مشهد عشرات المستوطنين الصهاينة وهم يفرون من غلاف غزة وسط الحقول يعيد إلى الأذهان مشاهد نفي وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم وتشريدهم، في “التغريبة الفلسطينية” لكنها هذه المرة “تغريبة عكسية”، أجبرت فيها المقاومة الفلسطينية بمختلف الفصائل العدو ومستوطنيه على التراجع، وأبعد من ذلك استطاع المقاتلون التوغّل في شوارع المستوطنات دون أن تستطيع الأجهزة الأمنية الصهيونية منعهم، في مشهد مذل لخرافة الجيش الذي لا يقهر. وبذلك تكون المقاومة حقّقت مكسبا استراتيجيا ستجني ثماره لسنوات لاحقة.
عند تمام الساعة السادسة فجرا من يوم 7 أكتوبر، شنّت فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وعلى رأسها حركة حماس عبر ذراعها العسكري كتائب الشهيد عز الدين القسام عملية عسكرية واسعة النطاق ضد امتدادات الكيان الصهيوني في غلاف غزة، ردّا على انتهاكاته لباحات المسجد الأقصى المبارك واعتداء المستوطنين الصهاينة على المواطنين الفلسطينيين في القدس والضفة والداخل المحتل، حسبما أعلنه القائد العام للكتائب محمد الضيف.
بدأت عملية طوفان الأقصى عبر هجوم صاروخي واسع النطاق شنته فصائل المقاومة، بتوجيه آلاف الرشقات الصاروخية صوب مختلف البلدات والمدن الفلسطينية المحتلة من ديمونا في الجنوب إلى هود هشارون في الشمال والقدس في الشرق، بالتوازي مع اقتحام برّي من المقاومين عبر سيارات رباعية الدفع ودراجات نارية وطائرات شراعية للبلدات المتاخمة للقطاع. استطاع المقاومون خلالها السيطرة على عديد المواقع العسكرية خاصة في سديروت، ووصلوا أوفاكيم، واقتحموا نتيفوت، وخاضوا اشتباكاتٍ عنيفة في المستوطنات الثلاثة وفي مستوطنات أخرى كما أسروا عددًا من عساكر الاحتلال واقتادوهم إلى غزة فضلًا عن اغتنامِ مجموعةٍ من الآليات العسكرية من الجيش الصهيوني.
وبالعودة إلى استفزازت الحكومة الصهوينية، ومنذ مطلع السنة الجارية كثّفت حكومة اليمين المتطرّف استفزازاتها بتدنيس المقدسات الاسلامية، واستفزاز المسلمين في فلسطين من خلال الاقتحامات المتكرّرة للمسجد الأقصى من طرف المستوطنين والمسؤولين الصهاينة على حدّ سواء، في خطوة ممنهجة تهدف إلى التقسيم الزماني والمكاني للمكان المقدس.
هذه الاستفزازات جعلت المقاومة الفلسطينية تطلق تحذيرات عديدة إزاءها، دون أن تجد أذانا صاغية. ومن تلك الاستفزازات، تصريحات ما يسمى وزير أمن الكيان الصهيوني، بإصراره على اقتحام الأقصى في المستقبل، وذلك عقب تدنيسه المسجد في الثالث جانفي الماضي، تحت حراسة مشدّدة من شرطة الاحتلال. وتلا هذا الاقتحام اقتحامات أخرى رغم التحذيرات الإقليمية. وقد حرضت هذه التصريحات المنظمات المتطرفة والمستوطنين الصهاينة على اقتحام المسجد الأقصى، وتأدية طقوس تلموذية بحماية أمنية مشدّدة.
وفي هذا الصدد قال المركز الفلسطيني للإعلام إن شهر جويلية 2023، سجل أكبر عدد للمستوطنين الذين اقتحموا الأقصى، 6558 مستوطنًا، وهو الرقم الأعلى منذ بداية العام الحالي مقارنة بالشهور الأخرى.
