 مليون قنطار التي نستوردُها سنويًا، ونقضي بذلك نهائيًا على “مخاطر الإستيراد”، بالاعتماد على الإمكانات والقُدرات الموجُودة في الجزائر الجديدة واستغلالها من خلال التنظيم المُحكم والمُتابعة الميدانية والرقابة واستعمال التكنولوجيا في تطوير هذه الشُعبة، بالتنسيق مع مُختلف القطاعات الوزارية كالفلاحة والتعليم العالي والبحث العلمي، الصناعة، الموارد المائية والطاقة وغيرها للمُساهمة في رفع المردًودية واستعمال الري الذكي للحفاظ على المياه.
الجزائر تفوز بمعركة البذور
يرى الأمين العام للمجلس الوطني المهني المُشترك لشُعبة الحُبوب عبد الغني بن علي، أنّ الديوان يقُومُ بدور كبير جدًّا في الحفاظ على غذاء الجزائريين، لأنّهُ مُنشأة ذات سيادة ويتوفرُ على كفاءات في تسيير شُعبة الحُبوب الحيوية في إطار الأمن الغذائي، ثُم البقوليات وكُل المُنتجات الفلاحية التي تدخل في الدورة الزراعية.
وقد رفعت الجزائر، بحسبه، هذا التحدي ونحنُ في السنة الثالثة من حكم الرئيس تبون، الذي بفضل قراراته الجريئة، صُنفت الجزائر عالميا وإفريقيا في الخانة الخضراء ضمن الدُّول التي لها كُلُّ المواد التي يحتاجها المُواطن، وظهر ذلك جليا خلال جائحة كُورُونا، عندما أُغلقت كُلُّ الموانئ أين وجد المُواطن ما يحتاجه من مواد غذائية فلاحية. وتحدي الديوان حاليًا هو الوُصول للأمن الغذائي الذاتي محليًا ولمَ لا التصدير مُستقبلاً؟.
كما خطا الديوان خُطوة عملاقة بالنسبة لزيادة قُدراته التخزينية وتجاوز 40 مليُون قنطار حاليًا. وبحسب ذات المسؤول، فإنّ هذه القُدرات سمحت للجزائر بتحقيق مخزُون مُناسب لمُواجهة أي تذبذب مُحتمل للسُوق خلال الظُروف الاستثنائية.
وأكد بن علي، أنّ الجزائر الجديدة سمحت بالاستجابة للانشغالات المُتعلقة بترقية فلاحة حديثة قائمة على رفع مُستوى الإنتاج والإنتاجية للشُّعب الفلاحية من أجل تعزيز أُسُس الأمن الغذائي والحفاظ على الموارد المائية، بالاعتماد على خارطة للقُدرات الوطنية لتخزين الحُبوب تضمن استعمالها الأمثل وتُعزّز أُسُس الأمن الغذائي لهذا المنتُوج واسع الاستهلاك.