ليس صدفة أن تتزامن تصريحات المسؤولين الصهاينة حول تهجير الفلسطينيين مع حرب الإبادة التي يخوضها جيشهم الدموي في قطاع غزّة منذ أزيد من ثلاثة أشهر.
منسوب العنف الذي يستخدمه هذا الجيش والطبيعة الوحشية لعمليات القتل التي ينفّذها والتي تتعمّد استهداف المدنيين والأطفال والنساء تحديدا والمتبوعة بحصار لم يشهد التاريخ قساوته، كلّها أفعال مخطّط لها مسبقا، القصد منها خلق ظروفٍ حياتية لا تطاق تحمل السكان المدنيين في نهاية المطاف على القبول بعرض الهجرة التي يصرّ سفّاكو الدماء على إلباسها ثوب الرحيل الطوعي وهي في الأصل تهجير قسري.
لا يمكن لإثنين أن يختلفا حول حقيقة ثابتة ظلّ الصّهاينة يروّجونها ويجسّدونها منذ أن غرسوا كيانهم الغاصب كالورم السرطاني في أرض فلسطين، وهي إفراغ هذه الأرض من شعبها باستعمال كلّ وسائل القمع والترهيب والإجرام.
فمنذ بداية الاحتلال وحتى قبله، راهن الصّهاينة على التخلّص من الفلسطينيين، ولتحقيق هذا الهدف، أطلقوا العنان لأيدي عصابات “ الهاغانا” و« الآرغون” و« الشتيرن” و«البالماخ “ وغيرها، لترتكب في حقّ أصحاب الأرض أعمالا إرهابية ومجازر مروّعة حصدت أرواح الكثيرين ودمّرت بيوتهم ونهبت أملاكهم، ما أرغم أزيد من 850 ألف فلسطيني شكّلوا آنذاك 61% من مجموع الشعب الفلسطيني على الهجرة، واستولى الكيان الغاصب على أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية والبالغة حوالي 27 ألف كم2. ليسجّل التاريخ في سنة 1948 أكبر عملية تطهير عرقي شهدها القرن الـ 20 وأفظع نكبة وتغريبة يسعى الصهاينة لتكرارها اليوم باستعمال نفس الأسلوب والوسيلة وهي القتل والتدمير والتجويع والتهديد لإرغام أهل غزّة على الرّحيل والتشرّد في المنافي والملاجئ مثلما وقع لأسلافهم.
خرجوا ولم يعودوا
لقد ارتكبت العصابات الصهيونية المُسلّحة مع قيام الكيان الغاصب قبل أزيد من سبعة عقود، نحو 70 مجزرة راح ضحيتها آلاف المدنيين الفلسطينيين، أما الذين سلموا من القتل، فقد فرّوا بجلودهم يحملون مفاتيح بيوتهم معتقدين بأنّهم سيعودون إليها في يوم من الأيام، لكنّ الاحتلال أغلق أبواب العودة أمامهم، ولم يترك لهم غير الملاجئ والشتات ولوعة فقدان الأرض والوطن، واتجه الفلسطينيون المُهجَّرون آنذاك في أكثر من اتجاه، وتركز معظمهم في المناطق الفلسطينية الناجية من الاحتلال، أيّ في الضفة وقطاع غزّة، في حين اضطر الباقي للّجوء إلى الدول العربية المجاورة، سوريا، والأردن ولبنان، ومصر والعراق. إلى جانب مجموعات تفرّقت في مختلف دول العالم، حتى البعيدة بآلاف الكيلوميترات. ويحتضن الأردن 41% منهم، يليه قطاع غزة 22%، ثم الضفة الغربية 16% فسوريا ولبنان 10.5%، كما يوجد بضعة آلاف من اللاجئين في كلّ من مصر والعراق.
و لم يسلم من الطرد وحملة التهجير القسري خلال نكبة وحرب 1948، سوى 151 ألف فلسطيني يقيم معظمهم في الجليل، وهؤلاء وصل عددهم خلال العام الماضي، إلى أكثر من مليونين وهم الذين يطلق عليهم إسم عرب 48.
أما في الضفة الغربية وغزّة، فقد بلغ عدد الفلسطينيين في 2023، نحو 5.48 ملايين شخص، وهو ما يُشكِّل قرابة 38% من نسبة كلّ الفلسطينيين الذين بلغ عددهم 14.5 مليون شخص حول العالم، ما يعني أنّّ 62% من الفلسطينيين يعيشون خارج بلادهم، وهو وضع ناتج بشكل أساسي عن حملات التهجير القسري التي لم تتوقّف سنة 1948، بل زادت حدّتها بعد حرب جوان 1967 التي شكّلت المحطة الأساسية الثانية في هجرة الفلسطينيين وتشريدهم، إذ أجبر 460 ألف فلسطيني على الرحيل إثر احتلال الضفة والقطاع، ليطلق عليهم لقب نازح ويصبح مجموعهم خلال العام المنصرم 1.6 مليون نازح فلسطيني.
