وقف نابليون الثالث منبهرا أمام بنايات مدينة سيدي بلعباس، وعماراتها المتميّزة، ونسائمها الجذلى، وراح يتمتم بين شفيته.. هذه باريس صغيرة.. قصورها ما تزال تواصل الشهادة على فخامتها، ونبل الجزائريين الذين رصّفوا لبناتها بأناقة تتعالى حتى تصبح فنّا كامل الأوصاف.. هي أعلى من باريس بالتأكيد، وهي أرقى وأجمل وأشرف بانتسابها إلى الولي الصالح سيدي بلعباس البوزيدي المتوفى عام 1780.. حتى حين زحف عليها المعمار الفرنسي.. لو كان نابليون عادلا، لأحسّ أنّه كان أولى به أن ينبهر في باريس، ويقول.. إنّها سيدي بلعباس صغيرة..
يقول رئيس جمعية الحفاظ على التراث المعماري والباحث في تاريخ سيدي بلعباس طلحة جلول، إنّ سيدي بلعباس الفتية أنشئت في 5 جانفي 1849 إلا أنّ تاريخها حافل، حيث كانت مهد الثقافات والانتعاش التجاري قبل أن يستولي عليها الاستعمار الفرنسي، فقد بنى الجنرال “بريدو” ثكنة عسكرية، إذ كان يريد السيطرة على الغرب الجزائري وقطع الطريق على جيش الأمير عبد القادر، ومنع تنقل المقاومين من معسكر نحو تلمسان..
سيدي بلعباس لديها أربعة أبواب.. باب معسكر، باب تلمسان، باب وهران وباب الضاية، تفتح في الصباح وتغلق في المساء، وظلّت – منذ حلّ بها البؤس الفرنسي، تتقبل هجمات قبائل بني عامر واولاد براهيم واولاد سليمان الذين كانوا يدعمون الأمير عبد القادر خلال غاراته على المستعمر الفرنسي.
هـجوم بالمعمار الفرنسي..
تم بناء المدينة الفرنسية وكانت مفخرة المستعمرين الفرنسيين، حتى إنّ احتفالات مائوية الغشم الاستعماري بالجزائر أقيمت بسيدي بلعباس، وقام العمدة ليسيان بيلات، بتدشين المسرح، كما تم نصب تمثال بوسط المدينة استقدموه من المدرسة العليا للفنون بباريس. وبعد بناء عدد من الثكنات جاءها اللفيف الأجنبي من كلّ الجنسيات الأوروبية.
وبالمقابل، استقرت القبائل الجزائرية التي انتزعت منها أراضيها غصبا، بالمكان المسمى “البطحة” أو ما يعرف حاليا بـ«الطحطاحة”.. يقع بين الجسور العالية للمدينة المستعمرة ووادي مكرة، حيث استقر أصحاب المدينة الحقيقيون بالخيام، يشتغلون ببيع صوف الأغنام.. حاول الجزائريون الذين قدموا إلى مدينة سيدي بلعباس من مختلف جهات الوطن، للتجارة والعمل في الحرف اليدوية، استعادة روح المدينة الجزائرية، لكنّ فرنسا الاستعمارية رفضت في أول الأمر ذلك، ثم انصاعت في آخر المطاف إلى مطالب الأعيان الجزائريين، واشترطت أن تقسّم المنطقة بينهم وبين المعمّرين اليهود.
وبما أنّ المنطقة كانت تتوفر على أراض فلاحية شاسعة وخصبة، فقد أغرت اللفيف الأجنبي ليستقر بها، وبالرغم من انتهاء مدّة خدمته بالجيش الفرنسي، احتل تلك الأراضي وأصبح أصحابها الحقيقيون يعملون “خمّاسة” لديهم..
مدينة محفوفة بالـقصور
لم يكتف المستعمر الفرنسي بالاستحواذ على الأراضي الفلاحية لخدمتها بل استهوته شساعتها وبنى القصور بها، حتى أصبحت مدينة محفوفة بالقصور شيّدت بطبوع وأنماط معمارية مختلفة.
وفي حديثه عن المعمار والبناءات التي تزخر بها مدينة سيدي بلعباس، أكّد رئيس جمعية الحفاظ على التراث المعماري والثقافي طلحة جلول أنّه يناضل منذ سنوات من أجل الحفاظ على الموروث المعماري الفريد من نوعه، والذي طاله الإهمال والتهميش، حيث يسعى جاهدا لحث المسؤولين على الإسراع في ترميمه والعناية به، قبل أن يفقد خصائصه ويندثر.