تأتي تصريحات وزير أمن الكيان بمباركة من حكومة اليمين المتطرّف، التي شهد قدومها اضطرابات أمنية داخلية تعدّت الخلاف السياسي إلى تمرد داخل الجيش الصهيوني. وفي سياق التحذيرات من تمادي تصريحات الوزير المتطرّف، حذّر نائب مدير عام دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس الشيخ ناجح بكيرات، بأن الأمور يمكن أن تخرج عن السيطرة ما لم تضبط مثل هذه الشخصيات المتطرفة، وهو ما ينذر بالتأسيس لواقع سوداوي، يؤسس لاندلاع حرب دينية.
يذكر أن هذه الاعتداءات مبنية على أساس خرافة الهيكل المزعوم، حيث يسعى الاحتلال ومستوطنيه إلى إقامة الهيكل المزعوم وسط استعداد غير مسبوق، بدعم كامل من الحكومة اليمينية المتطرّفة.
سياسات اليمين والتصدّع الاجتماعي
من بين الظروف التي شجعت على عملية “طوفان الأقصى”، نجد سياسات اليمين المتطرّف، التي تسببت في اضطراب سياسي وأمني داخل الكيان ومع الفلسطينيين أيضا. وبالنتيجة تشتت تركيز العدو الصهيوني بين داخل ممزق ومحيط متمسك بالمقاومة واسترجاع أرضه.
فمنذ شهر جانفي من السنة الجارية، شهدت الساحة السياسية الداخلية للكيان الصهيوني غليانا غير مسبوق، وكان قرار الإصلاح القضائي القطرة التي أفاضت الكأس. خرج المستوطنون الصهاينة في مظاهرات حاشدة جاوزت نصف مليون متظاهر احتجاجا على القرار الذي يرمي إلى الحد من سلطة المحكمة العليا، وتمكين الحكومة والبرلمان من سلطات أكبر من المحكمة العليا، والحد من حماية الفئات الضعيفة. مع العلم أن المقترح جاءت به حكومة نتنياهو، المتحالفة مع الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى. إلى جانب توفير الأساس لحصانة نتنياهو من الملاحقة القضائية على الفساد، كما أن الإصلاحات مسّت المراجعة القضائية وإجراءات التعيين والتعديلات على وضع وصلاحيات المستشار الحكومي.
لكن الدوافع الحقيقة لانتفاض المستوطنين ضد الحكومة، تعود إلى التمزّق الحاصل في المجتمع اليهودي نفسه، وعدم الانسجام الاجتماعي والثقافي والديني. ويدل على ذلك الهروب الجماعي للمستوطنين الصهاينة بمجدر اندلاع القتال في غلاف غزة، حيث اكتظت المطارات بالفارين إلى بلدانهم الأصلية. وهو ما يعني أن المستوطنين في مجملهم لم يأتوا عن قناعة عقائدية، بل جاء بهم الإغراء المالي والمادي فقط، عكس الفلسطيني الذي يرابط في أرضه حتى لو هدم منزله.
وعليه أدت هذه التصدّعات العميقة في المجتمع الصهيوني إلى هجرة صهيونية عكسية من الأراضي المحتلة إلى خارج فلسطين. فعلى خلفية الاحتجاجات على قرار الإصلاح القضائي، أجري استقصاء داخل المجتمع الصهيوني، شمل ألفي مستوطن، عبر فيه 25 بالمائة منهم عن رغبتهم في المغادرة إلى الخارج و6 بالمائة منهم شرعوا فعليا في إجراءات الهجرة. وهو ما يشكل تهديدا وجوديا للكيان القائم أساسا على استقدام مستوطنين من البلدان الأخرى، الذين لم يعودوا متحمسين للقدوم بسبب فظائع الكيان ضد الفلسطينيين، واللاأمن المتزايد بسبب اشتداد وتيرة المقاومة.
