عشت، في منتصف الثمانينيات، أياما بالغة المرارة، بعد أن تمت “تصفيتي” إداريا بأسلوب قمعيّ جحودٍ لم يكن جديرا بالمؤسسة، التي كنت من دعاماتها لنحو 13 سنة متتالية.
وقررت يومها العودة إلى ممارسة العمل الطبي، لكن يحدث ما غيّر مجرى حياتي إلى الأبد.
وهاهي “أم الصحف” تحتفل بعيد ميلادها الـ61، حيث اتصل بي الأخ محمد كاديك طالبا مني سطورا بهذه المناسبة.
سطور من الماضي
كان مما كتبته ونشرته الصحيفة في عدد 12 ديسمبر 1987:
«العلاقة بيني وبين “الشعب” كانت، وأظنها لا تزال، علاقة عاطفية خاصة ومتميزة، أزعم أنني لا أستطيع أن أجد لها تفسيرا مُرْضيا مائة بالمائة.
ولقد حافظت هذه العلاقة على نوعيتها وخصوصيتها وقوتها، رغم اختلاف الزوايا التي قُدّر لي أن أنطلق منها في تعاملي مع الصحيفة ـ المؤسسة.
وعبر سنوات طويلة، لعلها تمثل معظم عمري المهني، كان من أهم ما أحرص عليه ألا يفوتني عدد واحد من “الشعب”، حتى عندما كنت أئِنّ، بعد العودة من سفر طويل، تحت أكداس من الصحف كان علي أن أتصفحها، إن لم أكن مضطرا إلى ازدراد سطورها، من الغلاف إلى الغلاف كما يقولون.
وكنت أتساءل أحيانا…هل كانت القضية مجرد “لازمة” عصبية كسيغارة الصباح، نشعلها بحكم العادة لا تحت ضغط الحاجة؟
لا أعتقد ذلك. ففي حالات معينة كنت أقرأ الصحيفة في آخر المساء لا في بداية الصبيحة، وأحيانا كنت أقرؤها بعد أيام من الصدور.
وكان أقرب تفسير مُقنعٍ هو أن الشعب، وبجانب ما تحتويه من مواد إعلامية، كانت، منذ انطلاقها في ديسمبر 1962 بتوجيه من الشهيد محمد خيضر، ترمز للتحدي الذي يرفعه الحرف العربي في وجه الداء والأعداء، ثم في مواجهة منافسة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها كانت تفتقر أحيانا، وربما غالبا، إلى عنصر النزاهة الذي يميز المنافسة الشريفة، المبنية على تكافؤ الفرص والإمكانيات… والحظوة.
بسلامة الرجال
صمدت الشعب (بسلامة الرجال… وليس الذكور فقط) رغم وضعية كانت تجعل من صدورها عملية ولادة متعسرة، وعبْر المعركة الضارية التي تكسرت فيها النصال على النصال، دفاعًا عن «الضاد»، بكل ما تعنيه، وحماية لها.
وظلت الصحيفة، بكل ما يمكن أن نأخذه عليها، أكبر من مجموع الجهد الذي بذلناه نحن من أجلها، فقد أعطتنا أكثر مما أخذتْ منا، وكان أهم عطاء لها (في الستينيات وبعض السبعينيات) ما يمكن أن أسميه “وحدة الانتماء الفكري”، الذي كنت وما زلتُ أراه قاعدة كل شئ، وضرورة إستراتجية قبل كل شئ، وبرغم كل شئ.
ورغم سطور التفكير من اليسار إلى اليمين وإن كُتبت من اليمين إلى اليسار، ورغم ألفَ عاملٍ وعامل تدفع المناضل نحو الاستسلام، وتثير في النفس مبررات اللامبالاة وعناصر الإحباط ولهفة الجري وراء الاعتبارات الأنانية والمصلحة الفردية، رغم كل ذلك فإن الإيمان بالهدف النبيل، وبالوسيلة النبيلة، وبالكلمة النبيلة، حرية ونزاهة ومسؤولية، كان دائما قلعة الصمود، وساحة اللقاء ونقطة التجمع وخط الانطلاق”.
عودة إلى الحاضر
كان ذلك بعض ما كنت كتبته في 1986 على صفحات “الشعب”، وللمرة الأولى بعد إقالتي من مهمتي كمستشار إعلامي برئاسة الجمهورية، في الظروف التي تناولتُها فيما بعد في بعض كتبي، ومنها “أنا وهو وهم”.
وكانت المفاجأة الكبرى التي غيرت برنامج حياتي هي ردود الفعل الإيجابية على ذلك المقال المتواضع، والتي جعلتني أتجه نهائيا نحو الكتابة الصحفية وأصرف النظر تماما، وبكثيرٍ من الأسى، عن الميدان الطبي.
وكان مما دفعني إلى ذلك حجم رائع من الاهتمام بسطوري، بل ومن الإعجاب الذي تفضّل به الكثيرون تجاه من كان يكتب بتوقيع “م..دين”.
وأتذكر أنني كنت يوما أشارك في ندوة إعلامية، وبعد المداخلات وقفت معهما نتبادل دردشة كانت تتابعها بالقرب منّا جميلتان من حضور الندوة.
وأسمع إحدى الفتاتين تسأل رفيقي عن شخصية أخيكم، فيجيبها بأنه “فلان” الذي كان كذا وكذا، واستمعت الفتاتان بلا مبالاةٍ تزعج من لا يفتقدُ بعض الغرور الشخصي.
