من يستمع إلى الخبير الدولي في التنمية محمد أمقران عبدلي، وهو يتحدث عن الريف الجزائري، يصاب بدهشة كبيرة من مبادرات ناجحة تكبُر وتتوسّع، بعيدا عن “فلاشات” الإعلام، ويكتشف مقاربات جديدة، وتشخيص أدق من قبيل “التشخيص المحلي يسمح برصد التوجهات الإجتماعية والاقتصادية للساكنة ورصد الاحتياجات”، في نظرة أكثر دقة وقربا من الفلاح والمقاول الريفي وصاحب المشروع الجديد، ومسؤول محلي لم يجد من يُقرّبه من فهم “الأنشطة المدرة للمداخيل في العملية التنموية”، والتعامل معها بإيجابية، تُوسع خارطة كل ما هو جميل في الباحات الخلفية للجزائر..
سيد عبدلي، كيف ترى مستقبل التنمية في الجزائر على ضوء تجربتكم الميدانية؟
هناك جهود ومبادرات رصدناها في الميدان، سواء من الدولة والجماعات المحلية والمجتمع المدني. هناك عمل كبير ينتظرنا على مستوى التشخيص وبلورة سياسات التنمية والتنفيذ والمتابعة وترشيد الميزانيات والنفقات وإشراك المواطن في الحكامة المحلية عن طريق التشاور ورصد الاحتياجات وتحديد الأولويات.
الدولة الجزائرية تقوم ببرامج تنموية عملاقة وترصد ميزانيات معتبرة للدعم وللتسيير
في خطابك تستخدم مصطلح المجتمع المدني، كثيرا، فما دوره في التنمية؟
المجتمع المدني الذي أقصده يتعدى الجمعيات والمنظمات والنقابات واللجان والأفراد، إنه التفاعل الحاصل بين قمة وقاعدة الحكامة. الإصغاء ورصد التغيرات الإجتماعية والمبادرات المجتمعية ومرافقتها عن طريق شراكة حقيقية من شأنها أن تؤدي إلى حركية في التنمية، ما لاحظناه على مستوى القرى والمداشر مؤخرا من نشاطات واحتفالات بالموروث الثقافي والمنتوجات الوطنية والسياحة الجبلية هي مبادرات نابعة من عمق المجتمع الجواري وجب الأخذ بها وترسيمها ومرافقتها تقنيا وماليا.
هذا مثال بسيط فقط على دور المجتمع المدني في التنمية.
التشخيص المحلي مفتاح العملية التنموية
الطريق إلى التنمية المحلية المستدامة طريق يحتاج تركيزا على المقاولاتية الريفية، التي تشجعونها وتعتقدون أنها عماد للتنمية، كيف ذلك؟
المقاولاتية الريفية هي فرع من فروع المقاولاتية، مجالها الريف وما يحويه من مقدرات بشرية، موطنية طبيعية، اقتصادية وثقافية. رصدنا من خلال تحاربنا الميدانية جملة من التجارب التي يمكن أن تنجح بالمرافقة التقنية خاصة، التكوين، التحسيس بمبادئ التنمية المستدامة، التوطين، هي خطوات من شأنها أن تجعل من المقاولاتية الريفية في الجزائر ميدانا قائما بذاته يختلف عن مجالات المقاولاتية الأخرى.
في الريف الجزائري التجارب تبقى محصورة على بعض العائلات والتجارب النسوية التي تعتبر خزانا هائلا وقيما مرتبطا بمفهوم الاستدامة، خاصة في التعامل مع الثروات الطبيعية.
ويظهر الأمر جليا في الأنشطة المدرة للمداخيل كالنباتات العطرية، الفخار التقليدي الخام، إنتاج الأغذية والعجائن التقليدية وغيرها من الأنشطة. المرافقة الجيدة تجعل من المقاولاتية الريفية مستدامة وصديقة للبيئة.
