نسمع عادة خطابا يُحمّل «اللغة» مسؤولية (الفتوح الحضارية) ومواكبة (المنجزات المعلوماتية)، ويدعو إلى منحها الهيمنة على الطبّ والفيزياء والكيمياء، وهلمّ جرّا من حقول العلوم والمعرفة.. وهناك حتى من يتّهمها بـ(العجز والتقصير)، على أساس أن (اللغات المنافسة) صنعت الصواريخ التي نفذت من أقطار السماوات، وأبدعت وأقنعت، وربما (بردعت)، حتى صارت فخرا للمتكلمين، ونصرا للعاملين، وعنوانا لـ(التحضر) وما شاء الله مما يصطنعون..
والحق أن اللغة، بمعاجمها وقواميسها، ونحوها وصرفها، ليست سوى «وسيلة تواصل»، وهي لا يمكنها أن تخترع شيئا؛ بحكم أن (أداة الاختراع) التي تسمى (العقل) تقع في رؤوس المتكلمين أو في قلوبهم، وهؤلاء يعبّرون بـ»اللغة» (مهما تكن اللغة) عن (تكْتَكَات) عقولهم، فإذا كانت «الفاهمة» معبأة بالمنطق السليم، والمعلومات الصافية، والدّقة والرصانة و(الهلمّ جرّا)، فإن «التعبير» يكون سليما، ويضيف إلى التعابير المحيطة به، فتتراكم المعلومات، وتتحول إلى مخترعات ومكتشفات، أما إذا كانت «الفاهمة» (تعبانة)، والعنكبوتُ بها سلطانة، فإن التعبير لا يتجاوز حدود (قلبي وقلبك عند البوشي معلقين)، ليتراكم بدوره، إلى أن يتحول إلى (انحط راسي في الراية)، ويخترع اتهامات على مقاس «اللغة» التي لم تسعفه في الابتكار، مثلما تسعف اللغات الأخرى أهلها..
إن اللغة التي احتوت الفلسفة اليونانية، وطوّعت مفاهيمها ومصطلحاتها، وتمكن المؤلفون بها من التأسيس للمعرفة، وصياغة الروائع الإنسانية، ليست مسؤولة عن البناء الحضاري، ولا عن المستوى العلمي، فهي «وعاء» للأفكار، وليست «الأفكار في ذاتها»، والمتكلمون هم الذين يختارون – بحريّة تامة – المادة التي يعبئون بها الوعاء.. وليس بالإمكان أن نقطف موزا ورمّانا، إن زرعنا (الڤرنينة)..
والحديث قياس..