لظهور القهوة والمقاهي، في بلاد العرب والمسلمين قصة يرويها الدكتور محمد الأرناؤوط، من عمان في مؤلفه بعنوان “من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي”.
يسرد الكاتب، بدايات وصول القهوة من اليمن إلى الحجاز ومصر والشام في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، وكيف أصبحت عادة شرب القهوة ، حيث أقبل عليها الناس ونظمت فيها أشعار وقصائد تمدح طعمها، ويتطرق الكاتب الى موقف الفقهاء من شرب القهوة التي أطلق عليها اسم القهوة البنية، لتفريقها عن القهوة القديمة التي كانت تسمى خمرا، والجدل الذي وقع بين الفقهاء والعلماء في القرن السادس عشر الهجري، ما أدى إلى تحريمها وإغلاق المقاهي التي كانت تسمى “ببيوت القهوة.”
وبحسب هؤلاء الفقهاء، إرتياد الناس المقاهي، خلق تصرفات منافية للشريعة الإسلامية، مثلا كلعب الشطرنج أو القمار وأصبح الإختلاط بين الرجال والنساء في الدخول إلى نفس المكان، وهذا ما دفع الفقهاء والعلماء إلى اصدار فتاوى تمنع شرب القهوة ظانين أنها مسكر مثل الخمر.
يقول أرناؤوط:” تكشف واقعة مكة في 1916/1917 ان القهوة كانت قد وصلت الحجاز قبل سنوات على الأقل حتى انتشرت وارتبطت بها مظاهر معينة، وكان السلطان قانصوه الغوري، قد عين خايربك، ناظرا على الحسبة في مكة”.
ويضيف:” رأى ليلة 22/23 ربيع الأول 1511م/1923ه، خلال طريقه من الكعبة الى بيته جماعة تحتفل بالمولد النبوي وجد بينهم شيئا يتعاطونه على هيئة الشربة، الذين يتناولون المسكر ومعهم كأس يديرونه ويتداولونه بينهم،…فسأل عن الشراب المذكور فقيل هذا شراب اتخذ في هذا الزمان وسمي القهوة يطبخ من قشر حب يأتي من بلاد اليمن يقال له البن، وهذا الشراب قد كثر بمكة وصار يباع على هيئة الخمارات ويجتمع عليه بعض الناس بالرهن وغيره مما هو ممنوع في الشريعة المطهرة”.
ويشير الكاتب إلى أنه “عندما انتشر شرب القهوة أصبحت تجمع الرجال والنساء في بيوت القهوة، هذه الأخيرة اصبحت تضم أدوات التسلية كالشطرنج والرهن والقمار، ما دفع قضاة الإسلام يجتمعون لمناقشة المسألة واتفقوا في الأخير على التمييز بين القهوة ويين ما يصاحب شربها من سلوكات ومظاهر، وأجمعوا على تحريم اجتماع الناس على هذه الهيئة واعتبروا ان حكم البن هو حكم النباتات والأصل فيه الإباحة، وتركوا الأمر للأطباء لكي يقرروا إذا كان يحصل من شرب القهوة ضرر في البدن أو العقل”.
ويروي الكاتب: ” احضروا طبيبين شهدا أن المشروب المتخذ من قشر البن، بارد يابس مفسد للبدن المعتدل، فمنع من تعاطي القهوة”.
وحسب الحسن بن محمد البوريني وغيره من المؤرخين، “استمر انقسام العلماء في مكة بين معارض ومؤيد للقهوة، بسبب المظاهر التي تصاحب ارتياد المقاهي، لكن عندما جرب بعض الفقهاء مفعولها رأوا أنها لا تذهب العقل وليست مسكرا.
تقول كتب تاريخية: “انتشرت بيوت القهوة في دمشق نهاية القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي بفضل الأوقاف، التي عرفتها دمشق حينئذ، حيث أن وصول القهوة البنية مثلما كانوا يسمونها الى جنوب بلاد الشام، وبروز المقاهي لأول مرة كان من الأحداث المهمة في التاريخ الحضاري للمنطقة”.
