كانت المساجد والزوايا والكتاتيب، قبل الإحتلال الفرنسي وبعده أماكن لتعليم الجزائريين الكتابة والقراءة وعلوم مختلفة وتحفيظ القرآن الكريم.
يقول أحمد توفيق المدني: “كان التعليم العربي الحر في الجزائر يشمل قديما ثلاث مراتب: أولي ويعطى في الكتاتيب ويقبل الناس عليه إقبالا شديدا، فلا تجد حارة من حارات المدن والقرى أو مضربا من مضارب الخيام أو دشرة إلا وبها الكتاب والطالب، وكان التعليم بها بسيطا جدا يشمل القراءة والكتابة والقرأن الشريف، وبفضل تلك الكتاتيب البسيطة كانت الأمية قليلة الإنتشار بالقطر الجزائري”.
ويضيف: “أما التعليم الثانوي والعالي فكانا بالمساجد والزوايا يتولاها شيوخ من المشهود لهم بالعلم والدراية والنزاهة، فكانت الدروس الإسلامية العربية توجد في أغلب المساجد والزوايا “.
ومن أهم أعمال الزوايا التربية والتعليم والقيام ببعض أعمال البر والإحسان، كما كانت مركزا للفقراء والغرباء وملاجئ المجاهدين والفدائيين أثناء ثورة التحرير، تقدم لهم الطعام والماء والمبيت.
وكانت الكتاتيب مؤثثة بحصير مصنوع من الحلفاء أو الدوم ومجموعة من الألواح الخشبية وأقلام من قصب وكمية من الصلصال والصمغ وجرار الماء، وبعض الأواني البسيطة، ومجموعة مصاحف وبعض الكتب الفقهية والنحوية والصرفية والسير وغيرها.
والتعليم بالكتاب أولى ومنه ينتقل التلاميذ إلى زوايا ومساجد كبرى لإنهاء دراستهم الثانوية، وكانت كلمة “طالب” تطلق على كل متعلم سواء كان متفرغا لطلب العلم أم غير متفرغ، والكتاتيب قامت بمهمة تربوية عظيمة، حيث كان يؤمه الأطفال ليحفظوا بعض السور القرأنية ومبادئ في العبادات مثل الصلاة والوضوء، ويتعلمون القرءاة والكتابة.
ومن بين الكتاتيب المعروفة كتاتيب مدينة ندرومة بتلمسان.
وفي هذا الصدد، سلط الباحث الطالب عبد الرحمن بن أحمد التيجاني، الضوء على مهامها وعددها، في مؤلف بعنوان “الكتاتيب القرآنية بندرومة من 1900 إلى 1977”.
وبحسب كتابات مؤرخين فرنسيين، منهم ريني باسي، وُجد بندرومة مطلع القرن العشرين 118 مسجدا وكتابا، اختلفت مساحتهم بعضهم كان يقوم بدور التعليم فقط وبعضها بالتعليم وصلاة الأوقات الخمس.
واشتملت الكتاتيب على أربع حجرات، واحدة لتعليم الصبيان، والثانية سكن لـ”الطلبة الأفاقيين”، أي الذين ليسوا من سكان ندرومة، والثالثة للصلاة، والرابعة للمؤونة والأدوات الضرورية.
زيادة على مرافق الوضوء والوقود والطبخ وغيرها، ويذكر الباحث أسماء النواحي، التي تتواجد فيها الكتاتيب وهي كتاب لحوانت، أولاد العباس، مسيغة، مسيردة، لبخاتة، سيدي عمرو، زايلو، وهي لازالت قائمة لحد الأن على نظامها وبناءها، أدخلت عليها بعض التعديلات الطفيفة كالكهرباء والماء والبناء بالإسمنت بدل الطين والخشب.
وكانت كلمة “الطالب” تطلق على الأشخاص، الذين يأتون للكتاب يطلبون حفظ القرأن والعلم بصفة عامة، وكان عدد التلاميذ في الكتاب يتراوح بين 20 و30 تلميذا.
واختلفت مصادر تاريخية حول السن، الذي كان يلتحق فيه الطفل بهذه الكتاتيب، فهناك من يقول أن بداية تعليم الأولياء أبنائهم يبدأ في سن الرابعة أو السابعة أو الثامنة، لكن أغلب المصادر يذهبون إلى سن السادسة أو السابعة لأنها هي السن المعتدلة، التي يمكن للطفل فيها أن يستوعب ما يلقى إليه.