التشخيص المحلي لمسألة التنمية، قبل أي عملية أو برنامج تنموي، تصرون عليه بشكل خاص في مساهماتكم ومداخلاتكم في فضاءات مختلفة، منذ سنين؟
نعم نُصرّ كثيرا عليه، وأعتقد أنه مفتاح العملية التنموية، معرفة المقدرات ومعاينتها والتشاور مع الجماهير المستهدفة من العملية التنموية بوتيرة دورية منتظمة يسمح لنا برصد التوجهات الإجتماعية والاقتصادية للساكنة ورصد الاحتياجات، علميا التشخيص المحلي هو مجال لتفاعل علوم الإجتماع والاقتصاد وعلم النفس مثلا بالواقع مما يسمح بوضع تشخيص محلى يتناسب مع خصوصيات السياق الذي نتعامل ونتفاعل معه، وبالتالي التشخيص هو القاعدة وخزان العملية التنموية، نستمد منه المعلومات لبلورة سياسات التنمية المحلية، يضمن لنا التشخيص الدقيق نسبة كبيرة من نجاح العملية التنموية سواء أكانت على شكل نشاط أو مشروع أو برنامج.
نعمل على أن تكون المقاولاتية الريفية في الجزائر ميدانا قائما بذاته
التشخيص التنموي المحلي، يقودنا لطرح سؤال مركزي في الوقت الحاضر، وهو: هل البحث العلمي يتواءم مع واقع التنمية ومتطلبات الواقع والمجتمع، أم يحتاج مراجعة في اتجاه تقوية الجسر بين العقل الجزائري ومحيطه الاقتصادي والتنموي؟
سؤال مهم جدا. البحث العلمي والرصد والاستشراف، من مهام الجامعة ومؤسسات البحث والمخابر، ولا يزال الطريق طويلا لبلورة شراكة حقيقية بين الجامعة والمجتمع، رصد الميزانيات لا يكفي في غياب منهجية تقارب وتفاعل حقيقي بين الجامعة والعائلة والفلاح والحرفي والفضاء الريفي والحضري. يجب فتح الجامعة على المجتمع عن طريق أبواب مفتوحة وتظاهرات علمية وجوارية.
هذا الأمر هو الذي سيسمح للباحث الشاب والطالب بتوجيه بحثه واهتمامه نحو المجتمع. وقفت مؤخرا، وللأسف على حال مدارس عليا تغيب فيها الخرجات العلمية والتقنية والأعمال التطبيقية، وهذه صورة عن العمل الكبير الذي لا يزال ينتظر كل المتدخلين في عملية التنمية.
الأنشطة المدرة للمداخيل في العملية التنموية، تفتح نافذة تريدون توسيعها، كيف ولماذا، وما مستقبل هذا التوجه الناشئ؟
الأنشطة المدرة للمداخيل هي مقاربة تنموية تعتمد على الجوارية في الأداء عن طريق التعبئة والتحسيس والتكوين الموجه أو المدمج، أي توجيه النشاط لتغطية نشاطين مثل نشاط تربية الماعز الحلوب وتحويل الحليب وإنتاج الاجبان التقليدية.
رصد الميزانيات لا يكفي في غياب منهجية تقارب حقيقي بين الجامعة والفلاح والحرفي والفضاء الريفي والحضري
تقنيا تسمح المقاربة لأنشطة كانت موجودة بأن تتوسع وتكون على شكل مؤسسات إنتاج مصغر أو تعاونيات أو تجمعات تضامنية.
وتعزز هذه المقاربة فرص التنمية المحلية وتثمين المنتوجات على المستوى المحلي، وبلورة نشاطات أخرى عن طريق التشبيك التضامني الفعال مما يساهم في بلورة حلقات من فاعلين متنوعين حرفيين، مزارعين، تقنيين… ما يساهم في خلق نوع من الاستدامة في الحركية التنموية.