و”تحولت بيوت القهوة أو المقاهي الى مراكز ثقافية واجتماعية، تجذب الفقهاء والشعراء وتجمع هواة الغناء والموسيقى والمسرح، ولقد تزامن وصول القهوة الى جنوب الشام من الحجاز واليمن مع التغيير السياسي، الذي حصل في المنطقة اي مع سقوط الدولة المملوكية وبروز الدولة العثمانية.”
و”لم تلبث أن أثارت مواجهة عنيفة استمرت حوالي قرن من الزمن بين المؤيدين والمعارضين لهذا المشروب الجديد، الذي أطلق عليه القهوة البنية لتمييزها عن القهوة القديمة التي كانت من أسماء الخمر عند العرب، وهناك روايات تربط وصول القهوة بأشخاص وبالتحديد بثلاثة من الشيوخ الفقهاء وهم الشيخ محمد بن سعيد الذبحاني، والذي يقال انه قد حمل القهوة إلى عدن ومنها انتقلت عبر البحر الأحمر الى شمالي مصر وغيرها.”
“يرجح أن يكون الشيخ علي بن عمر الشاذلي، قد تعرف على القهوة في الحبشة خلال نشره للطريقة الشاذلية فيها، والشيخ أبو بكر بن عبد الله الشاذلي، المعروف بالعيدروس أو العيدروسي، الذي جاء من اليمن الى دمشق، حيث استقر هناك وعرف بمبتكر القهوة.”
القهوة في الجزائر كانت تسمى شاذلية..
وحسب أرناؤوط، “القهوة في الجزائر كانت تسمى شاذلية نسبة الى أبي بكر الشاذلي، وفيما يتعلق ببلاد الشام نجد ان المؤرخ الدمشقي المعاصر لإنتشار القهوة نجم الدين الغزي، الذي توفي في 1651م يعزز من الرواية القائلة بدور أبي بكر الشاذلي المعروف بالعيدروسي، في إكتشاف القهوة ببلاد اليمن، اذ أنه يعتبره مبتكر القهوة المتخذة من البن”.
ويذكر ابن طولون، أنه قد ” أشهر شرب القهوة بدمشق فاقتدى به الناس وكثرت يومئذ حوانيتها، كما سميت المقاهي لأول مرة وانتشرت في دمشق منذ 1536م، لكن في 1545م اتفق القاضي الشيخ محمد بن عبد الأول الحسيني، مع بعض العلماء المعروفين بدمشق كالشيخ ابن سلطان الحنفي والشيخ يونس العيثاوي، بتحريم القهوة البنية ونادى بإبطالها، حيث عرض الأمر على السلطان العثماني سليمان القانوني، هذا الأخير أمر بإبطالها في 1546م.، والأمر نفسه حدث في القدس، حيث أثيرت مخاوف بعض الشيوخ من تأثير الإقبال على بيوت القهوة على الإقبال على بيوت الله، فأصدر أمر من السلطان العثماني بإغلاقها.”
“وبعد وفاة السلطان سليمان القانوني، في 1566م، عاد الناس الى شرب القهوة مرة ثانية في عهد والي دمشق في ذلك الحين لالا مصطفى باشا، 1563-1568، ومن خلال المصادر فإن تحريم واجازة فتح المقاهي كانت حسب كل والي، وقام الوالي درويش باشا، ببناء دار القهوة بجوار السوق، الذي أنڜأه في 980ه بدمشق قرب الجامع الأموي وذلك في إطار وقفه الضخم الذي اشتمل أيضا على حمام وجامع، ومكان معد لطبخ القهوة في سوق السباهية بدمشق.”
“وفي السنوات اللاحقة قام الوالي مراد باشا، خلال وجوده بدمشق في الفترة 1592-1595، ببناء مكان لطبخ القهوة وبيعها في جوار السوق، الذي أنڜأه عند باب البريد بدمشق وأنشأ الوالي سنان باشا، ثلاث بيوت للقهوة، التي أنشأت في إطار الأوقاف الجديدة والتي تدر بمداخيل من خلال تأجيرها.”