في هذا الموضوع يقول الكاتب: ” لم تشترط كتاتيب ندرومة، سنا محددة لقبول التلاميذ، وإنما الغالب على أباء وأمهات تلك الناحية إدخال أولادهم للكتاتيب بعد الختان، … وهو ما يعادل السنة الخامسة تقريبا”.
ويشير الباحث، إلى أن الكتاتيب بندرومة في القرن الثالث الهجري لم تستقطب البنات للتعليم، ولم يسمح الأباء بإلتحاق أبنائهم بالكتاب وخصوصا سكان البوادي، وإنما كان الأباء والإخوة والأجداد هم الذين يتولون تثقيف البنت في المنزل، يحفظونها ما تحتاج إليه في الصلاة والقرأن، كما يثقفونها في أمور دينها التوحيد، العبادات، والأخلاق الفاضلة.
هدايا لمن يختم القرآن
تعلم الكتاتيب الأخلاق الحسنة للطفل، فتجعله ينشء تنشئة سليمة وبالتالي يكون فردا صالحا في المجتمع، ولتشجيع الطفل على حفظ بعض السور القرأنية مثل سورة الملك والإخلاص، والرحمن والفتح، وختم القرأن كانت تزين لوحة التلميذ بأنواع من الأصباغ المحتلفة تشجيعا له، وبهذه المناسبة تحضر عائلة الولد مأدبة غذاء للمعلم والتلاميذ، تقدم لهم بالمكتب القرأني و يدعون للمنزل.
ويكرم الأب والمعلمون بهدايا، وقد يسمح المعلم للتلميذ وزملائه بالإنصراف من المكتب لمدة نصف يوم أو يوم كامل عطلة كإحترام وتقدير للختمة، وهكذا يصبح التلميذ في نشاط ويجتهد للوصول الى ختمة مماثلة ويتنافس التلاميذ للحصول على جائزة، وهذا ما يبث الفرحة في قلوب الأباء.
وكان ختم القرأن يسمى قديما “الحذق”، وهي المهارة ويسمى اليوم الذي يختم فيه الصبي القرآن هذا يوم “حذاقة”.
ومن أنواع التأديب في كتاتيب ندرومة، إذا ارتكب التلميذ خطأ، يكون عبوس المعلم في وجه الطفل المتعلم وتوبيخه أمام زملائه، كما يحرم التلميذ المخطئ من الراحة واللعب في أوقات الراحة، وقد يضرب باليد أو بعصا رقيقة.
يستدعي الأب للكتاب إذا لم يتأدب التلميذ وبالغ في ارتكاب الأخطاء، والضرب في كتاتيب ندرومة، لا يكون إلا بقضبان الزيتون و البرقوق و التفاح وبعض أشجار الغابة، حسب ما يؤكده الباحث أحمد التيجاني، ويضيف: ” يتحاشى المعلمون الضرب بقضبان أشجار الرمان لأنه سام، والضرب به قد يحدث مضاعفات في الجسم تؤلم كثيرا، أبيحت العقوبات البدنية للصبيان، الذين تتجاوز أعمارهم السنة العاشرة فلا يجوز ضرب الأطفال تحت سن العاشرة، وكان كثير من الأباء والأمهات يشجعون المعلمين على تأديب أولادهم.”
كان يتوافد على كتاتيب ندرومة، طلبة من ولايات مستغانم، تيارت، وهران، سيدي بلعباس، وغيرها، وأيضا من المغرب الأقصى، وأعمار هؤلاء الطلبة تتراوح ما بين 15 و40 سنة، يطلبون السكن والقراءة، يمنح لهم الأكل والشرب بالمجان والمبيت وإحترام شخصيته.
وتفرض عليهم واجبات وهي الحياء الكامل، والقيام بشعائر الدين الإسلامي، مساعدة المعلم إن إحتاج إليه، الدوران على بيوت القرية أو الحي لجمع الطعام، تحضير الحطب من الغابة مرة أو مرتين في الشهر للطبخ وتدفئة ماء الوضوء، وتنشيف الألواح وغيرها من الواجبات.
في حين نفقة الطلبة من الأكل والشرب واللباس والعلاج وكل ما يحتاجون إليه من ضروريات التعليم، فهي على سكان الناحية التي يسكنون فيها، والعادة الجارية هناك هو أن كل يوم عند العصر يذهب طالبان أو ثلاثة بالتناوب الى بيوت الحي ويطرقون الباب بقضيب. فيخرج إليهم رب المنزل أو ولده فيقدم لهم طبقا من الطحين مقدار نصف رطل أو رطل 500غ، وعند العشاء يعود الطلبة الكرة على تلك البيوت نفسها يحملون قدورا وأواني مهيـأة لحمل الطعام، ويطرقون الباب أيضا فتخرج لهم عائلات المنازل قسطا من عشاءها المحضر، وقد يكون مرقا باللحم أو كسكسا وخضرا وقد يكون حليبا وخبزا. فيتعشى الطلبة من هذا العشاء ويحتفظون بما تبقى لغذاء يوم الغد، اما الطحين فيبعونه في الأسواق ويقتسمون ثمنه لشراء كسوة أو أمتعة وحاجات خاصة، وهذا طيلة مقام الطلبة في الكتاتيب.
