يرى خليل عزة، أستاذ جامعي وباحث في قضايا الاتصال المعاصر، وكاتب وناقد إعلامي، لأنه من المجحف إنكار وجود بعض المواهب المؤهلة -على قِلّتها- من المؤثرين، ذلك لأن بعضهم يملك من الموهبة والأداء المميز ما يؤهله ليكون ممثلا جيدا، ولفت خليل بن عزة الى أن أغلب ما قدّم ويقدّم من أعمال فنية درامية مؤخرا لم يخرج عن الإطار التّقليدي، ومازالت نقاط الضعف الرئيسية تتمثل في ضعف انتقاء السّيناريوهات، ومشاكل كبيرة في عنصر التّمثيل.
وأشار الناقد الاعلامي في حوار مع “الشعب” الى أنّ المتابِع لمنظومة القيم التي تُقدِّمها الدّراما الرّمضانية ببلادنا وتَعرضُها القنوات التِّلفزيونية على شاشاتها، لابد أن يتوقف عند عدد من المؤشرات السلبية التي لا يمكن التّسامح معها، من بينها أنّها لم تعد تقدِّم رسائل سامية يستفيد منها الفرد والمجتمع، ولا تبحث عن تصحيح أوضاع ما، بل تلهث وراء الأرباح المادية وارتفاع نسب المشاهدة واستثمارها في نشاطات أخرى.
كما دعا المنتجين والمخرجين وكتاب السّيناريوهات وكل المساهمين في صناعة الدراما، إلى مُراعاة تحقيق التّوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع من جهة، والخصوصية الثّقافية والأمنية والمسؤولية الاجتماعية من جهة ثانية.
الشعب: في السّنوات الأخيرة، يتَّجه صُنّاع الدّراما التلفزيونية إلى استقطاب مشاهير مواقع التّواصل الاجتماعي، كيف تعلقون كباحث أكاديمي وناقد إعلامي، على هذه الظاهرة؟
خليل بن عزة: بالفعل، لقد صار لرواد مواقع التّواصل الاجتماعي أو من يُطلق عليهم تسمية “المؤثرون”، حضور لافت في الأعمال الفنية الدرامية، فصرنا نُشاهدهم يجسدون أدوارا ويتقمصون شُخوصاً في العديد من الأعمال المعروضة على الشاشة التلفزيونية، بما في ذلك المعروضة في شهر رمضان. ما خَلق إشكالًا هاما يتداوله الكثير من المتخصصين والنٌقاد، باحثين عن سبب قُدرة هؤلاء على سحب البساط من المتخصصين الأكاديميين في مجال الصّناعات الثّقافية عموما، والفن والدّراما والسّينما وكل ما يدور في هذا الفلك على وجه الخصوص.
وبعيدا عن الرؤية الأكاديمية، دعونا نؤكد أولا على الرٌؤية الواقعية التّي صارت تَفرض نفسها في السّياقات الفنية ببلادنا وخارجها، إذ يبرر الكثير من المنتجين وكذلك بعض المخرجين، الاستعانة بهؤلاء “المشاهير” بالرغبة في اكتشاف وجوه متميزّة وضخّ دماء جديدة، والسبب بحسبهم هو ضعف مستوى التّكوين الأكاديمي في مجالات الفنون ومنها التمثيل، مؤكدين أنهم وجدوا في الشّاشات النّيو-ميديائية الصغيرة (تطبيقات التّواصل الاجتماعي) فضاء خصبا لانتقاء مواهب تمثيلية وطاقات إبداعية، وإظهارها على الشّاشة الميديائية الكبيرة (التلفزيون). فمواقع التّواصل كمنصات جاهزة، صارت -بحسبهم- عبارة عن كاستينج سريع لاختيار الوجوه الفنية، فضلاً عن أنّ نجومها لهم قدرة ودراية عالية في تسويق أنفسهم، ووجودهم في الأعمال الفنية سيُسهم في جذب عدد أكبر من المشاهدين، إلى جانب العملية التّسويقية الأكبر للعمل الفني.