هذا التوجه هو الأقرب لخصوصيات المجتمع أو السياق الجزائري، تأثيره ونتائجه مضمونة.
كيف نترجم دينامية القرى وتحويلها إلى تنشيط الإقليم تنمويا واقتصاديا، مع وجود مبادرات في هذا الاتجاه؟
نعم، شهدت قرى ومداشر كثيرة في الجزائر، خاصة في الصائفة، تظاهرات ومبادرات عديدة ترمي في مجملها لتثمين منتوج محلي وتوطينه والعمل على دينامية محلية حوله من هذه الأنشطة: عيد التين، عيد الصبار، مهرجان الثقافات الشعبية الشفهية، مهرجان الشعر الملتزم، عيد الجبل، عيد الفخار، عيد الكسكس، مهرجان العسل ومنتوجات الخلية، وغيرها من التظاهرات النابعة من عمق الريف الجزائري خاصة، بشيء من المرافقة والدعم المالي يمكننا أن نحول مثل هذه المبادرات لتظاهرات قارة ستؤدي لا محالة لتنمية الجهة أو الإقليم عن طريق تشجيع حركية الزوار على المستوى الوطني وتشجيع السياحة التضامنية، تنويع الموارد، التعريف بالجهة والإقليم وجعله وجهة موسمية.
الإصغاء ورصد التغيرات الإجتماعية والمبادرات المجتمعية ومرافقتها بشراكة حقيقية تؤدي إلى حركية في التنمية
مسابقة أجمل قرية مثلا كانت وليدة فكرة لمنتخب محلي، وأصبحت اليوم مبادرة في توسع والإقبال عليها متزايد.
إذن كيف نقيس هذا النوع من المبادرات على السياسة التنموية؟
تأثير مثل هذه المبادرات أكيد ومضمون، ونلاحظه على مستوى تنشيط الأقاليم، رغم كل النقائص الموضوعية، نظرا لنقص التكوين والتحضير الجيد والمرافقة والتقييم خاصة.
تأثير مثل هذه المبادرات على السياسات التنموية يكون فعالا لحظة إدماج هذه المبادرات في البرامج التنموية في الولايات مثلا، وجعلها مبادرات قارة أي مستدامة. مثلا اشتغلنا على توطين مثل هذه المبادرات مثلا الملتقى الفلاحي والحرفي لبلدية آيت بوادو بتيزي وزو، ومبادرة أخرى نشتغل عليها في بلدية واد البارد بسطيف.
هل في الإمكان تحقيق ديمامية في التسيير المحلي من خلال هذا النوع من المبادرات؟
نعم كما قلت آنفا الحركية الايجابية موجودة ومضمونة من خلال هذه المبادرات، لأنها مبادرات نابعة من الواقع ومن العمل الجواري المحلي ومن خصوصية الجوارية التأثير المباشر والمضمون على الجماهير المستهدفة والمتدخلين في التنمية.
نعمل على أن تكون المقاولاتية الريفية في الجزائر ميدانا قائما بذاته
يبقى على الجماعة المحلية أن تأخذ بجدية مخرجات مثل هذه المبادرات وتأثيراتها وتثمينها عن طريق توسيع التشاور والتواصل الجواري.
خبراء التنمية يتحدثون عن التنمية المستدامة، فكيف نحقق ديمومة في نشاطات التنمية في القرى والمداشر، وما الطريق لجعلها عنوانا كبيرا مستقبلا في تنمية الجوار ودعم التنمية المحلية بالموارد المحلية المتاحة..
أولا، وكما ذكرت في بداية هذا الحوار، التشخيص هو عماد وخزان العملية التنموية. ثانيا توخي الجدية والتعامل مع الفاعلين المحليين والشركاء في العملية التنموية عن طريق التحسيس والتوعية والتكوين حول مبادئ التنمية المستدامة وتطبيقها على مبادرات التنمية لجعلها مثلا مبادرات صديقة للبيئة، مدرة للمداخيل، مساهمة في الدينامية المحلية كما قلتم، مساهمة في تقوية التماسك الأسري والإجتماعي والتواصل، مساهمة في الحكامة المحلية ومشاركة في صنع وبلورة التوجهات الخاصة بالتنمية المحلية.