وختم رفيقي تعريفه بأخيكم قائلا: إنه ميم دين.
وانطلقت من إحدى الفتاتين شهقة كان واضحا أنها عبّرتْ عن إعجابٍ استعدتُ به بعض غروري، لكن المهم أن ما حدث زاد من إصراري على أن أخصص ما بقي من حياتي للكتابة، وكان مما شجعني على ذلك بروز نوع من الردّة الفاجرة على المسار الذي قطعته البلاد منذ جوان 1965، وصل إلى حد التطاول على الرئيس الراحل هواري بو مدين.
مواجهة زمن الانبطاح
أعترف أن حجما كبيرا من دوافع اختياري للكتابة الصحفية كممارسة حياتية، برغم أنها لم تكن تضمن دخلا ماليا يكفل متطلبات الحياة الرغدة، كان أيضا الانتقام لما أصاب كثيرين قبلي ومعي، فيما بدا كتجسيد للتوجه الجديد الذي كنت أرى فيه صورة للانتكاسة التي عرفتها مصر بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، والتي عرّفها توفيق الحكيم بأنها: “زمن امتلاء الجيوب وفراغ العقول”، وهو ما أصبح يسمى زمن “الانفتاح الانبطاحي” الذي وصل بالوطن العربي إلى كامب دافيد ثم إلى ما نعيشه اليوم، بعد أن تضاءلت “الأقلام” لصالح “الأقدام”.
وللأمانة، أعترف بأنني كنت متأثرا بكتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي حمل عنوان “لمصر لا لعبد الناصر”، الذي كتبه لمواجهة حملات تشويه مسيرة الرئيس المصري في العهد الساداتي.
وأحسست بأن واجبي يفرض عليّ أن أقوم بعمل مماثل، خصوصا وأن هيكل لم يكتب حرفا واحدا عن لقاءات دامت ساعات مع الرئيس بومدين، والذي كنت رافقته للقائه، لكنني أحسست أنه يخشى أن يندفع القارئ إلى مقارنات ستكون في صالح الرئيس الجزائري، الذي لم ينل حقه في الاعتراف به على الساحة العربية، كزعيم تأكدت نظرته الإستراتيجية للأحداث ومعرفته للرجال وإدراكه للمعطيات الدولية وفهمه للمتطلبات الإقليمية.
والمهم هو أنني هجرت نهائيا مبضع الجراح وسمّاعة الطبيب إلى قلمِ من لا يخجل من الاعتراف بأنه مجردُ قارئ يتحدث بصوت مكتوب، ومن هنا كان العنوان الرئيسي: انطباعات.
”الشعب”.. وحدة لغوية وثقافية
تعرضت “الشعب” في بداية السبعينيات إلى وضعٍ بالغ الخطورة، قد ينطبق عليه التعبير القرءاني الكريم: ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب.
كانت “الشعب”، قبل ما حدث لها، هي الصحيفة الوحيدة التي تمثل “الوحدة” اللغوية والثقافية الوطنية، وكانت هناك ثلاث صحف بالفرنسية موزعة بين الشرق والوسط والغرب.
ويتقرّر في بداية السبعينيات تعريب كل من “النصر” الصادرة في الشرق و«الجمهورية” الصادرة في الغرب، وهو ما أرى أنه كان خطأً في حق اللغة العربية كانت نتيجته لصالح اللغة الفرنسية، فأصبحت الصحيفة الصادرة بالفرنسية هي الوحيدة التي تمثل الوحدة الإعلامية الوطنية، وحظيت بما لم يتوفر لمحور هذا الحديث.
وأعترف بأنني كنت يومها أقل مقدرة على التصدي للخطر الكامن في عملية قُدمت كانتصار للغة العربية، وهو ما أسجّل هنا، وللتاريخ وللأمانة، أنني لم أُستشر بشأنها وفوجئت بها كما فوجئ كثيرون.
واصلت الكتابة بحماسٍ في الثمانينيات، فكتبت سلسلة المقالات التي حذّرْتُ فيها من فتنةٍ “لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة”، والتي عُرفت بسلسلة “الطلقاء”، ورفعتُ صيحة التنبيه من “فتنة” جديدة يقف وراءها “الطلقاء” الجدد.
وأتذكر هنا أمرا طريفا يؤكد أن “المراجع العليا”، بالتعبير المشرقي، كانت تتابع بانتظام ما يُكتب في الشعب، وهو وضع لا بد أن تسترجعه الصحيفة ثانية بشكل أعمق وأشد تأثيرا.
الشعب ضرورة وطنية
ما يقال عن “الشعب” وعن الذين حافظوا على رفع شعلتها كثيرٌ كثير، لكنني أزعم أن أسبقية الأسبقيات اليوم هي العمل لتؤكد “الشعب” دورها كصحيفة “وطنية” تتجه لأبناء الوطن في كل مكان، وهو ما فشلتُ أنا في تحقيقه.
لا بد من عملية تطوير تتحد فيه أهمّ اليوميات، ويتحول بعضها إلى مجلات متخصصة، هذه للملفات السياسية وتلك للقضايا الثقافية وثالثة للملف الاقتصادي الخ الخ.
والمهم أن تصبح كلمة “الشعب” مرادفا لكلمة “الجزائر”.
وكل عام والشعب، جموعا وصحيفة، بخير.