تختلف أنواع وأشكال الفن بالجنوب الغربي الذي يشتهر بطبوع عدة، تعود جذورها إلى آلاف السنين، منها ما اندثر ومنها ما ترقى وازدهر، وطبع آخر يحاول جيل اليوم رد الاعتبار إليه، كونه موروث ثقافي تاريخي ترك بصمته في الساحة المحلية وحتى الوطنية، ومن هذه الطبوع فن “العيطة” أو “اللغيط” الذي يميز أعراس الجنوب الغربي، خاصة ولايات النعامة، البيض وبشار، كما يتزامن ـ عادة – مع ألعاب الفروسية أو الفنتازيا
«اللغيط” حسب ما هو معروف محليا، ينتشر بالأعراس، خاصة في أغاني النسوة، فهو عبارة عن مقطوعات أو وصلات فنية منفردة تقدمها إحدى النسوة كفترة استراحة بعد ترديدهن لأغان متنوعة خلال عرس ما، ويكون هذا النوع الفني على شكل نداء، أي بصوت مرتفع عكس الغناء الجماعي للمجموعة النسوية، تتفنن فيه صاحبته بصوت عذب تارة، وحزين تارة أخرى، فهو فن من الفنون الشعبية الأصيلة يعود أصله إلى آلاف السنين، كما كان له صدى أيضا خلال الثورة التحريرية المجيدة – حسب بعض الروايات – ويتغنى بكل الطبوع سواء الغزل أو المدح..
رسائل مشفرة لتنبيه المجاهدين
يقول أحد شيوخ المنطقة بمدينة العين الصفراء ولاية النعامة، إن فن “اللغيط” كان له حضور كبير أثناء الثورة التحريرية، وذلك لإعلام المجاهدين في حالة تواجد الجيش الفرنسي أو أحد العملاء في المكان الذي يقام فيه العرس، وعن طريق تلك “العيطة” التي تطلقها المرأة بشكل غير معروف، أو برسائل مشفرة لا يعرفها إلا أصحابها، وذلك بعد تلقين هذه المرأة ما تقول، ونفس الشيء بالنسبة للرجل، خاصة حينما يستعمل أهل العريس موسيقى الغايطة أو القصبة، فتتخللها وصلات غنائية منها “اللغيط” الذي يسبق طلقات البارود، فهو الآخر يرسل رسائل مشفرة للمجاهدين.
اللغيط معناه.. النداء
اختلفت الروايات عن أصل ومعنى كلمة “اللغيط” وبدايته، وفي هذا الشأن تؤكد الشاعرة أم عمر من منطقة الشلالة بولاية البيض في تصريح لـ«الشعب”، أن فن اللغيط يعد من أقدم الفنون الجزائرية بالجنوب الغربي، بل بالغرب ككل، وهو من عادات وتقاليد المنطقة، يكون دائما قبل بداية مباريات الفروسية أو الفنتازيا، وقالت: “هو تراث ضارب في التاريخ، ومعناه النداء، والنداء دائما يكون بصوت مرتفع”، وأضافت أم عمر أن اللغيط هو فن وتراث يتغنى به في الأفراح، على غرار الزواج والوعدة، ويقال فيه كلمات وأشعار مختلفة ومتنوعة رمزية لها معنى ودلالات لشباب وفتيات في الماضي، مثلا، الرجال كانوا يتغنون بالمرأة وبجمالها خاصة “الوشام” الذي كان يعتبر آنذاك زينة المرأة، وبالمقابل، كانت النسوة يتغنين بدورهن بالرجل وشهامته خاصة الفارس وصاحب البارود..
روايات متعدّدة بشأن تاريخ اللغيط
وعن تاريخ هذا الفن وطريقة إلقائه وأهم كلماته، أكدت الشاعرة أم عمر أن “فن اللغيط كلام موزون يمتاز بوزن الملحون، وقد تضاربت الآراء والأقاويل عن بداياته وتاريخه الأصلي، فالبعض يرجعه إلى ابن أحد الملوك أو رئيس قبيلة كان يحب ابنة عمه، وخلال عودته في يوم من الأيام من رحلة له، وجدها قد تزوجت بغيره، وبعد انطلاق موكب العرس في قافلة وفي وقت قصير فقط، لحق بالقافلة وأوقفها وأصبح يلقي كلمات وشعرا بصوت مرتفع عن محبوبته وعن هذا الغدر الذي لحق به، خاصة وأن الجميع كان على علم بحبه لابنة عمه”.
