ها هو الحادي عشر من ديسمبر يعود اليوم، محملا بذكرى غالية لملحمة تاريخية عظيمة نستذكرها كل عام كما لو أنها حدثت بالأمس، لشدّة أثرها على وجدان الشعب الجزائري، مثلما كان أثرها كبيرا على مسار التحرر في العالم، وعلى التاريخ المعاصر للأمة الجزائرية.
تعود ذكرى الحادي عشر ديسمبر المزدوجة، مخلدة لمظاهرات 11 ديسمبر 1960 وتأسيس جريدة الشعب في نفس اليوم من عام 1962: حدثين تاريخيين هامين يجمعهما رابط وثيق، فلا نستحضر أحدهما بمظاهراته وانتفاضته الشعبية وتضحياته ومطالبه وانعكاسه الدولي الصارم، إلا وكان الثاني حاضرا برمزيته وقلمه وكلمته ولغته الأصيلة وصداه الإعلامي العارم.. حدثان ولدا في تاريخ متماثل وانطلقا من رحم الشعب باسم الشعب، وعبرا عن الشعب بلغة الشعب…
في الذكرى الثالثة والستين لمظاهرات 11 ديسمبر 1960، المتزامنة والاحتفاء بالذكرى الواحدة والستين لتأسيس جريدة الشعب، تنتعش الذاكرة الوطنية بالتضحيات الجليلة التي قدمها عشرات الآلاف من الجزائريين بشجاعة وإقدام، بعد تظاهرهم سلميا في شوارع العديد من المدن الجزائرية، للتأكيد على أن استقلال الجزائر خيار لا رجعة فيه، والتعبير عن التفافهم حول قيادتهم الثورية ورفضهم المطلق لكل الأطروحات الاستعمارية البديلة التي سعت إلى إجهاض ثورة الفاتح نوفمبر، واستبدال مطالبها بمخطط وهمي لحل ثالث… تنتعش الذاكرة أيضا بتأسيس جريدة الشعب المكتوبة باللغة العربية في الجزائر المستقلة، في الذكرى الثانية لهذه المظاهرات التي رفع فيها الجزائريون شعار “الجزائر عربية مسلمة”، فكان تأسيس أم الجرائد تجسيدا لانتصار الشعب في فرض مطالبه التي انتفض من أجلها، والتمسك بهويته الأصيلة التي حاول الاستعمار الفرنسي عبثا طمسها طيلة 132 سنة…
لقد سالت دماء الجزائريين الطاهرة غزيرة في شوارع المدن الجزائرية، فسقط مئات الشهداء في ساحة الشرف أمام دموية استعمار مجرم قابل المظاهرات السلمية بالحديد والنار، فتناقلت بشاعته وسائل الإعلام العالمية بفضل صحفيين إيطاليين شهدا الانتفاضة عن قرب، فحملا إلى الرأي العام الدولي شعارات الشعب الرافضة لكل أشكال التحايل على حقه في تقرير مصيره، وحققا باحترافيتهما واحترامهما نبل رسالة الصحافة، نصرا إعلاميا غاليا للثورة الجزائرية….
لقد أبانت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 عن قوة التأثير التي ينفرد بها الإعلام الحر حين يتشبع بالمصداقية والنزاهة وبالقيم الإنسانية، وينبذ التضليل وينقل الحقيقة وينحاز لإرادة الشعوب.. لذلك أعتبر تأسيس جريدة الشعب في ذكرى مظاهرات 11 ديسمبر تزامن رمزي عميق، وتكريس أول لشعار ثورة نوفمبر المظفرة في الجزائر المستقلة “من الشعب وإلى الشعب”… فهي جريدة الشعب الجزائري التي ولدت بميلاد دولته الحرة الأبية، وتأسست بُعيد الإعلان عن ميلاد جمهوريته الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وهي إرث وطني وجزء هام من ذاكرتنا الجماعية الزاخرة بالأمجاد والانتصارات والإنجازات والمواقف المشرفة.
لقد رافقت جريدة الشعب الجزائريين في كل المحطات التاريخية لبلادنا بلمسة إعلامية نوفمبرية مستلهمة من براعة ويراع إعلام الثورة..فشكلت بذلك مدرسة في الإعلام الوطني، وحفظت بلسان عربي أصيل ماضي الأمة وساهمت في صناعة حاضرها، وهي اليوم أداة لحماية الأجيال الجديدة من حملات التغريب والتضليل، ومنبر وطني حر يهتم بقضايا الوطن وبانشغالات المواطن، ويكشف المؤامرات التي يحيكها أعداء البلاد، ويساهم من خلال بصمة إعلامية احترافية مميزة في بناء الجزائر الجديدة التي يرسي دعائمها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.. جزائر قوية بإعلام جديد ومتجدد ومؤثر، قائم على خطاب إعلامي مسؤول وخدمة إعلامية راقية تواكب التطورات وتناسب النهضة التي تشهدها بلادنا، لاسيما في ظل تكريس حرية الإعلام كمبدأ دستوري ثابت في دستور 2020، والدعم الكبير والمباشر الذي يبديه رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون للأسرة الإعلامية، بعد أن بوأها مكانة رفيعة وأحاط أفرادها بعناية كبيرة بإقراره إطارا قانونيا جديدا للمهنة، مع تسهيلات عملية لفائدة منتسبيها، من خلال عدة تدابير اتخذها لفائدة الإعلام الوطني.. وكذا، في ظل المنظومة التشريعية الوطنية الداعمة للصحافة بكافة أنواعها، والتي حرص أعضاء البرلمان بغرفتيه على تعزيزها والمساهمة في تنظيم ممارستها بحرية ومسؤولية، لتكون بحق أداة تغيير وإصلاح فاعلة، تناسب أهميته الاستراتيجية، باعتباره واجهة الحقيقة لإبراز الصورة الحقيقية للجزائر الجديدة التي يرسي دعائمها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون.
لقد تجلى ذلك عبر مصادقة البرلمان على نصين القانونين المتعلقين بالصحافة المكتوبة والالكترونية وبالنشاط السمعي البصري، وذلك عشية الاحتفال بالذكرى الرابعة لانتخاب السيد عبد المجيد تبون، رئيسا للجزائر في الثاني عشر من ديسمبر2019.. وفي هذه الأجواء الاحتفائية بذكريات وطنية غالية علينا يزخر بها ديسمبر، تحل هذه الذكرى لتشكل خصوصية جديدة لهذا الشهر الذي جمع مآثر ثورة نوفمبر الخالدة ماضيا وحاضرا، فضم انتفاضة الشعب الجزائري من أجل أهداف ثورة نوفمبر الخالدة، واحتضن تأسيس جريدة الشعب التي شكلت واحدة من ثمارها، وشهد انتخاب رئيس جديد أرسى دعائم جزائر جديدة بروح نوفمبرية.. فجعل الذاكرة الوطنية أهم أولوياته، ودعا إلى حمايتها وعزّز ملفها تكريما للشهداء والمجاهدين ولتاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وحفظا لهذا الإرث للأجيال الجديدة خاليا من شوائب الحاقدين.. كما تم إثراء المشهد الإعلامي المتخصص بإطلاق قناة الذاكرة بإلهام من سياسته وتوجيهاته، وأطلقت بعدها قناة البرلمانية، تجسيدا لالتزاماته في تكريس الممارسة الديمقراطية، وتعزيز دور الإعلام في بناء جزائر المؤسسات والحق والقانون.
المجاهد صالح ڤوجيل
رئيس مجلس الأمة