قدّر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن عملية «طوفان الأقصى» أصابت أسطورة الكيان الصهيوني الأمنية والعسكرية والاستخبارية في مقتل، وفضحت هشاشة التحصينات والجدران التي أنشأتها لحماية نفسها وعزلها عن الآخر الفلسطيني المحاصر.
توفيق العارف
قال في دراسة نشرها الخميس المنصرم إن «ثمة فرضية أساسية لا يزال الكيان الصهيوني يتبناها، على الرغم من ثبوت فشلها المتكرر، وهي أنه في الإمكان الاستمرار في احتلال الأرض الفلسطينية من دون دفع الثمن وإجبار الشعب الفلسطيني على القبول بهذا الواقع»، ليخلص إلى أن الحالة الهمجية والغرائزية المتخلفة التي تسود في الكيان الصهيوني، وارتكاب المزيد من العدوان والمجازر بحق الفلسطينيين، لن تخضع الشعب الفلسطيني في غزة أو في أماكن تواجده الأخرى، ولن تكسر إرادته. وسيبقى يناضل من أجل نيل حريته من الاحتلال، حتى لو نجح الكيان في إسقاط حكم حماس في غزة، وهو أمر مستبعد.
وكانت حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، قد أطلقت صباح السابع من أكتوبر 2023 هجومًا مباغتا استهدف مواقع للجيش الصهيوني في غلاف قطاع غزة، وتمكنت من السيطرة على قاعدة عسكرية كبيرة وعدد من المواقع ونقاط المراقبة الصهيونية المنتشرة على حدود القطاع. كما سيطرت وحدات كوماندوس تابعة للحركة على نحو 20 مستوطنة صهيونية داخل ما يسمى «الخط الأخضر». وأسفرت هذه العملية غير المسبوقة وفق المعطيات التي أعلنها الجيش الصهيوني حتى الآن، عن مقتل أكثر من 1200 عسكري ومدني صهيوني، وإصابة نحو 3000 جريح بينهم العديد من كبار الضباط، كما أسرت حماس وفصائل أخرى أكثر من 130 صهيونيا.
خلفيات عملية «طوفان الأقصى»
ويرى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن «طوفان الأقصى» جاء على خلفية الاعتداءات المستمرة التي تقوم بها حكومة اليمين التي وصفها بأنها الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الصهيوني، وقال إنها تضم عتاة المستوطنين، ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، مستبيحة أراضيهم تمهيدًا لمصادرتها وتهويدها، إضافة إلى اعتداءات المستوطنين المتكررة على المسجد الأقصى بحماية الجيش وأجهزة الأمن الصهيونية، وسجلت الدراسة أن الحكومة الصهيونية حشدت خلال الأسابيع الماضية نحو 30 كتيبة من قوات الجيش في الضفة الغربية المحتلة لردع أي رد فعل فلسطيني على ممارسات المستوطنين، وتمهيدًا لاقتحام المخيمات والبلدات والمدن الفلسطينية التي تشهد عمليات مقاومة ضد قوات الاحتلال والمستوطنين.
أما في قطاع غزة – تقول الدراسة – فيستمر الكيان الصهيوني في حصاره منذ عام 2006. ويقلّص حقوق الأسرى الفلسطينيين. ويزيد سوء معاملتهم. ويرفض عقد اتفاق لتبادل الأسرى، مستغلا ضعف الموقف العربي واستعداد دول عربية عديدة لتطبيع العلاقات معه بمعزل عن الحقوق الفلسطينية. وبعيدا عن صيغة الأرض مقابل السلام..
الإخفاق الصهيوني..