وقد رافق تهجير الفلسطينيين عنوة، فتح الأبواب أمام استقبال المهاجرين اليهود الذين تمّ جذبهم من مختلف أنحاء العالم ليصبحوا النواة البشرية للكيان الصهيوني الذي تأسّس في الخامس عشر من ماي 1948 بعد القيام بعملية تطهير عرقي لم يحرّك لها العالم جفنا.
ورافق العمل الصهيوني لتحقيق أهداف الكيان الغاصب الإستراتيجية في فلسطين، توسيع الاستيطان ومصادرة واحتلال مزيد من الأرض الفلسطينية وتهويدها بغية تغيير معالمها الجغرافية والعمل بعد ذلك على فرض فكرة يهودية الدولة الصهيونية ببعديها الديموغرافي والجغرافي.
تهجير صامت وبطيء
يخطئ من يعتقد بأنّ الترحيل القسري للفلسطينيين من أرضهم قد توقّف يوما، بل على العكس تماما، حيث واصل الكيان الصهيوني من خلال ممارسة سياسات قهرية وعدوانية رهيبة، عملية تهجير صامت وبطيء أرغمت العديد من الفلسطينيين على المغادرة وخصوصا الشباب. وقد شملت هذه السياسات العنف والتضييق الاقتصادي، وهدم المنازل، والسيطرة على الأراضي، والاستيطان وتقييد الحركة، والاعتقالات، وتكثيف السياسات الأمنية، وغيرها من الأساليب القمعية التي حوّلت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق.
وبعد أن ظلّ مستترا لسنوات، ها هو الحديث عن التهجير يعود إلى الواجهة وبصوت مرتفع بالتزامن مع حرب الإبادة التي يشهدها قطاع غزّة منذ السابع أكتوبر الماضي. فقد كثرت تصريحات المسؤولين الصهاينة عن حتمية إفراغ القطاع من سكانه وتعويضهم بالمستوطنين، والمفارقة العجيبة أنّ هؤلاء المسؤولين المعروفين أكثر من غيرهم بالتطرف والعنصرية داخل الكيان مثل وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال، ووزير المالية، ووزير التراث، يحاولون إلباس التهجير ثوبا إنسانيا، حيث باتوا يتحدّثون عن التهجير الطوعي بدل القسري، ويطرحونه كحلّ إنساني حتى يعيش الفلسطينيون – على حدّ زعمهم – حياة طبيعية ومناسبة في بلدان أخرى تقول العديد من المصادر أنّه يجري التفاوض معها لاستقبال أمواج اللاجئين الجدد.
إفراغ غزّة. ..هدف العدوان
رغم أنّ الكيان الصهيوني يروّج بأنّ حربه على القطاع هي لاستئصال حماس وتحرير أسراه، فإنّ جلّ المراقبين السياسيين يجزمون بأنّ التهجير القسري للفلسطينيين، يمثل الهدف الأكبر للاحتلال من عدوانه الغاشم على غزّة.
ويرى هؤلاء المراقبون أنّه ورغم وجود العديد من الأهداف المعلنة للكيان الصهيوني والتي يتحدّث عنها قادته ليل نهار، إلاّ أنّ الهدف المستتر، والذي لا يأتون على ذكره يظلّ دائما، هو التهجير القسري الجماعي للفلسطينيين ليس من غزّة فقط، ولكن من الضفة الغربية أيضا. ويضيفون بأنّ الجرائم التي ترتكبها القوات الصهيونية من عمليات قصف وقتل وحصار وتجويع وتشريد وتدمير لكلّ مقوّمات الحياة، لا تترك إلا خيارا واحدا أمام الفلسطينيين وهو القبول بالخروج قسرا أو طوعا فرارا من الجحيم.
ويقول هؤلاء أيضا، أنّ الاحتلال ودون الإفصاح عن نيته في تهجير قسري للفلسطينيين من غزّة، يسعى لأن يجعل سيناريو التهجير بمثابة الأمر الواقع، بمعنى أنّه يهيئ الظروف التي تقتل كلّ مقوّمات الحياة داخل غزّة، ثم يقوم في نفس الوقت بدفع السكان في اتجاه واحد، نحو الحدود بحيث يحتشدون هناك في وضع إنساني لا يطاق ليلاحقهم بغاراته وقصفه إلى هناك، ما يجعل مصر تفتح لهم أبوابها لنجدتهم. وهذا السيناريو بالفعل راهن عليه الكيان الصهيوني لكن مصر أجهضته برفضها المطلق لتهجير الفلسطينيين وإخراجهم من أرضهم، لهذا بدأ يتحدّث عن الهجرة الطوعية إلى أماكن أخرى من العالم.