وفي رواية أخرى، تقول أم عمر حسب ما روته لها جدتها، فإن بداية فن اللغيط كانت كلمة “فاطنة”، وفاطنة هي أول عيطة أو كلام بصوت مرتفع قيل في هذا الفن بالصحراء، حيث كان أحد الفرسان في إحدى الغزوات، وحين عاد، وجد محبوبته قد زُوجت لغيره، فلحق بها مناديا باسمها فاطنة.. فاطنة وبصوت مرتفع، وعند وصوله إليها قال شعرا عن هذه الخيانة، وأخرج مسدسه فقال مقولته الشهيرة “الكابوس (المسدس) اللي ما يقتل فاطنة واش ندير بيه”، فقتلها وانتحر بنفس السلاح..
وقالت أم عمر إن هذه بعض الروايات المتداولة بشأن فن “اللغيط”، ولكنها غير موثقة، مؤكدة أن هذا النوع من الفن يحتاج إلى توثيق، لأنه موروث شعبي وتراث لا مادي تزخر به المنطقة، كما أنه كلام أو فن تكون بدايته دائما بذكر الله ورسوله الكريم، مثل الصلاة والسلام على رسول الله، سواء بالنسبة للرجال أو النساء، مضيفة أن “هذه الكلمات أو الأشعار التي تقال في اللغيط تعاد لمرتين أي دائما فيها تكرار”، فعلى سبيل المثال من الكلام الذي يقال عند إخراج العروس هو: “صلوا على محمد، صلوا على محمد سيد فاطمة ورقية”، وعندما تركب العروس فوق الجمل يقال “شرقوب كحل العين شرقوب كحل العين خلا غير المنصب (أي المراح)”، أما عن الخيل: “عودي بغا مشوار، عودي بغا مشوار قال الرباط كتلني”، ويقال عن الجمل “دنو ما يرغيش دنو ما يرغيش غير بالقمح يمشي”.. وغيرها من الكلمات التي يلقيها رئيس الفرقة أو مقدم الفرقة، قبل انطلاق العرس أو الاحتفالية، خاصة خلال حفلة الفنتازيا..
هذا الشعر أو القول أو اللغيط – حسب الشاعرة – يبعث الحماس في الفرق الفنية والفارس وحتى الحصان، خاصة وأنه يلقى بصوت مرتفع، كما أنه كثيرا ما يصاحب معزوفات بآلة القصبة، يغلب عليها طابع الحزن.
وتقول السيدة خضراء من ولاية النعامة، إحدى المهتمات بهذا النوع من الفنون: “اللغيط فن لا تعرفه جميع النسوة، “فهو يختلف عن الغناء العادي في طريقة أدائه، وغالبا ما يكون بدون موسيقى أو آلات البندير والدف، باستثناء آلة القصبة، حيث يؤدى بشكل حزين وبصوت مرتفع كالنداء ومن طرف شخص واحد فقط”، وحسب السيدة خضراء التي أكدت أن “اللغيط له مواضيعه الخاصة وذات مضمون خاص مستمد من الحياة الاجتماعية اليومية لحياة الإنسان، أحيانا تؤدي من خلاله المرأة مديحا دينيا تمدح من خلاله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأحيانا يكون رثاء لمن فقدته، أو غزلا تخاطب فيه حبيبها”.
اللغيط.. شعر يشوبه الحزن
يرى الفارس حسين درويش، أحد فرسان “الخيالة” بمدينة العين الصفراء، ورئيس جمعية “النور للفروسية” أن القول أو ما يسمى بـ«العايطي” أو “اللغيط” عند الخيالة، هو عبارة عن أبيات شعرية تعطى لها نغمة أو لحن خاص بنبرة يشوبها الحزن، ما يؤثر على سامعيها، وكما هو معروف، يقول في حديث مع “الشعب”، فإن الفروسية اقترنت بالشعر، كما أن الفرسان يتغنون بجمال خيولهم ومواصفاتهم ومدح للمشايخ، وتعريف بالصالحين من علماء وزهاد الأمة، فمنهم من ينسب إلى جده للتعريف بأصله ومنهم من يتغنى بسحر الصحراء وجمالها، وكما هو معروف فإن الشعر اقترن بالفروسية منذ الأزل.