ويذهب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى أن عملية «طوفان الأقصى» حظي بأهمية استراتيجية كبرى نظراً إلى أنها تؤسس لتغيير الواقع الذي حاول الكيان الصهيوني تكريسه في قطاع غزة منذ انسحابه الأحادي الجانب منه في عام 2005. وأدت هذه العملية المباغتة إلى انهيار الاستراتيجية الصهيونية في التعامل مع غزة وحكم حركة حماس فيها، فضلًا عن كشف الفشل الذريع لمختلف مكونات المنظومة العسكرية والأمنية التي استند الكيان الصهيوني إليها في تنفيذ استراتيجيته؛ ما أدى إلى تكبده خسائر بشرية جسيمة بلغت ضعفي مجمل خسائرها في حرب عام 1967، سقط غالبيتهم في اليوم الأول من العملية. وفاق فشل المنظومة العسكرية والأمنية الصهيونية فشلها في حرب أكتوبر 1973 والذي يعرف في المصطلحات الصهيونية بالتقصير (همحدال). وقدرت الدراسة أن هذا سيتمخض عنه، تداعيات كبيرة داخل أجهزة الكيان وفي المجتمع الصهيوني، مهما كانت نتيجة الحرب على غزة، وقالت إن هذا من شأنه أن يؤجج الجدل حول من يتحمل المسؤولية عن هذا الفشل غير المسبوق الذي سقط نتيجته نحو 4200 بين قتيل وجريح، فضلا عن اهتزاز ثقة الصهاينة بمنظومتهم الأمنية والعسكرية وقدرتها على حمايتهم، وأضافت أنه سيُسجل الفشل الأكبر للأجهزة الأمنية في إخفاق الاستخبارات العسكرية الصهيونية (أمان) والمخابرات العامة (الشاباك) في توقع العملية أو الوصول إلى معلومة بشأنها. وما زاد من مرارة هذا الفشل الاستخباراتي. في كيان طالما تبجح بقوة أجهزته الأمنية، وقدراته التجسسية حول العالم على المستويين التقني والبشري، أن الفشل نتج من قطاع غزة الذي تراقبه هذه الأجهزة وتجمع المعلومات عنه على مدار الساعة بمختلف الوسائل البشرية والإلكترونية.
أما الفشل الثاني الكبير – تقول الدراسة – فتمثل في هشاشة الجدار الأمني الذي بناه الكيان حول غزة وراهن على قدرته في منع المجاهدين الفلسطينيين من اختراقه، حيث تمكن رجال حماس من اختراقه والعبور من خلاله بأعداد كبيرة إلى أكثر من 20 موقعا، فقد بنى الكيان الصهيوني منذ انسحابه الأحادي من قطاع غزة، جدارًا من الإسمنت المسلّح على طول حدود القطاع البالغة نحو 65 كيلومترا، وبعمق 7 أمتار في باطن الأرض، و7 أمتار فوقها، ونصب فوقه أحدث أجهزة الرقابة الإلكترونية، كما أقام عليه أبراج مراقبة في مواضع مختلفة لرصد كل حركة خلفه.
أما الفشل الثالث، فترى الدراسة أنه تمثل في إخفاق الجيش الصهيوني في حماية قاعدته العسكرية الواقعة بالقرب من الحدود الشمالية لقطاع غزة، وفي حماية النقاط العسكرية العديدة وأبراج المراقبة الممتدة على طول حدود القطاع. فضلا عن فشله في حماية أكثر من 20 مستوطنة واقعة في غلاف القطاع داخل ما يسمى «الخط الأخضر»؛ إذ تمكنت الوحدات العسكرية لحماس من اقتحامها وفرض سيطرتها عليها، موقعة خسائر بقوات الجيش الصهيوني وأجهزة الأمن المختلفة.
يبدو ان هذا الهجوم المباغت الذي شنه المجاهدون الفلسطينيون، وأداءهم الجريء، وقدراتهم التنظيمية. وخبراتهم العسكرية، قد تسبب بشلل القيادة العسكرية والسياسية الصهيونية وأفقدها توازنها، وعلى الرغم من تبجح الجيش الصهيوني المستمر بجاهزيته الدائمة لمواجهة كل الطوارئ والاحتمالات وقدرته على حشد ما يكفي من قوة لمواجهة أي هجوم خلال ساعات من وقوعه، فإنه لم يفشل في حماية قواعده العسكرية فحسب، وإنما فشل أيضًا في التدخل سريعا لاستعادة المواقع العسكرية والمستوطنات الصهيونية التي سيطر عليها الفلسطينيون وظلوا يتحركون فيها لمدة لا تقل عن يومين، بينما يستغيث المستوطنون الذين كانوا يختبئون في أجزاء منها.
