تُحيي الجزائر الذكرى الـ62 للاستقلال، في سياق وطني اكتملت ملامح تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وفي سياق دولي مضطرب، استرجعت فيه الدبلوماسية الجزائرية مكانتها وتقدّمت طليعة الدول المدافعة عن القضايا العادلة والحاملة لصوت إفريقيا والعالمين العربي والإسلامي، وتستعد لموعد انتخابي رئاسي هام سيعزّز خيارات الإصلاح العميق.
يقترن الاحتفال بعيدي استرجاع السيادة الوطنية والشباب، هذه السنة، مع الوضوح التام للمشروع السياسي والاقتصادي للبلاد، القائم على تنفيذ كافة مقوّمات التنمية الشاملة والرفع من مؤشرات التطوّر.
وضمن هذا الزخم، انتشرت الدعوات، لجعل يوم غد الجمعة المصادف لـ 5 جويلية، مناسبة لرفع العلم الوطني فوق المنازل وإظهار الرايات من على الشرفات، مع شعار «لن ننسى» الذي يخلد تضحيات الشهداء والمجاهدين، الذين كافحوا بالسلاح والدم ضد الاستعمار الفرنسي.
ويتزامن الطموح الاقتصادي المتصاعد، مع تنامي مظاهر اعتزاز الجزائريين بتاريخ دولتهم، وتصدرهم واجهة مختلف منصّات التواصل الاجتماعي، لتعزيز السمعة الخارجية للبلاد والدفاع عن مقوّماتها، والرّد بكل قوّة على الهجمات والحملات الالكترونية التي تستهدفها بشكل منتظم.
وما تعيشه الجزائر، خلال هذه المرحلة وبالتقاء مختلف السياقات، يمكن وصفه بـحالة «الدفع نحو الأمام»، لأن الجميع يريد تقدّم البلاد واستغلال إمكاناتها الهائلة سواء البشرية أو المادية، بما ينسجم مع تطلعات الشعب الجزائري في التنمية والتطوّر.
رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، أخذ على عاتقه وضع المشروع الوطني وقيادته، عبر 54 التزاما تشمل مختلف الجوانب السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية والأمن والدفاع والسياسة الخارجية.
وعند انطلاق هذا المشروع، كان هدفه المرحلي الأول، هو استعادة المكانة القارية، أي بإعادة البلاد لدوره الطبيعي كفاعل ومؤثر وحامل للواء إفريقيا في الحافل الدولية، وأيضا استعادة الجزائر لمقومات شخصيتها الدولية المرموقة كمدرسة للنضال والفكر التحرري وكصوت قوي مدافع على نظام دولي عادل.
ووفق الأرقام والأحداث، فقد ختمت الجزائر سنة 2023 كثاني أقوى اقتصاد في القارة الإفريقية، بناتج داخلي إجمالي خام فاق الـ 270 مليار دولار وبنسبة نمو قدرها 4.1 بالمئة، ودخلت 2024 بوتيرة أقوى، قاطعة الخطوة تلو أخرى لتحقيق 400 مليار كناتج داخلي إجمالي خام في آفاق 2027.
مشاريع ضخمة
الجزائر أكبر دول القارة الإفريقية، تصنع الاستثناء بإطلاق كبرى المشاريع قاريا وإقليميا، في وقت لازالت عديد البلدان تكافح تبعات الأزمة الصحية المرتبطة بجائحة كوفيد-19 وانعكاساتها المدمرة على الاقتصاد العالمي. وقبل يومين، صنعت الجزائر الحدث على مختلف الوسائط، بصور وفيديوهات لآليات عملاقة، تحركت في شكل أساطيل باتجاه بشار وتندوف، لتعزيز مشروع ربط الولايتين بخط السكة الحديدية على مسافة تفوق الـ 800 كلم، والذي سيسمح باستغلال منجم الحديد غار جبيلات. وقبل ذلك، أثارت صور الشاحنات العملاقة، وهي تستعد لرفع أطنان الحبوب من ولايات الجنوب الكبير، تفاعلات بالملايين، فأبهجت الجزائريين وأغضبت الأطراف الحاقدة والمعادية، وكانت النتيجة توفير 1.2 مليار دولار للخزينة العمومية، بفضل انتاج كميات معتبرة من القمح الصلب.
وباشرت وزارة الفلاحة والتنمية الريفية، تنفيذ توجيهات رئيس الجمهورية، القاضية برفع المساحات المخصصة لإنتاج الحبوب إلى 500 ألف هكتار، ويتوقع أن تنجز المهمة في غضون 03 سنوات، بمساهمة الشراكات الأجنبية النوعية خاصة مع دولتي قطر وإيطاليا.