جهود الدولة في إنعاش التنمية، وتحريك عجلتها بشكل دائم، في السنوات الأخيرة، محطة بارزة في عالم التنمية.. ما رأيكم فيها كخبير دولي في التنمية؟.
الأكيد أن أي مجهود يجب أن يثمن على أكثر من صعيد، الدولة الجزائرية تقوم ببرامج ومخططات تنموية عملاقة وترصد لها ميزانيات معتبرة للدعم وللتسيير، وبالتالي وجب أن تحظى هذه الجهود بالتشاركية والتوجيه والمتابعة والتقييم والمحاسبة. لأن رهانات التنمية كبيرة جدا وأي مجهود يجب أن يثمن كما قلت ولكي تكلل جهود الدولة بالنجاح يجب على مؤسسات الدولة أن تعمل على خلق تشاوريات محلية ووطنية حول اشكالات التنمية وطرق المساهمة الجماعية في حلها وهذا عماد الحكم الراشد.
تجمعون بين مشاريع التنمية والعمل الإنساني.. حدثنا عن تجربتك في مخيمات تندوف..
نعم، حاولت في تجربتي ومساري العلمي الجمع بين مجالي التنمية من جهة والعمل الإنساني من جهة أخرى، ولا يخفى عليكم ما للمجالين من نقاط تقاطع خاصة في مجال الأنشطة المدرة للمداخيل وتحسين ظروف العيش.
كانت البداية مع منظمات وجمعيات إنسانية فرنسية كمنشط محلي في جنوب فرنسا واشتغلنا مع الفئات المعوزة في المجتمع الفرنسي والمهاجرين الأفارقة والأوربيين من رومانيا، ألبانيا، ومن فنزويلا وكولومبيا واللاجئين من سوريا.
هذه التجربة طعّمتُها بتكوينات مختلفة في العمل الإنساني، إضافة الى دراستي الجامعية حول التنمية.
بعد ذلك كانت لي تجربة في مخيمات اللاجئين الصحراويين بتندوف كمكون لفرق المنشطين في برامج التغذية المدرسية وتكوينات موجهة للشباب، ثم الانتقال الى تسيير المشاريع الإنسانية والتميز في تسيير المشاريع الإنسانية، والتحول لتقييم المشاريع الإنسانية لاحقا، وإطلاق مبادرات مستدامة في المخيمات مثل مبادرة تشجيع المطالعة في المخيمات، هذا على مستوى الاجتماعي.
وعلى المستوى الرسمي كنت مساهما ومبادرا بفكرة الملتقى الإجتماعي التضامني الصحراوي، الذي أصبح اليوم حدثا قارا في مفكرة وزارة الشباب والرياضة والحكومة الصحراوية ومبادرة مخبر الأفكار والتجارب الصحراوية.
كيف يمكن للعمل التنموي والإنساني أن يجعل من الجزائر فاعلا مهما في تنمية أفريقيا؟
تجارب الخبراء في التنمية وكفاءاتها العلمية والميدانية في العمل التنموي والإنساني وموقعها الجيو-استراتيجي ومكانتها هي من العوامل التي يمكن أن تمهد لمقاربة جزائرية في العمل التنموي والإنساني خاصة على مستوى قارتنا أفريقيا او في الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، وهذا عن طريق تثمين دور الوكالة الجزائرية للتنمية عن طريق مشاريع في أفريقيا وبلدان خارج القارة، مما يعزز من مكانة الجزائر وقدرة وكفاءة خبراءها على مستوى مؤسسات التنمية والعمل الإنساني وتعزيز دور الجزائر على مستوى الدبلوماسية والعلاقات الدولية.