لكن، إذا استثنينا الدّوافع التّسويقية والتّجارية، ألا يؤثر هذا النوع من الانتقاء، على مستوى الأعمال الفنية الدرامية من النواحي الفنية والتقنية، أي على جودة الأعمال الدّرامية من حيث الشكل؟
من النّاحية الفنية، لا نُنكر أن لبعض الوجوه المنتقاة من مواقع التّواصل الاجتماعي، حدّ أدنى من التّأهيل للوقوف أمام الكاميرا والظهور عبر الشاشة كممثلين، ويسهل بعد ذلك على المخرج تطوير قدراتهم الفنية وتحسين أدائهم التّمثيلي، لذلك يجب أن نعترف بدون تطرف أنهم يمتلكون بذرة النجومية بما أنهم استطاعوا الحصول على الجماهيرية والانتشار من خلال ما يقدمونه عبر مقاطع الفيديو التي ينشرونها عبر حساباتهم الخاصة على السٌوشيال ميديا، والتي هي بمثابة شاشة سينمائية صغيرة، ويحصدون عبرها أعداداً كبيرة من المتابعين، ما جعل الاستعانة بهم مُساهما كذلك في نجاح بعض الأعمال الفنية. لهذا من المجحف إنكار وجود بعض المواهب المؤهلة -على قِلّتها- من المؤثرين، ونتفادى الرفض الراديكالي لكل ما تقدمه السوسيال ميديا للساحة الفنية من ممثلين، ذلك أن بعضهم يملك من الموهبة والأداء المميز ما يؤهله ليكون ممثلا جيدا، والدليل على ذلك ما حققه البعض من نجاح كبير، سواء ببلادنا أو في بلدان أخرى. فالمستوى الفني الشكلي لم يتأثر كثيرا من ذلك بصراحة.
فيما يتعلق بالجوانب التّجارية، ما الذي يقدّمه هؤلاء المؤثرين للإنتاج الدرامي بالتّحديد؟
في صناعة الصّورة عموما، وخاصة السّينما والدّراما، نحن نتحدث عن صناعة ثقافية إعلامية سمعية وبصرية، ذات غرض ربحي في نهاية المطاف، لهذا من البديهي أن يحظى من يملك أكثر من مليون متابع باهتمام صُناع الدّراما ومُنتجيها على حساب الشباب المغمور وإن كان موهوبا ومتكوّنا في مسارح ومدارس فنية أكاديمية عالية المستوى من حيث التّكوين والتّأهيل، لهذا صار -بالنسبة للمنتجين- تواجد هؤلاء جنبا إلى جنب رفقة نجوم التمثيل الكلاسيكيين أو الأكاديميين في أعمال واحدة، بمثابة اللّمسة العملية التي تُضيف لكلا الطرفين، وكذلك للعمل الفني نفسه، وأهم من ذلك للعملية التّسويقية للعمل عند الانتهاء منه وأثناء عرضه.
هل أنتم مع فكرة استقطاب مؤثري السّوشيال ميديا في الأعمال الدرامية الجزائرية، أم ضد ذلك؟
سأحاول الإجابة عن هذا السّؤال الهام بموضوعية وواقعية في الآن ذاته، دعونا نقول إنه لئن كُنّا لا نجد عيباً في استخدامهم إنتاجياً وإخراجياً لأغراض تجارية وتسويقية، إلا أننا ننتقد بشدّة التّركيز عليهم دون العمل في حد ذاته، ومختلف مقوّمات نجاحة الضّرورية ألا وهي النّص الجيد، السّيناريو المُتكامل، والفكرة الخلاقة، والإخراج المحترف، الكفاءة الختامية المُنتجة، والنّوايا السّليمة والبنّاءة.
ما تقييمكم للأعمال الفنية الدّرامية التي تُقدّم ببلادنا، خاصة في شهر رمضان الكريم؟
مع احترامنا الشديد لكل ما قُدِّم ويُقدّم من قبل المنتجين والمخرجين، من أعمال فنية درامية مؤخرا، سواء كانت دراما اجتماعية أو سلسلات كوميدية أو دراما وثائقية.. نعتقد أنّ أغلبها لم يخرج عن الإطار التّقليدي، ومازالت نقاط الضعف الرئيسية تتمثل في ضعف انتقاء السّيناريوهات أولا، ومشاكل كبيرة في عنصر التّمثيل ثانيا.