عدوان جنين
من بين الأسباب الأخرى التي دفعت المقاومة الفلسطينية إلى هذا الرد المزلزل على الكيان الغاصب، هو الاعتداءات المتكرّرة على جنين في 25 جانفي 19و جوان و3 جويلية، وعُدَّ هذا الأخير بمثابة بداية انكسار الجيش الصهيوني، حيث تكبّد خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وأبعد من ذلك أصبح محل سخرية للمواطن الفلسطيني، حيث تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو توثّق تدمير مدرعات الجيش الصهيوني، بأسلحة المقاومة الفلسطينية، التي تعد بدائية مقارنة مع الترسانة العسكرية للعدو. كما كانت الواقعة مناسبة استرجع فيها الصهاينة الضربة الموجعة لـ«حرب تموز” ضد حزب الله اللبناني، حيث كسّرت الحرب غير المتماثلة بين حزب الله وكيان مدجج بأحدث الأسلحة أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
بداية التخلي
من الدوافع الأخرى لعملية “طوفان الأقصى”، نذكر العوامل الخارجية التي استغلتها حماس في توقيت مناسب. فمن المعلوم أن استمرار الكيان الصهيوني في الوجود مرتبط أساسا بالعوامل الخارجية أكثر منه بالعوامل والتماسك الداخليين. إذ يتغذى الكيان ويستمد قوته من دعم الدول المؤسسة على رأسها بريطانيا وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية راعي الكيان الأول التي بلغ نفوذ اللوبي الصهيوني فيها مبلغه.
لكن يبدو أن هذا العامل بدأ في التراجع، بفعل انكفاء الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها، مع تراجع مكانتها في الشرق الأوسط، ولعلّ من أهم مؤشرات هذا التراجع الموقف السعودي الخليجي من أزمة الطاقة العالمية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، عندما رفضت السعودية طلب أمريكا برفع الانتاج لخفض أسعار الطاقة، ثم عودة العلاقات السعودية الإيرانية، ورغبة هذين الأخيرين في التوجّه شرقا، بطلب الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، التي تضم كلا من البرازيل والصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا.
كما أن هذا الانكفاء الأمريكي ناتج عن التحولات الحاصلة على الساحة الدولية، والتي بدأت تُبلوِر نظاما دوليا جديدا، تكون أمريكا فاعلا فيه، وليست الفاعل الوحيد. وبالتالي بدأت أقطاب جديدة بالظهور تتمثل في روسيا والصين وكتلة دول العالم الثالث التي عانت من نظام الأحادية القطبية، وهذه الأقطاب تسعى لإرساء قواعد نظام دولي جديد مبني على العدالة واحترام سيادة الدول وحق الشعوب في العيش في سلام حسب ما يعلنه قادتها.
خسارة سياسية
تهدّد خسارة الغرب الحرب ضد روسيا بوكالة أوكرانية، بزوال الغطاء العسكري والسياسي، الذي تمتع به الكيان الصهيوني منذ تأسيسه العام 1948، لأن هذه الهزيمة، ستعني هزيمة أشد للكيان، الذي لن يجد دعما كافيا من الغرب ضد خصومه في المنطقة خاصة إيران وسوريا التي بعد حصار عشر سنوات عادت إلى الجامعة العربية، وما قد يمثله تحالفها مع إيران – التي طبعت علاقاتها مع السعودية مجددا- من تهديد وجودي. وفي السياق قال رئيس حكومة الكيان الصهيوني، الأسبق إيهود باراك، أن “الكيان تلقى ضربة شديدة قبل حرب أوكرانيا والغرب على روسيا لم تحسب حساب نتائجها ومضاعفاتها حين لم تحقق أي هدف لها ضد سوريا وإيران خلال عشر سنوات، وتمكن هذا المحور من البقاء قادراً على التصدي لها وفرض إرادته عليها.”