و”في عهد السلطان محمد الرابع 1648-1687، أصبحت تباع القهوة في الأسواق وعادت المقاهي الى فتح أبوابها من جديد وتجميل مظاهرها لجذب المزيد من الرواد حتى أصبح يضرب بها المثل”.
مقاهي الشام تفتن الرحالة العرب والأجانب
وهناك شهادات بعض الرحالة العرب والأجانب، الذين فتنوا بما رأوه من المقاهي في دمشق، فقد زار الرحالة الفرنسي جان تيفنو، دمشق في 1664، وذكر ان كل مقاهي دمشق جميلة وتتميز بوفرة المياه، وخص بالذكر مقهى السنانية، وهناك من وصفها بألطف ما تلحظه بالشام.
“إضافة إلى الغناء فقد أخذت مقاهي دمشقتقدم لروادها أيضا بعض الفنون، التي أصبحت تميز لاحقا المقاهي الشعبية كالحكواتي والكراكوز، واشتهر في دمشق لاحقا بعض الحكواتية مثل سليمان بن حشيش الحكواتي، الذي كان يحكي سيرة الظاهر بيبرس، وعنترة بن شداد وسيف ونوادر غريبة في التركي والعربي.
“وكان الأكثر شهرة في عصره أحمد بن شاكر الحكواتي، كما ان المقاهي أخذت تقدم أيضا بعض العروض الجديدة التي لم تكن مألوفة حتى ذلك الحين كألعاب الخفة والمصارعة وغيرها.”
اما في بادية الشام الجنوبية فقد انتشرت القهوة إلى حد أنه لم يعد بالإمكان تصور المجتمع البدوي بدون القهوة وذلك بسبب العادات والتقاليد، التي ارتبطت بها.
من اليمن إلى سراييفو
اصبحت بلغراد تعرف بدمشق الأوروبية، واصبح طريق الحج الحيوي (سراييفو-اسطنبول-حلب-دمشق-المدينة-مكة)، جسرا هاما للتواصل الحضاري بين شعوب المنطقة، اذا كانت تنتقل فيه الأفكار والطرق الدينية والسلع الجديدة.
يذكر المؤرخ العثماني المعروف بجوى وهو بوسني الأصل، “ان اسطنبول عرفت القهوة والمقاهي في 962ه/1554م، وقام شخص في دمشق واخر من حلب بفتح مقهيين في محلة تحت القلعة، حيث أخذا يبيعان القهوة للزبائن المتزايدين”.
ويؤكد المؤرخ العثماني ” أن هذين المقهيين سرعان ما نجحا في جذب نخبة اسطنبول من أصحاب القلم والكتاب، والقضاة والمدرسين وكبار الموظفين وهكذا فقد أدخل المقهى تغيرات سريعة في الحياة الثقافية والإجتماعية للعاصمة، اذا أصبح المرء يرى فيه من يقرأ الكتب، ومن ينشد القصائد ومن يخوض في المناقشات الأدبية الفقهية”.
ويشير نجوى، إلى “أنه فيما بعد أخذ يتردد على المقاهي الأئمة والمؤذنون وطلاب المدارس الدينية،حتى تقاعس الكثيرون منهم عن الذهاب إلى الجوامع، ما أثار سخط بعض الفقهاء الذين راحوا يصفونها ببيوت الفساد”.
وبسراييفو، انتشرت القهوة في النصف الثاني القرن السادس عشر، يقول المؤرخ العثماني: “سراييفو بها مقهى حسن الترتيب يتميز بوجود ركن خاص لكل طائفة في المجتمع: واحد للقضاة، واخر للشيوخ وثالث للأعيان ورابع للمدرسيين، ثم انتشرت في مدن فوتشا، بانيا لوكا، في 1600م. وظهر لقب القهواجي، يقدم فناجين القهوة لزبائنه، ولم تعد القهوة تقدم في المقاهي والبيوت الخاصة، بل اصبحت تقدم في السرايا ولأهم الضيوف”.