لم تكتف جمهورية جنوب إفريقيا بانتقاد الحرب المدمّرة التي يخوضها الجيش الصهيوني ضدّ المدنيّين العزّل في قطاع غزّة منذ ثلاثة أشهر، ولم يتوقّف ردّ فعلها المندّد بالمجازر التي تفتك بآلاف الأطفال والنساء الفلسطينيين عند تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الغاصب، بل لقد قرّرت أن تكسّر جدار التواطؤ الدّولي، وأن ترفع شكوى لدى محكمة “العدل الدولية”، تتّهم فيها الاحتلال الصهيوني بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزّة المحاصر وتطالب بوقف القتال.
هذه، هي المرة الأولى منذ قيام الكيان الصهيوني التي تتقدم فيها دولة ضده بدعوى مماثلة، إذ كان سقف التحركات القانونية الدولية السابقة الحصول على رأي استشاري من محكمة العدل الدولية، مثلما حصل في عام 2004 عندما أحالت الأمم المتحدة قضية جدار الفصل العنصري إليها.
قرّرت جنوب إفريقيا أن تستنجد بالعدالة الدولية لوقف المذبحة، حيث تقدّمت، نهاية الأسبوع الماضي، بشكوى لدى محكمة العدل الدولية أكّدت فيها بأنّ “أفعال الاحتلال الصهيوني تحمل طابع إبادة، لأنها مصحوبة بالنية المحددة المطلوبة لتدمير فلسطينيي غزة كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الأوسع”.
وطلبت منها أن تعلن “على وجه الاستعجال أن سلطات الاحتلال تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وأن عليها أن تتوقف فورا عن جميع الأفعال والإجراءات التي تنتهك تلك الالتزامات، وأن تتّخذ عددا من الإجراءات ذات الصلة”.
وليست هذه الخطوة الوحيدة التي اتّخذتها جمهورية جنوب إفريقا لإنقاذ الفلسطينيين من مخالب مصّاصي الدّماء، فقد سبق لرئيسها “سيريل رامافوزا” أن أعلن في نوفمبر الماضي أن بلاده قدمت شكوى للمحكمة الجنائية الدولية، من أجل التحقيق في جرائم حرب ارتكبها الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة في حربه التي بدأها منذ السابع من أكتوبر الماضي.
كما صوّتت الجمعية الوطنية في جنوب أفريقيا (الغرفة الثانية بالبرلمان)، والتي تضم 400 عضو، يوم 21 نوفمبر الماضي، لصالح إغلاق السفارة الصهيونية، وقطع العلاقات مع الكيان الغاصب حتى وقف إطلاق النار في غزة، بموافقة 248 عضو مقابل رفض 91 آخرين.
ومعلوم أنّ جنوب أفريقيا تدعم بشدّة مسعى الفلسطينيين لإقامة دولة في الأراضي التي يحتلها الكيان الصهيوني منذ عقود من الزمن، وتشبّه محنة الفلسطينيين بمحنة الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري القمعي.
الشّكوى تزعج الكيان
خطوة جنوب إفريقيا لم تكن حدثا عابرا بالنّسبة للكيان الصهيوني، الذي أدرك منذ الوهلة الأولى بأنه وقع في شرّ أعماله، وبأن وقت الحساب قد حان. ورغم أنّه حاول تحت تأثير الصّدمة التقليل من أهمّيتها، وقرر اللّجوء كعادته إلى إطلاق الإتهامات الجزافية ضدّ جنوب إفريقيا زاعما بأنها تحيك ضدّه مؤامرة دموية، وتوعّدها بحرب دبلوماسية مدمّرة وبتجنيد دول ضدها، فإنه في واقع الحال، لم يستطع مداراة مخاوفه من سيف العدالة، وأخذ يستبق حكمها بنفي الاتهامات الموجّهة ضدّه، قائلا بأنّه “لا يعادي شعب غزة ولا يريد به سوءا، وبأنّه يبدل كل ما في وسعه للحدّ من وقوع الضرر عليه”، دون أن ينسى ترديد نفس الأسطوانة المشلوخة، عن المحرقة ومعاناة اليهود جراء الإبادة الجماعية، مذكّرا بأن ستة ملايين يهودي ذُبحوا بوحشية لا متناهية – وكأنّ أطفال ونساء غزّة هم من ذبحوهم – معتبرا بأنه ضحيّة ومن حقّه الدّفاع عن النّفس.
الكيان الصهيوني أخذ شكوى جنوب إفريقيا على محمل الجدّ، وقرّر التحرّك للحيلولة دون أن تنسب محكمة العدل الدولية له تهم الإبادة الجماعية، ولمنع صدور أمر يفرض عليه وقف القتال وهو الذي يريد إفراغ القطاع من أهله إما بالقتل أو بالتهجير. ورغم تاريخه القاتم في التطاول والدّوس على أحكام العدالة باختلاف درجاتها، فإنه يدرك بأنّ جنوب إفريقيا فتحت عليه أبواب جهنّم، وبأن حكم العدل الدولية سيؤدّي لا محالة إلى تثبيت الاتهامات بشأن جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها، وبالتالي سيقود ذلك على أقلّ تقدير، إلى عزله دولياً ومقاطعته أو القيام بخطوات تصعيدية ضده مثل فرض عقوبات عليه أو ضد شركاته ما يشكل ضررا اقتصاديا كبيرا.