وكان سكان الحي كثيرا ما يدعون هؤلاء الطلبة مع معلميهم في كل عرس أو عقيقة أو ختان أو موت، موسم عيد أو مولد نبوي شريف، فيقرؤون ما تيسر من القرأن في دار المضياف تبركا ويقرؤون بعض المدائح النبوية، ويدعون لرب المنزل بالخير وهو يكرمهم بما تيسر لديه من دراهم أو أثواب أو خراف أو دجاج، وكل من حضر المجلس يتكرمون على الطلبة بما استطاعوا. أما غسل الملابس فالطلبة يتولون غسله بأنفسهم في النهر أو الغدير أو في الكتاب.
المعلم يستشار في كل الأمور
كان المعلم في الكتاتيب ينظر له نظرة احترام وتقدير، وكان يستشار ويؤخذ برأيه، فالذي يريد أن يشترك مع أحد في التجارة أو الزراعة يستشير المعلم والذي يريد تزويج ولده أو ابنته أو يسمي مولودا يسأل المعلم، والذي يريد تعلم حكما في العبادات أو المعاملات يستفتي المعلم، وهو أول من يستدعى للولائم والافراح والمأتم.
يشترط في معلم الكتاتيب، أن يكون حافظا للقرأن الكريم ويعرف بعض الأحكام القرأنية التي تتعلق بالتجويد وبعض المبادئ في الفقه، ومطلوب ارتداء العمامة والجلابة، والنزاهة والعفة والحياء والصدق، وأن يكون متزوجا.
وفي ندرومة، زمن الإستعمار كانت السلطة الحاكمة تطلب شرطا من معلمي الكتاتيب وهي وجود الرخصة، التي تسحب من الإدارة المحلية للسلطة الفرنسية، ولا يتساهل في إعطاء هذه الرخص، لان الإدارة الإستعمارية تخشى المعلمين الذين يدرسون القرأن.
يتقاضى معلم الكتاتيب أجرة سنوية يتفق فيها مع جماعة الحي على مقدار معين يعطونه اياه، وغالبا ما يدفعون له كمية من القمح والشعير، وهناك مساعدات اضافية وهي وقود من الحطب وبيض الدجاج كل يوم أربعاء يقدمه الطلاب لمعلميهم، وبعض الهدايا في الأفراح والمواسم، وهذا في البوادي.
وفي المدينة فإن أولياء التلاميذ يدفعون راتبا شهريا عن أولادهم ومساعدات اسبوعية بسيطة، ويتراوح هذا الراتب الشهري مع كل الإضافات ما بين 200 و400 دج في الشهر.
تدرس قواعد النحو والصرف والفرائض وقواعد الإملاء والحساب والجمع والطرح والضرب والقسمة، والتاريخ والجغرافيا بذكر تراجم لشخصيات أحيانا والتعرض الى ذكر وقائع حربية والإشارة الى مواقع ومواضع جغرافية، وتدرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض سير الرسل لتنمية ثقافة الأطفال الدينية.
لكن هناك بعض معلمي الكتاتيب، صدرت عنهم بعض العيوب جعلت الناس ينظرون لهم نظرة احتقار بسبب بعض السلوكات المشينة، يذكرها الأكاديمي، منها ارسال بعض تلاميذتهم الى ديار بعض العائلات في الأفراح ليأتوا بالهدايا والطعام، ويطلق سراحهم في ذلك اليوم جزاء ما أتو به من هدايا.
تتبع جنائز وفي ديار اصحاب الميت يقرأ على موتاهم ويطلب أجرا على قراءته، ومطالبة التلاميذ في الأعياد تقديم هدايا مادية أو أثاث أو أواني أو حلويات، حتى يحصلوا على رضاه، استغلال تلاميذته في مصالحه الخاصة ساعة الدراسة وخارجها دون علم أوليائهم، وغيرها.
ومن أهداف إنشاء الكتاتيب والمساجد محاربة الأمية والقضاء على الجهل، والحفاظ على الشخصية العربية الإسلامية.