كما يعتبر خبراء عسكريون من جهتهم، أنّ العمليات الصهيونية، والتي باتت أكثر عنفا في جنوب القطاع، تؤكّد استمرار دفع الاحتلال باتجاه سيناريو التهجير القسري لسكان غزّة. كما يعتبرون أنّ عملية التهجير قد بدأت بالفعل في شطرها الأول، حيث تمّ إفراغ شمال قطاع غزّة من أهله، ورغم أنّ الإحتلال أعلن انتهاء عملياته هناك، إلاّ أنّه يعارض عودة نحو مليون غزّي إلى منازلهم.
تغيّرت الأسماء والهدف واحد
بين الصاخب والصامت، والقسري والطوعي، يبقى التهجير حقيقة ثابثة في سياسة الكيان الصهيوني، الذي سخَّر مؤسّساته وقوانينه منذ نشأته من أجل إفراغ فلسطين من شعبها.
وإذا كان التهجير هدف ثابت، ووسيلته واحدة وهي العنف، فالمتغير اليوم هو المسمى، حيث استبدل الصهاينة مصطلح التهجير القسرى بمفهوم الهجرة الطوعية بهدف الإفلات من المحاسبة على اعتبار أنّ التهجير القسري جريمة يعاقب عليها القانون الدولي.
ويعرف التهجير القسري بأنّه إبعاد الأشخاص عن أراضيهم بشكل دائم أو مؤقت، بدون إرادتهم وبدون توفير الحماية القانونية أو غيرها من الوسائل الأخرى.
ويكون التهجير القسري عبر الاستهداف المباشر بالأعمال العسكرية، أو من خلال إخضاع السكان لوسائل الترهيب والتهديد والضغط والاضطهاد، ومنها قطع إمدادات الغذاء والماء والدواء والعلاج وسائر مستلزمات الحياة.
ويندرج التهجير القسري ضمن جرائم الحرب والإبادة الجماعية، وفق ما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدولية. ووفق ما ورد في هذا النظام، فإنّ “إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضدّ أيّ مجموعة من السكان المدنيين، يشكّل جريمة ضدّ الإنسانية”.
الفلسطينيون: نموت على أرضنا
رغم أنّ الكيان الصهيوني” أبدع” في خلق بيئة طاردة لهم، إلاّ أنّ سكان قطاع غزّة متمسّكون بالبقاء في بلادهم مؤكّدين بأنّ الفلسطيني عقيدته التمسّك بأرضه وعدم تركها حتى لو عانى ظروفا معيشية صعبة كما يعيشها حاليا.
ولا يتردّد النازحون الذين يواجهون وضعا إنسانيا رهيبا في رفض مخطّطات التهجير التي يرسمها الإحتلال، مؤكّدين تشبّتهم بأرضهم وبالعودة إلى منازلهم، قائلين :« لسنا مستعدّين لترك أرضنا ولو أعطونا بدل رمالها ذهبا. .. نار غزّة ولا جنّة العالم”.
كما أدانت الرئاسة الفلسطينية المؤامرة الصهيونية، وقالت “ إنّ التهجير القسري لسكان غزّة خط أحمر لا يمكن تجاوزه”.
وذكرت القيادة الفلسطينية في بيان، أنّها تؤكّد «على منع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، واعتباره خطاً أحمر لن نسمح بتجاوزه، كما لا يجب السماح بتهجير الفلسطينيين من بيوتهم في القدس أو الضفة”.
وأكّدت بأنّ «الأمن والسلام لن يتحقّقا إلا بحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، وإنهاء الاحتلال لأرض دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية وحلّ قضية اللاجئين وفق قرار الأمم المتحدة 194».
وعبّرت العديد من الدول العربية والغربية عن رفضها التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزّة إلى الخارج، واعتبرته أمرا لا إنسانيا فضلا عن مخالفته للقانون الدولي.
يبقى في الأخير أن نشير إلى أنّ سكان قطاع غزّة في عمومهم من اللاجئين الذين استقرّوا بها ضمن هجرات قسرية سابقة، وهو ما يعني أنّ معظمهم عايشوا الهجرة بحدّ ذاتها، ويدركون جيّدا معنى ترك الأرض ومغادرة البيوت، كما يدركون الظروف المعيشية الصعبة التي ينتجها التشرّد واللّجوء، لهذا فهم يسخرون من فكرة التهجير، ويقولون بأنّ تهجير المهجرين مسألة مستحيلة، حيث تكوّن لديهم ما يشبه نظام مناعة تجاه هذا الأمر. ويخلصون إلى أنّ المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، فنكبة واحدة تكفي.