الإدانة ثابتة
لا يستبعد خبراء القانون أن تصدر “العدل الدولية “حكما ضد الاحتلال الصهيوني، لأن الملف الذي طرحته بريتوريا مثقل بالأدلة التي تثبت ارتكاب جيشه الدموي لإبادة جماعية في غزّة، إضافة طبعا لتصريحات المسؤولين الصهاينة الذين يؤكّدون نيّة الإبادة من خلال مجاهرتهم، وافتخارهم بالمذابح التي حصدت آلاف الضحايا الأبرياء، ونتذكّر جميعا تصريحات وزراء متطرّفين دعوا إلى إبادة غزّة بالنووي، وآخرين أصرّوا على حظر الماء والغذاء والدواء عن سكانه، وحثّوا على تهجيرهم قسرا أو طوعا.
خبراء القانون يدركون أهمّية شكوى جنوب إفريقيا وخطورتها على الاحتلال الصهيوني، خاصة وأن لمحكمة العدل ثقلاً كبيراً في صياغة القانون الدولي، وقراراتها ذات فاعلية وتأثير، فهي تتعامل مع النزاعات القضائية بين الدول والكيان الصهيوني يعترف بها، وسبق له أن وقّع على معاهدة مناهضة الإبادة الجماعية، خلافا للمحكمة الجنائية الدولية التي لا يعترف الصّهاينة باختصاصها ولا بقراراتها، ولا يعيرونها أيّ إهتمام.
ويؤمن هؤلاء الخبراء، بأنّ قضاة المحكمة 15 سوف لن يجدوا صعوبة في إثبات التّهمة المنسوبة للكيان الصهيوني، وهو ما يثير فزعه ويجعله يستبق أي حكم لوقف القتال، ويستعجل إكمال جريمته في خطوتها التالية المتمثلة في اغتيال قيادات فصائل المقاومة الفلسطينية بالخارج، مثلما فعل أمس الأول عندما اغتال القيادي بحركة حماس صالح العاروري بضاحية بيروت الجنوبية.
الدعوى مهمّة سياسيّاً
تأييدا للموقف القانوني، يؤكّد مراقبون ومفكّرون أن دعوى جنوب إفريقيا مهمّة سياسيا لأن إدانة دولة الاحتلال الصهيوني بارتكاب إبادة جماعية يحسم نقاشاً عالمياً سبق لمجموعة من رؤساء الدول أن حسموه في مواقفهم. وفي السياق، يقول المدير العام لـ “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، الدكتور عزمي بشارة، أن “أهمية خطوة جنوب إفريقيا تُختصر في خصوصية هذه الدولة الأفريقية مع تاريخ الفصل العنصري، فضلاً عن أن دوافع هذا البلد أخلاقية إنسانية، لا قومية ولا دينية ولا مصلحية وهذا ما يترجم حقيقة أن القضية الفلسطينية قضية إنسانية عادلة أولاً”. ولفت إلى “أنه كان يفضّل أن تكون مثل هذه الدعوى بمشاركة أكثر من بلد ومن أكثر من قارة، وأعرب عن أسفه لأن العديد من البلدان العربية لم تشارك فيها”.
أما بالنسبة إلى الأهمية القانونية، فهي تنبع، برأي بشارة، من استحالة تجاهل القرار المنتظر عالمياً، ذلك أن الدول الموقعة على اتفاقية إقامة محكمة العدل الدولية فقط تستطيع مقاضاة دول أخرى موقِّعة أيضاً، بالتالي فإن قرارات المحكمة في هذه الحالة تكون ملزمة للدول الموقعة، والكيان الصهيوني منها. وبخصوص إجراءات الدعوى، توقّع أن يصدر القرار سريعاً في غضون أسابيع بما أن الموضوع يتعلق بعنوان طارئ مثل الإبادة الجماعية.
كما توقّع المتحدّث ألاّ يجد قضاة المحكمة ومحققوها صعوبة في إثبات التهمة التي توجهها الدولة المدعية، وشدّد على أن كل الأدلة اللازمة تتوفر لإثبات تورط الاحتلال بارتكاب إبادة جماعية، لأن الإبادة الجماعية، كما قال “ليست بالضرورة أن تكون مثل الهولوكوست، بل تتعلق بالنية في الإبادة ثم بارتكاب إجراءات في سياق تطبيق إبادة جماعية أي القضاء على جماعة عرقية أو إثنية أو دينية أو جزء منها، بالتالي لن يكون إثبات ذلك قانونياً صعباً”.