فأمّا السّيناريو فيُلاحَظ فيه بجلاء غياب النصوص المهمة سواء كانت أدبية أو تاريخية أو اجتماعية.. والتي تُغذي المجتمع معرفيا ووجدانيا وقيميا، وكذلك تفتقد حواراته إلى العمق والتّسلسل المنطقي. وأما عنصر التّمثيل فلا شك أنه لم يصل بعد إلى مرحلة الإقناع، وخاصة مع بعض مشاهير السوشيال ميديا الذين يتم انتقاءهم، وكذلك اعتماد المحسوبية والمحاباة -أحياناً- في انتقاء وجوه أخرى وإن كانت أكاديمية، لهذا وبشكل عام، نقول بكل صراحة أنّ أغلب الممثلين أظهروا أنهم ليسوا سوى مُؤدين لأدوار أُعطيت لهم، ولا قدرة لهم على تقديم الأداء المقنع بتقمص ومحاكاة مكنون الشخصيات الدرامية، ونستثني في ذلك قلّة قليلة من الوجوه التي تتمتع بالكفاءة والخبرة والمستوى الجيد.
مِن أهم الإشكاليات التي أفرزتها الصّناعات الدّرامية المُقدّمة في السنوات الأخيرة ببلادنا، تلك المتعلقة بتهديد قيم المجتمع الجزائري، والأمن الفكري الواجب حمايته داخل أمتنا، ما الذي ينبغي الحذر منه؟
فعلاً، فالدراما كوسيلة اعلام جماهيرية ساخنة، لها قدرة خارقة على التأثير في عقول الجماهير، وتغيير المنظومات القيمية للمجتمعات، وكما نعلم تعتبر القيم والثّقافات هي الحمض النّووي للجماعات البشرية والشعوب، وهي أساس الاستقرار النفسي الأنطولوجي للفرد، والأمني السوسيولوجي للدول. لكن في هذا العصر المتغير والمتسارع بفعل التطور التكنولوجي وتشجيع الاستهلاك، نُلاحظ ابتعاد الفرد والمجتمع عن القيم أكثر فأكثر بالفعل والقوة والإكراه، والسبب في ذلك هو الانبهار بكل مُستحدث جديد تستخدمه الرأسمالية العالمية كسلاح إضافي لتكريس المزيد من الاستهلاك، والذي يتجلى في التغيير الدوري للسلوكيات لدى الجماهير التي تتجاوب سريعا مع أي نمط ثقافي تفرضه يومياً المنظومات النيوليبيرالية وتسعى لغرسه، واسعة من ورائه إلى تفتيت الأنوات الثّقافية والقيمية والسّلوكية.. لتحقيق أغراض إمبريالية مختلفة.
ولأن الصّناعات الثّقافية عموما والدّرامية على وجه الخصوص لا يمكنها السّباحة عكس تيار الرأسمالية المتوحِّشة، بما أن هدفها كذلك مادي ربحي، صارت تُواكِب موضة النّماذج السّيئة حتى في المجتمعات المحافظة والانتقالية، من خلال الأعمال المعروضة عبر وسائل الإعلام سواء الجماهيرية التّقليدية أو التّفاعلية الجديدة، والأدهى والأمرّ أن هذه النّماذج مع مرور الوقت تتحول إلى أشياء مألوفة، خاصة أن الدّراما التّلفزيونية في بلادنا، وبخاصة الرّمضانية، تحظى بنسب مشاهدة عالية، لدرجة صارت جزءا لا يتجزأ من طقوس الشّهر الفضيل.