واعتبر الخبير في التراث أنّ مدينة سيدي بلعباس متحف معماري على الهواء الطلق، به كلّ طبوع الهندسة المعمارية في العالم، منها النمط العثماني والأوربي والروماني والنهضة الفنية المعمارية. ويؤكّد الباحث في التاريخ أنّ هذا الموروث يعد غنيمة حرب ضحى من أجلها شهداء الجزائر ويجب أن تبقى شاهدة على بشاعة المستعمر الفرنسي ومعجما تاريخيا للأجيال.
وحسب طلحة جلول، فقد طغى على مدينة سيدي بلعباس نموذج معماري فرنسي، بل إنّ الاستعمار الفرنسي حرص على سحب كلّ جميل إلى ساحته، وأطلق تسميات فرنسية على القلاع الراسخة إمعانا في النهب والسلب.
وهجم الفرنسيون على مدينة سيدي بلعباس.. العائلات الأوائل التي استقرت بسيدي بلعباس عائلة “لالزوس” و«لوران” كانتا تعيشان في منطقة تقع بين فرنسا وألمانيا، ثم استقرتا بمنطقة سيدي لحسن، وبدأت سيدي بلعباس تتوسّع بعد هجرة قبيلة بني عامر، ليحتل المعمّرون الفرنسيون ومن جنسيات أوربية مختلفة الأراضي الشاسعة.
قصور بلعباس..
كشف محدّثنا عن وجود عشرة قصور شيّدت داخل النسيج الحضري، منها قصر ملك اسبانيا أو ما يسمى بقصر “البرادو” متواجد بوسط مدينة سيدي بلعباس، بني خلال تواجد الجالية الإسبانية بالمدينة، إلى جانب “قصر ديكريو”، وبنى نفس المعمر قصرا آخر بوسط المدينة حوّل بعد الاستقلال إلى مقر للدائرة، وهو حاليا مهمل، بالإضافة إلى قصر “لومي” ، قصر “بيلا”، وقصر “الباستيد”، قصر “البلدية” الذي تم تصنيفه مؤخرا إلى معلم معماري وطني وقصر “غوشو”، قصر “الغزلان”، و«المزرعة البيضاء” ببلدية بوخنيفيس، قصر “بيران” بطريق سيدي لحسن، بينما هدمت وخربت القصور التي شيّدت خارج النسيج الحضري واندثرت عن آخرها.
معالم أثرية بـحاجة إلى ترميم
القصور العتيقة التي ما زالت شاهدة على عراقة مدينة سيدي بلعباس أصبح وضعها يستوجب ترميمها وإعادة تأهيلها، وهو ما اقترحه طلحة جلول منذ سنوات حتى يتم تصنيفها موروثا تاريخيا وطنيا، بهدف تحويلها إلى مواقع سياحية لجذب السياح وتعزيز الاقتصاد محليا.
يقول جلول إنّ من بين أهم الممتلكات التي تزخر بها مدينة سيدي بلعباس، “قصر باستيد”، الذي يعود تاريخ تشييده إلى عام 1850 من طرف المعمر ليون باستيد، وقد زاره نابليون الثالث سنة 1864 عندما أتى إلى المدينة بدعوة من مالكه الذي كان يشغل منصب رئيس بلدية سيدي بلعباس آنذاك.
يتميّز قصر باستيد بجمال عمارته، حيث يضم واجهة مزخرفة وبوابة ضخمة وحديقة شاسعة بها نافورات للماء. وخلال سنوات الثمانينيات حوّل القصر إلى مقر مفتشية الجمارك إلى أن تم إخلاؤه بسبب حالته المتدهورة، حيث منحه والي سيدي بلعباس السنة الماضية لبلدية سيدي بلعباس، واقترح تحويله إلى قصر لعقد القران، لما للرابطة الزوجية من قيمة اجتماعية ودينية. وتجري حاليا الإجراءات لضخّ مبلغ مالي يخصّص لترميم هذا القصر والذي كان مقررا أيضا تحويله إلى متحف مدني توضع به الممتلكات التراثية للولاية والآثار القديمة.