أما الفشل الرابع – تقول الدراسة – فقد تمثل في إخفاق الجيش الصهيوني وأجهزة الأمن المختلفة في تأمين الدفاع عن حفل ترفيهي شارك فيه بضعة آلاف من الشبان الصهاينة. وقد أقيم الحفل في أرض مفتوحة تبعد عن حدود قطاع غرة بضعة كيلومترات بالقرب من قاعدة عسكرية بعد حصول أصحابه على جميع التصاريح الأمنية المطلوبة. علاوة على ذلك، تسببت عملية حماس بشلّ قدرة المؤسسة العسكرية الصهيونية على اتخاذ القرار والتجاوب مع متطلبات الوضع الأمني والعسكري، وامتد الارتباك إلى المؤسسات الأخرى التي أقعدتها صدمة الهجوم عن التعاطي سريعًا مع نتائجها، بما في ذلك الوصول المتأخر إلى القتلى والجرحى، والفشل في تقديم المعلومات الأولية لأهالي القتلى والجرحى والمفقودين، حتى بعد مرور عدة أيام على بدء العملية.
ردات فعل الحكومة الصهيونية وحساباتها
وبعد أن عرضت الدراسة مجموع القرارات التي اتخذها الكيان الصهيوني لمواجهة فشله الذريع، خاصة منها الإعلان عن استدعاء أكثر من 300 ألف من قوات الاحتياط استعدادًا لشن حرب على قطاع غزة وحشد قوات كبيرة في الجبهة الشمالية تحسباً لإمكانية تفجر الوضع العسكري على الحدود مع لبنان وردع حزب الله عن الانخراط في الحرب، وقالت إنه في ضوء اهتزاز ثقة الصهاينة بالحكومة والجيش، تزايدت المطالبة بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ. وقد تعززت هذه الدعوات بعد اتضاح حجم الخسائر الكبيرة التي وقعت في صفوف الصهاينة. وتنامي الرغبة في رأب الصدع وتقليص الخلافات التي عصفت بالمجتمع في السنة الأخيرة، والحاجة إلى ضم ذوي الخبرة من القادة إلى دائرة صنع القرار، وبخاصة العسكريين.
وقالت الدراسة إن «الكابينت» الجديد سيواجه قرارات صعبة، في مقدمتها تحديد هدف هذه الحرب بدقة، فثمة شبه إجماع بأنه ينبغي ألا تكون مثل الحروب السابقة التي شنها الكيان الصهيوني ضد غزة. وينبغي تغيير الاستراتيجية تجاه غزة وحماس تغييراً جذرياً بهدف القضاء على حكمها، بيد أن تحقيق هذا الهدف يستدعي احتلال قطاع غزة أو أجزاء واسعة منه؛ لأن الكيان لن يستطيع حسم الحرب من الجو مهما دمر من منشآت ومبانٍ، ومهما ارتكب من مجازر. وإذا اختار الكيان الصهيوني أن يجتاح القطاع برا، فسوف يترتب عن ذلك خسائر فادحة في حرب مدن تتقن حماس خوضها، أضف إلى ذلك أن قوات المشاة في الجيش الصهيوني غير جاهزة بما يكفي لخوض حرب برية، فثمة فرق كبير بين ما تفعله في الضفة الغربية، حيث تقوم بدور الشرطة وتواجه مجموعات غير مدربة عسكريا وتستعمل أسلحة قديمة، وبين ما يمكن أن تواجهه في غزة، حيث الوحدات العسكرية التابعة لحماس والفصائل الأخرى متمرسة في قتال المدن وتملك أسلحة أفضل. ويبدو أن الكيان الصهيوني استعاض عن تطوير قواته البرية في السنوات الماضية بالاستثمار في سلاح الجو والسايبر والاستخبارات، لذلك من المرجح أن يتمهل في شن هجوم بري واسع النطاق على قطاع غزة، على الرغم من القوات الكبيرة التي يحشدها على حدوده.