وأضاف الفارس درويش أنه خلال الحروب كانت تلقى هذه القصائد في بداية المعارك لتحفيز الفرسان المقاتلين على الثبات في أرض المعركة، فبقيت ميزة يتغنى بها إلى اليوم، قال شاعر:
صاطني ريح تهوال
وتفكرت بكري العود وخصالو كانوا رهبة للعدو يوم القتال
عودات وعياد للحيف يوالو بيضة وبيض كي ثلج علا لجبال
ولا جير علا صوامع يطوالو حمرة وحمر بنعمان فاتح وكبال
ولا يحجل وناصية تنجالو زرقة وزرق طابع لعلفة هروال
مكمول لوجبة لخاطر يحلالو دهمة ودهم صيفته
ليلة ظلمة طاح بكحالو مخوض عينيه في نظرة قتال
متكوري علا الأزمة ضايق حالو
الڤول.. فن يعبر عن مشاعر الإنسان
تقول الفنانة “فضيلة ب« من ولاية البيض، إن القول (بالقاف المعقودة) هو أحد فنون التعابير الشفوية الشعبية التراثية الذي يتغنى به في الأفراح والمناسبات، ويعتبر فن لأنه تعبير عن مشاعر الإنسان الصادرة عن واقعه بفرحه وقرحه، ويعرف أيضا بـ«التريميد” وهو عبارة عن كلمات لها مضامين متنوعة ترددها النساء، ويعرف “الڤول” في عدة مناطق من الجزائر ولكن تختلف تسمياته من منطقة إلى أخرى.
وتضيف فضيلة أنها ستتحدث عن فن الڤول في ولاية البيض، والتي لطالما عرفت بموروثها الشعبي وبعاداتها وتقاليدها وتمسكها بأصالتها البدوية العريقة، مبرزة في سياق حديثها أن فن الڤول أحد تراث هذه المنطقة، ويردّد في ولاية البيض في المناسبات والأفراح، وقد عرف قديما عند النساء، حيث كن يجتمعن على شكل دائري وينقسمن إلى جماعتين، جماعة تقول وجماعة تردد، ويستعملن في أدائه “البندير” تتخلله مقاطع منفردة من إحدى النسوة بكلمات اللغيط.
كما تقول المتحدثة، كثيرا ما سمعت الڤول من عند الجدات والعجائز، حيث تردده بلغتها الخاصة مستعملة فيها طريقة اللحن “الجر” الصحيحة التي تشدك للاستماع إليه رغما عنك، وأكدت أن ما يزيد لإلقائه صبغة خاصة، هو اللباس الذي ترتديه المرأة “لباس الشرڤ” والذي يعرف باللباس التقليدي للمنطقة (عباية بيضاء وفضفاضة، وخمار كبير مشدود بقطعة فضية تسمى الشماسة، إلى جانب العصابة أو كما يقال الحواق وهو عبارة عن قطعة قماش بيضاء يحزم بها الرأس.. والحزام وهو أيضا عبارة عن خيوط”.
فن اللغيط لا يزال يصاحب الأعراس التقليدية بالجنوب الجزائري، ومكانه بين الأغاني النسوية، أو في الفنتازيا، خاصة في المناسبات الموسمية كالوعدات، وقد حاولت بعض الفرق الموسيقية ترديده في أغانيها، على غرار فرقة “نجوم الصف” بسبدو ولاية تلمسان التي كثيرا ما تبدأ أغانيها بكلمات على لسان رئيس الفرقة على شكل اللغيط، كأغاني: سيدي يحي بالشمع نضويك، يا القمرة ديري دارة ولعبي دارة، وسهر يا لغزال.. وغيرها من الأغاني التي لقيت رواجا كبيرا حين صدورها..
رغم التطور التكنولوجي الذي طرأ على المجتمع ولكن لا تزال مكانة هذا الفن أي اللغيط شامخة إلى يومنا هذا، فهو فن من التراث اللامادي في الجزائر عامة وفي الجنوب الغربي خاصة، غير أنه اليوم يحتاج من الباحثين والمهتمين بهذا الموروث الثقافي الذي يكاد يندثر توثيقه ونفض الغبار عنه والحفاظ عليه وعلى كلماته، ناهيك عن الاهتمام به وجمعه وتصنيفه، لأنه جزء من تراث وهوية هذا الوطن مثله مثل بقية الفنون الأخرى.