أما قصر “بيران” القديم فيعود تاريخ تشييده إلى سنة 1880 تم بناؤه بنمط إمبراطوري فريد من نوعه، وكانت تمتلكه عائلة “انتوني بيران” الفرنسية منذ سنة 1845 وتقيم به خلال عطلتها الصيفية. تقع التحفة المعمارية على الطريق المؤدّي إلى بلدية سيدي لحسن، تتربّع على مساحة ثلاث هكتارات منها مساحة مغروسة بالأشجار المثمرة، إلا أنّ الإهمال طاله خلال السنوات الماضية.
وبني قصر “لومي” المتواجد بطريق وهران سنة 1939، بتصميم هندسي من المهندس المعماري الفرنسي لويس لامي المعروف عالميا بـ ”Modern Style” حول القصر إلى مدرسة للفنون الجميلة.
بين الطراز المعماري العربي والأندلسي
ومن ضمن القصور التي مازالت قائمة بالرغم من مرور السنين قصر “ديكريون” الذي يعود إلى 1877، تم وضعه مؤخرا تحت تصرف مديرية الثقافة حتى يتم ترميمه وتحويله إلى معلم سياحي وثقافي، بينما أصبح قصر “قندوز” الواقع بحي الساقية الحمراء، والذي يجمع بين الطراز المعماري العربي والأندلسي في حالة متدهورة بعدما حوّله بعض المواطنين إلى بناء فوضوي، وهناك أيضا قصر “لازاري” أو ما يعرف بقصر “جامبيتا” وقصر “غوشو”، إضافة إلى قصر الغزلان.. وبحسب العالمين بتاريخ المدينة فقد كان يسكنه أحد المعمّرين، حيث كان يمتلك غزالين لهذا سمي بقصر الغزلان إلا أنّه أصبح مهملا.
من جهة أخرى، استرجع المجلس الشعبي البلدي لسيدي بلعباس مؤخرا قصر “الضيافة” بحي القرابة العتيق، ضمن عملية إعادة تثمين الممتلكات البلدية، بعدما كان مستغلا لعدّة سنوات من جمعية خيرية ثم احتلته بعض العائلات.
وبحسب رئيس بلدية سيدي بلعباس، فإنّ القصر سيحظى بالترميم والتهيئة حتى يكون إقامة لاستقبال الضيوف عند زيارتهم للمدينة، على أن يتم اقتراحه مستقبلا للتصنيف معلما تاريخيا وطنيا.
وبينما ما زالت قصور المدينة قائمة فإنّ أطلال القصور التي شيّدت من المعمّر الفرنسي خارج النسيج الحضري وبالرغم من تآكلها بسبب الإهمال، شاهدة على وجود تحف معمارية وفنية، بينما هدمت قصور أخرى عن كاملها، أمثال قصر “بيلا” الواقع بطريق وهران، والذي تمت إزالته عن آخره بعد إعادة إسكان قاطنيه، بينما كان يجدر بالمسؤولين إعادة ترميمه حتى يكون مكسبا سياحيا، يقول الباحث جلول.
حصون ومعسكرات بالمدينة
ويؤكّد رئيس “جمعية الحفاظ على التراث المعماري والثقافي” إلى ضرورة التفاتة السلطات الولائية إلى وضعية المعالم التاريخية للمدينة لترميمها، وخلق منها مواقع لجلب السيّاح الأجانب الذين تستهويهم الحضارات القديمة وتاريخ الشعوب، وحتى تكون أيضا مكسبا للأجيال المقبلة لتعريفهم بتاريخ مدينتهم العريق.
ومدينة سيدي بلعباس ذات القصور الشامخة والنمط المعماري المختلف، يوجد بها أيضا حصون ومعسكرات.. على غرار حصن “تسالة الروماني” والمعسكرات الرومانية لبلدية سيدي علي بن يوب، “آثر روبا” الواقعة ببلدية المسيد يبلغ ارتفاعها 8 أمتار، “القبة السماوية” بوسط سيدي بلعباس، المدرسة القرآنية العتيقة والمسجد الأعظم لحي الأمير عبد القادر الذي بني سنة 1884، المسرح الجهوي، ضريح الشاعر مصطفى بن إبراهيم، “شجرة السلام” بسفيزف والتي يبلغ عمرها 7 قرون، “البحيرة الاصطناعية” سيدي امحمد بن علي ومنطقة العطوش بجبال تسالة.. كلّها معالم تاريخية ما تزال تنتظر تصنيفها، لتتحوّل سيدي بلعباس إلى منطقة سياحية بامتياز تخلق قيمة مضافة يزدهر بها اقتصادها.