هزيمة وإذلال المخابرات
اعتبرت أوساط إعلامية أن عملية “طوفان الأقصى” تشكل فشلا ذريعا وغير مسبوق للمخابرات العسكرية الصهيونية، وأجهزتها الأمنية والعسكرية. وقالت صحيفة أوبزرفر البريطانية “إن الهجوم المفاجئ سيبقى ماثلا في الأذهان على أنه فشل استخباري لم يحدث على مرّ العصور”، كما أن “أجهزة المراقبة الصهيونية المتطوّرة تجعل مشاهد مقاتلي حماس وهم يجوسون خلال الشوارع أكثر إثارة للدهشة”. وأضافت حركة حماس باتت أكثر براعة في التكيف مع التحديات العسكرية التي تواجهها، وكثيرا ما تبذل قدرا من الجهد في تخطيطها. وفي تحديد مكامن الضعف الصهيونية. في وقت قالت صحيفة “واشنطن بوست “الأميركية أن الكيان الصهيوني “تعرض للإذلال والهزيمة يوم السبت”.
قتلى وأسرى
أسفرت العملية العسكرية “طوفان الأقصى”، عن سقوط أزيد من ألف قتيل صهيوني و2600 جريح خلال الأيام الثلاث الأولى من الحرب، وسط توقعات بأن ترتفع الحصيلة مع استمرار الاشتباكات. ومن الجانب الفلسطيني سجّل الآلاف بين شهيد ومصاب. وفي ظل استمرار القتال، وبسبب اختلال ميزان القوة لصالح الترسانة الصهيونية، أعلن جيش الاحتلال عن نيته شن هجوم كبير ضد قطاع غزة، وهو ماكان يدعو إليه رئيس الحكومة المتطرفة، بنيامين نتنياهو، وبالمقابل هدّدت كتائب القسام، وهي الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، بإعدام الأسرى في حال استُهدف المدنيون الفلسطينيون في مناطق المواجهة.
ومع فرار جماعي للمستوطنين الصهاينة من منطقة غلاف غزة، في صورة تشبه “التغريبة الفلسطينية” لكنها عكسية هذه المرة، يتوقّع أن يتمّ تفكيك المستوطنات هناك، تحسبا لعمليات عسكرية أخرى تنفذها المقاومة مستقبلا.
العملية العسكرية “طوفان الاقصى” وإن كانت في ظاهرها تحمل خطرا على قطاع غزة، إلا أنها في الواقع تعدّ مكسبا استراتيجيا هاما للمقاومة، فعشرات الأسرى الذين أسرتهم المقاومة الفلسطينية سيكونون ورقة تفاوض، طالما رفضته سلطات الاحتلال، وهي الآن مجبرة على قبول عروض صفقة تبادل الأسرى، لكن بما يرضى الطرف الفلسطيني. وهذا قد يكون بداية تغيرات سياسية في الداخل الصهيوني تسقط خلالها حكومة اليمين المتطرف وعدد من القيادات الصهيونية التي شهدت “الطوفان”، ولم تتنبأ به.
بغض النظر عما ستحمله قادم الأيام للقضية الفلسطينية، ورد الفعل الصهيوني المحتمل على المقاومة الفلسطينية في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالأكيد، هو الأثر النفسي على المستوطنين الصهاينة الذين قد لن يفكروا في العودة إلى الأرض المغتصبة، بسبب غياب الأمن والرفاه الذيْن وعدتهم بهما سلطة الاحتلال، وبالتالي ارتفاع معدل الهجرة العكسية، وحدوث نزيف سكاني راهن عليه الكيان للاستمرار، في ظل معدل ولادات كبيرة لدى الفلسطينيين، ومنه اختلال ميزان الكتلة السكانية لصالح فلسطين، وهو أحد العوامل المحددة في قوة الدولة، وفي المواجهة العسكرية.
كما أن ذكرى 7 أكتوبر ستبقى خالدة في ذهن العدو ومستوطنيه على غرار 6 أكتوبر التي مازال لم يفق من شدتها وسببت له عقدة كذّبت أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”.