ووقعت الجزائر وقطر على اتفاق لإنجاز أكبر مشروع في العالم لإنتاج بودرة الحليب واللحوم وعلى الأعلاف على مساحة 117 ألف هكتار بثلاث ولايات، كما وقعت على اتفاق استراتيجي لإنتاج الحبوب مع إيطاليا على مساحة 36000 هكتار بولاية تيميمون.
ما يحدث في صحراء الجزائر، هو نهضة غير مسبوقة، فالورشات الكبرى في كل مكان وفي جميع القطاعات، في الفلاحة، في الزراعات الإستراتيجية، في النفط والغاز، في المناجم وفي مشاريع التنمية المحلية.
ويصّر الرئيس تبون، على وضع قاعدة لوجيستية لكل هذه المشاريع الهيكلية، عبر مد خطوط السكة الحديدية إلى أدرار وإلى تمنراست، موجها بسرعة الإنجاز واعتماد الحد الأدنى من المعايير الدولي بـبناء 2 كلم في اليوم الواحد على الأقل.
على صعيد آخر، تحصي الوكالة الوطنية لتطوير الاستثمار 6000 مشروع مسجل، وضعت لها أرضيات رقمية لدراسة الملفات وتحديد الأوعية العقارية. وفي حالة تجسيد 50 بالمائة على الأقل من هذه المشاريع فإنها ستساهم في تعزيز التحول العميق للاقتصاد الوطني نحو الإنتاج ورفع الصادرات خارج المحروقات.
السيادة الوطنية
من الأدوية إلى المواد الواسعة الاستهلاك، يلاحظ وفرة المنتجات الوطنية في السوق الجزائرية، وبدأت بدخول الأسواق الدولية انطلاقا من بلدان إفريقيا وحتى أوروبا ودول الخليج.
وقد جدّد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، أمس، لدى إشرافه على تدشين حي المجاهد عثمان بلوزداد بسعة 13300 مسكن بصيغة البيع بالإيجار بسيدي عبد الله بالعاصمة، التأكد على أن قطاع السكن أصبح جزائري 100 بالمائة، بحيث أن كافة المواد المتدخلة في عملية البناء جزائرية، ما يحقق حركية اقتصادية معتبرة.
هذا الوضع، لم يعجب جهات اعتادت على الجزائر، كسوق حصرية لتفريغ منتجاتها وقبض الثمن بالعملة الصعبة مع عمليات الغش وتضخيم الفواتير، مثلما هو حال الاتحاد الأوروبي، الذي يراهن على اتفاق شراكة مختل يقوم على قاعدة «رابح-خاسر».
وفي ظل هذه الحركية الاقتصادية، طوّرت الجزائر مفهوم السيادة، ليشمل حماية المنتوج الوطني، ومن ورائه الاقتصاد الوطني وأموال الخزينة العمومية من خلال إعادة ضبط عمليات الاستيراد وتكييفها وفق الاحتياجات الوطنية.
ومع بروز مؤشرات الاكتفاء الذاتي في المواد الاستراتيجية، وتحقيق الأمن الغذائي في غضون سنوات قليلة، فإن الجزائر تقف على عتبة الاستقلال الاقتصادي التام، بما يؤكد صحة خيار الرئيس تبون بعدم اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، في أحلك الظروف الاقتصادية التي وجد عليها البلاد سنة 2020.
آفاق واعدة
ربط السيادة الاقتصادية بالسيادة الوطنية، تماشيا ومقولة رئيس الجمهورية «جيش قوي واقتصاد متطور»، بات الطريق تسلكه الجزائر في هذه المرحلة، ما يفتح آفاق واعدة في غضون سنوات قليلة.
بلوغ الجزائر مكانة الدولة السائرة على طريق النمو، لم يعد هدفا بعيدا، خاصة مع توفر الزخم والدعم الشعبي وكذا الوعي بالأولويات الوطنية التي باتت محدد حصري للسياسة العمومية في الداخل والسياسية الخارجية.
وبينما تقف البلاد على عتبة الاستقلال الاقتصادي والتوهج الدبلوماسي، تستعد للاستحقاقات الرئاسية المسبقة في 07 سبتمبر المقبل، والتي ستكون موعدا مع الإرادة الشعبية واختيار المشروع الوطني الذي يدفع بالبلاد نحو الأعلى.
هذه الانتخابات، ستجرى في كنف استقرار سياسي وطموح اقتصادي مرتفع، وتحكم في إدارة السياسية الخارجية وفق ما يخدم المصلحة الوطنية، ويدعم القضايا العادلة، ويقوي مكانة البلاد كشريك إقليمي موثوق.