ورجح بشارة “أن تحاول دولة الاحتلال الصهيوني رفع شعار الدفاع عن النفس لرد تهمة الإبادة الجماعية”، لكنه ذكّر بأن المحكمة في لاهاي حسمت الموضوع منذ قضية جدار الفصل العنصري الذي قالت فيه إنه ليس لقوة احتلال حق الدفاع عن النفس”. وأضاف “أنه حتى لو أثير موضوع الدفاع عن النفس، فإنه في حالة غزة غير متناسب، وذلك واضح في تصريحات علنية على لسان مسؤولين صهاينة، هي عبارة عن هدية لجنوب أفريقيا كمدعية، وهي تصريحات تجاهر بممارسة العقاب الجماعي للسكان في غزة، والحديث عن نية تهجيرهم، ثم جعل قطاع غزة غير قابل لاحتضان الحياة البشرية، بالإضافة إلى أدلة كثيرة جداً مثل تقرير البنك الدولي عن تدمير 70 في المائة من منازل غزة وغيرها، وهذه جميعها، أدلة تصب في خطة التهجير، وهو من ملامح الإبادة الجماعية”.
وردّاً على سؤال عن الأثر الذي يمكن أن يتركه حكم متوقع من العدل الدولية في هذا السياق، أشار بشارة إلى “أن الذهاب بالحكم إلى مجلس الأمن الدولي سيشكّل أزمة بالنسبة للدول التي من الممكن أن تستخدم الفيتو لإعاقة صدور قرار ملزم بتنفيذ حكم المحكمة، لأن حق الفيتو في هذه الحال في مجلس الأمن سيكون ضد 15 قاضياً دولياً من 15 بلداً غالباً ما يكون أحدهم أميركياً، وليس ضد دولة ما”، على حد تعبير بشارة.
ومعلوم أنّ أهمّية محكمة “العدل الدولية” تكمن في أنه يمكن التوجّه بأحكامها إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار ملزم بتنفيذها، عكس أحكام الجنائية.
بين “العدل الدّولية” و”الجنائية”
وفي انتظار أن تضع العدالة الدولية حدّا للعربدة الصهيونية، وتنقذ الفلسطينيين من حرب الإبادة التي تفتك بهم منذ ثلاثة أشهر، من المهم أن نزيل بعض اللبس عن العلاقة بين محكمة “العدل الدولية” و«الجنائية الدولية”، ونحدّد الفرق بينهما، لنشير إلى أنّ إجراء اللجوء إلى محكمة العدل الدولية يختلف في جوهره عن القضايا المرفوعة أمام الجنائية الدولية، والتي عادة تقدمها دول وأفراد ومؤسسات ضد أصحاب مناصب سياسية وعسكرية في دول أخرى بصفتهم الشخصية، فضلاً عن أن الإجراء أمام الجنائية الدولية عادة منوط بقرار رئيس المحكمة، والمتمثل بفتح ملفات تحقيق والمضي بها، وهو الأمر الذي لم يحدث في حالة فلسطين، على الرغم من تقديم الكثير من البلاغات ضد صهاينة، لكن لم يجر المضي بها قدماً كون المحكمة تخضع لاعتبارات سياسية.
من المهم أن ندرك بأنّ هناك تباينا بين المؤسستين القضائيتين، فمحكمة العدل الدولية تأسّست عام 1945، وتقع في لاهاي بهولندا، وهي من الأجهزة التابعة للأمم المتحدة ومختصة بتسوية وحل النزاعات القانونية بين الدول، وعلى هذا الأساس فإن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة يمكنها اللجوء إليها وتقديم شكوى للبت في القضايا والخلافات القانونية، وقراراتها نافذة وفي حال عدم تنفيذها من أحد الأطراف بالإمكان اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لفرض نفاذ القرار أو الحكم، وكذلك لها اختصاص استشاري يتعلق بتفسير الاتفاقيات والأحكام.
تتكون المحكمة من 15 قاضياً يتم انتخابهم لفترة تسع سنوات، وقضاتها يقومون بإصدار الأحكام بصفتهم القضائية دون اعتبار للدول التي يحملون جنسيتها أو التي رشحتهم.
أما محكمة الجنايات الدولية، فقد تأسّست عام 2002 بموجب معاهدة روما وتقع أيضاً في لاهاي، وهي ليست جهازاً من أجهزة الأمم المتحدة، وتختصّ بالنظر فى الجرائم الأشد خطورة على المجتمع الدولي، وهي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة وجرائم العدوان.
تعمل الجنايات الدولية كمحكمة دائمة ومستقلة، وتتدخل عندما تعجز المحاكم الوطنية عن ملاحقة الجناة أو عندما يحيل مجلس الأمن الدولي القضية إليها أو من خلال الدول الأطراف قى ميثاق روما المنشئ للمحكمة أو من خلال مدعى عام المحكمة بشكل مباشر، ولكن قراراتها لا تلزم إلا الدول الموقّعة على اتفاقية إنشائها أو انضمت إلى هذه الاتفاقية فيما بعد. تتكوّن المحكمة من 18 قاضياً يتم انتخابهم لفترة تسع سنوات.