إنّ المتابِع لمنظومة القيم التي تُقدِّمها الدّراما الرّمضانية ببلادنا وتَعرضُها القنوات التِّلفزيونية على شاشاتها، لابد أن يتوقف عند عدد من المؤشرات السلبية التي لا يمكن التّسامح معها، من بينها أنّها لم تعد تقدِّم رسائل سامية يستفيد منها الفرد والمجتمع، ولا تبحث عن تصحيح أوضاع ما، بل تلهث وراء الأرباح المادية وارتفاع نسب المشاهدة واستثمارها في نشاطات أخرى مربحة لعلّ من أهمها الإشهار، فلا تتوانى في سبيل الحصول على ذلك، عن تجاوز المحظور بتقديم مشاهد العنف والإثارة، واختراق القيم وانتهاك الأخلاق، كأسباب براجماتية تبرر غاياتها في الكسب والربح المضمون.. الجماهير بطبيعتها البسيكوسوسيولوجية سهلة الانقياد والتأثر، ومن الخطر تركها بأيدي المؤسسات الإعلامية لتتلاعب بعقولها، عبر النافذة السحرية المُكرِّسة لاعتقاد المُشاهد المسكين -بسذاجته- أن محتوى الدراما التلفزيونية هو تمثيل للحياة الحقيقية وتجسيد للواقع، وشعوره بأن المحتوى الدرامى التلفزيونى يُعد مصدرا آمناً من مصادر المعلومات حول عديد الموضوعات والقضايا، وكذلك خطورة تماهي المُشاهِد مع الشّخصية الدرامية التي يعيش معها ويحاول تقمصها وجدانيا، فيقلدها من حيث الشكل والمضمون، سالكا طريقة الملبس والألفاظ والتعبيرات الجسدية والتقليد في السلوك، وترويج المقاطع المجتزأة عبر مواقع التّواصل الاجتماعي، ونشرها بما تحتويه من ألفاظ مشهورة بها، وتناقلها وتداولها ومشاركتها بكل ما تحمله من حمولة خطيرة إذا فحصناها بأدوات منهجية سيميولوجية رصينة، نقول ذلك ونحن نؤكد بأن الدراما صارت تُشكِّل وجدان عوام الناس البسطاء اجتماعيا وماديا، وبطريقة أعمق مما قد تحدثه جميع وسائل التنشئة الاجتماعية ومؤسسات صناعة الوعي الأخرى كالمدرسة والجامعة والمجتمع المدني والمؤسسة الدينية.. وغير ذلك، فتعمل على تكوين صورة ذهنية تجاه بعض الشخصيات والوظائف والمفاهيم وأسلوب العيش، بل والعديد من قضايا الحياة في الوجود والمعرفة والقيم.
هل من حلول مقترحة، لمـجابهة أخطار سلبيات الدّراما التّلفزيونية على المجتمع الجزائري؟
تبقى الرّقابة -ولا ريب- وسيلة فعّالة لذلك، ويكون ذلك عبر سُلطات ضبط كمؤسسات تابعة للدولة، تضرب كل اختلال أو تجاوز طارئ بقوانين وتشريعات صارمة وعادلة، نقول ذلك دون أن نقصد بكلامنا فرض القيود على حرية التّفكير والتّعبير والإبداع، لكن يجب أن يتحمّل مسؤولياته كاملة كل من يُقدّم عملاً يتعارض مع ثقافة مجتمعنا، وقيمه الرّوحية، أو يُعرِّض بلادنا -أمّةً ومجتمعاً- لأخطار أمنية أو فكرية لا يُحمد عقباها.
كذلك وجب على القائمين على المنظومة الإعلامية ببلادنا، وخاصة القنوات التّلفزيونية، التّحلي بالمسؤولية الاجتماعية والالتزام بقانون الإعلام ومختلف المدوّنات القانونية العضوية والضبطية، وأخيرا ندعو المنتجين والمخرجين وكتّاب السّيناريوهات وكل المساهمين في صناعة الدراما، إلى مُراعاة تحقيق التّوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع من جهة، والخصوصية الثّقافية والأمنية والمسؤولية الاجتماعية من جهة ثانية، والشّعور بأهمية دورهم فى تربية وتنشئة الأجيال المقبلة، والمساهمة في تقديم البلد وتصديره للعالم في صورة إيجابية ومنتجة.