بناء عليه – تواصل الدراسة – تتكرر الدعوات في الأيام الأخيرة من أبرز القادة العسكريين السابقين، مثل عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق، رئيس غرفة العمليات في الجيش والقائد الأسبق لفرقة غزة. إلى استعمال سلاح الجو الصهيوني أطول فترة ممكنة في ضرب البنية التحتية لحكم حماس، واتباع مبدأ «الضاحية» في تدمير الأحياء التي توجد فيها الحركة، واستهداف قادتها وأفرادها من دون استثناء. وتمهيد الطريق بأقصى درجة ممكنة أمام الهجوم البري الذي تشارك فيه تشكيلات القوات البرية المختلفة، والذي يأمل الكيان الصهيوني في أن يقود اجتياح قطاع غزة أو أجزاء منه إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين الفلسطينيين قد لا يهدف إلى احتلال كل القطاع بالضرورة.
ويحاول الكيان ارتكاب المزيد من المجازر بحق الفلسطينيين، ما قد يغير مواقف الدول الكبرى التي تدعم حاليا الكيان بقوة. ويسعى على ما يبدو من خلال حملة القصف الجوي المكلف إلى تهجير السكان، وتأليبهم على حكم تسبب لهم بالحصار والحروب والكوارث، وفق الكيان الصهيوني، بحيث يرحب الأهالي بأي حكم بديل.
وإذا ما انتهت الحرب من دون القضاء على حكم حماس، حتى لو تكبدت الحركة خسائر فادحة، فستواجه القيادة الصهيونية فشلا ذريعا آخر يضاف إلى سلسلة إخفاقاتها الاستراتيجية؛ فبقاء سلطة حماس يعني العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل العملية.
وثمة خشية في الكيان الصهيوني من أن تقود الحرب على غزة التي يرجح أن تكون صعبة وطويلة، إلى امتداد نطاق المواجهات إلى لبنان، حيث يزداد التوتر مع حزب الله: ما يعني أن الكيان الصهيوني قد يضطر إلى خوض غمار مواجهة على جبهتين أو أكثر، ما يؤدي إلى وقوع خسائر جسيمة وإلحاق دمار كبير في البنية التحتية الصهيونية.
وتتمثل الفرضية الأساسية لدى القيادة الأمنية والسياسية الصهيونية في أن حزب الله لن يدخل في هذه الحرب. وبأن قوته العسكرية معدة للدفاع عن مشروعه في لبنان، وأساسا عن المشروع النووي الإيراني، ولردع الكيان عن القيام بمهاجمته. ولكنه يعتقد أيضا أن حزب الله لن يمنع فصائل فلسطينية موجودة في لبنان من القيام بعمليات عسكرية محدودة عبر الحدود، وسيحافظ على معادلة الردع القائمة بينه وبين الكيان من دون الدخول في حرب شاملة ضده. وثمة خشية في الكيان أيضًا من أن يؤدي خطأ في التقديرات أو حتى في ردات الفعل المحسوبة بين الطرفين إلى الدخول في مواجهة شاملة لا يرغبان فيها. لذلك سيلقي الكيان قواته على الجبهة الشمالية في حالة استنفار لردع حزب الله، وللرد على العمليات المحدودة التي تقوم بها بعض المجموعات الفلسطينية في جنوب لبنان.
أخيرا، يمثل مصير الأسرى الصهاينة من المدنيين والعسكريين الذين تحتجزهم حماس عقدة مهمة في حسابات العملية العسكرية التي يعتزم الكيان الصهيوني تنفيذها في غزة. وتذهب التقديرات إلى أن عددهم يصل إلى 130 أسيرًا، على أقل تقدير، وهو أكبر عدد على الإطلاق يقع في يد المقاومة الفلسطينية في تاريخ الصراع مع الكيان. ويولي الرأي العام الصهيوني أهمية قصوى لمصيرهم، وهو أمر يضعف تحرك الحكومة الصهيونية ضد غزة، بناءً عليه، حاولت الحكومة الصهيونية إعطاء انطباع بأنها ذاهبة باتجاه استعادة هيبة الردع التي فقدتها، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بالأسرى، وقد جاء هذا الموقف نتيجة إدراكها أنها لن تستطيع استعادتهم أحياء من دون عقد صفقة مع حماس، تشمل الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية. والحكومة الصهيونية غير جاهزة حاليا لعقد مثل هذه الصفقة.