يرى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الشهيد زيان عاشور بالجلفة، قرود محمد، أن تخصيص شهر للاحتفاء بالذاكرة الوطنية الجزائرية، هو أحد أهم الإنجازات التي عرفتها الجزائر بعد الاستقلال، والتي تعكس الاهتمام بالذاكرة الوطنية وتاريخ الشهداء وتضحيات جيل الثورة، ليكون ذلك مصدر إلهام لجيل الاستقلال، يحفزه على حماية الجزائر كما فعل الشهداء.
أكد أستاذ التاريخ على أهمية الحفاظ على أمانة الشهداء، لأن الذاكرة التاريخية تعتبر حجر الزاوية في بناء هوية البلاد، حيث قال: «من لا ذاكرة له، لا مستقبل له.» هذا المبدأ يدعو جيل الاستقلال إلى استلهام العبر من تضحيات الشهداء، والعمل على حماية الجزائر كما حموها بأرواحهم.
وأشار قرود إلى أحداث 8 ماي 1945 التي شهدت قمعا شديدا للشعب الجزائري على يد المستعمر الفرنسي عقب مطالبته بحقوقه الوطنية. ويعد هذا التاريخ محطة فارقة في وعي الجزائريين، إذ أدركوا بعد هذا اليوم أن الاستعمار لن يعترف بحقوقهم إلا بالقوة، وأن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد للاستقلال، ويمثل هذا الشهر رمزا لصمود الشعب الجزائري وعزيمته التي لم تنكسر رغم قسوة المجازر ومحاولات المستعمر لإسكات أصوات الحرية.
ذاكرتنا الالتزام بحماية إرث الشهـداء
وأوضح محدثنا أن الاحتفاء بـ»الذاكرة التاريخية» ليست مجرد استعادة للذكريات، بل هو دعوة لتجديد الالتزام بحماية إرث الشهداء والمحافظة عليه، وأن الذاكرة الوطنية ليست مجرد سلسلة من الأحداث التاريخية أو القصص المتناثرة التي يمكن إغفالها، بل هي أداة حيوية لتشكيل الوعي الجماعي والحفاظ على هوية الشعب الجزائري، وشدد على أن نقل روايات البطولة والشجاعة للأجيال الجديدة يساهم في حماية هوية المجتمع الجزائري من الاندثار، خاصة في زمن العولمة الذي أصبحت فيها الثقافة المحلية مهددة من قبل الثقافات الأخرى. «فالذاكرة الوطنية توفر للأجيال الشابة مرجعية راسخة تذكرهم بتضحيات أسلافهم وتجعلهم يدركون أن الحرية التي يعيشونها اليوم لم تأت بسهولة».
إنجازات بارزة
في سياق آخر، استطاعت الجزائر تحقيق إنجازات بارزة لم تتمكن من تحقيقها دول عريقة – يقول أستاذ التاريخ بجامعة الجلفة- «حققنا انجازات دبلوماسية لم تتمكن من تحقيقها دول عريقة. من خلال حركة عدم الانحياز، نجحت الجزائر في دعم القضية الفلسطينية، ولعل أبرز لحظات هذا الدعم كانت عندما تمكنت من إدخال ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة ليلقي خطابه هناك».
وعلاوة على ذلك – يضيف – « لعبت الجزائر دورا بارزا في الوقوف مع حركات التحرر في العالم، حيث كانت القضية الفلسطينية في مقدمة هذه القضايا. ووقفت الجزائر خلال حرب 1967 وحرب 1973، داعمة الدول العربية في سعيها لاستعادة حقوقها وتعزيز التضامن العربي. كل ذلك كان نتيجة للديبلوماسية الجزائرية الفعالة، تحت قيادة الرئيس الراحل هواري بومدين الذي كان له دور كبير في رسم السياسات الخارجية للجزائر وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية»، واليوم – يضيف محدثنا – يتواصل الالتزام التاريخي في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، حيث تواصل الجزائر دعم فلسطين وقضايا التحرر في العالم، مما يعكس استمرارية النهج الدبلوماسي الذي يعزز من مكانة الجزائر كرمز للعدالة والدعم للقضايا العادلة في الوطن العربي».
مبادئ نوفمبر.. جزائر منتصرة
وفي سياق الإنجازات التنموية، يرى المتحدث أن الجزائر حققت تقدما ملحوظا في مجالات التعليم والصناعة والزراعة. حيث ارتفعت نسبة المتعلمين – حسبه- إلى حوالي 98% بعد أن كانت 95% أمية عند طرد الاستعمار. كما تمكنت الجزائر من إقامة مشاريع استراتيجية كبرى، مثل مشروع غار جبيلات الذي يعزز مكانتها في إنتاج الحديد، ومشروع زراعة الحبوب في الصحراء، مما أدى إلى الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب. وتظهر هذه الإنجازات كيف استطاعت الجزائر تحويل أراضيها إلى مناطق خصبة، وتحقيق تطورات كبيرة في مستوى المعيشة والمشاريع الاقتصادية».
معارك الجلفة .. صمود بطولي في وجه الاستعمار
ولم ينس الأستاذ قرود، مساهمات منطقة الجلفة التي تبرز كأحد المعاقل الثورية التي شهدت معارك بطولية خلال الثورة التحريرية. حيث أشار إلى أن الجلفة شهدت منذ يوليو 1955 انخراط أبناء المنطقة في صفوف الثورة، حيث بدأت معالم الحرب تشتعل في عام 1956. وكانت أولى المعارك التي خاضها المجاهدون في 10 ماي من نفس العام في معركة عمورة التي وقعت في جبال بوكحيل، تلتها معركة جبل قعيقع في شمال الجلفة في 10 يونيو 1956.
تاريخ الجلفة الثوري يتضمن ارتباطها بالولاية السادسة، حيث يمثل شمال الولاية المنطقة الثانية، بينما شكل جنوبها المنطقة الثالثة. وقد تولى القيادة في البداية العقيد سي الحواس، ثم خلفه العقيد محمد شعباني. وبحسب الأرقام، فقد سقط أكثر من 1000 شهيد من أبناء الجلفة الذين شاركوا في أكثر من 300 معركة بين عامي 1956 و1962. يقول المتحدث.
تحدث الأستاذ قرود عن أبرز المعارك، مثل معركة قعيقع، ثم معركة جبل حواس التي وقعت في 10 أبريل 1957 تحت قيادة الشهيد زيان بوهالي. ولفت الانتباه إلى معركة دلاج التي جرت بين منطقتي عين الإبل ومسعد في 2 يوليو 1957، حيث كانت المعركة قاسية وأسفرت عن إصابة 72 من أبناء الجلفة.
وأشار قرود إلى معركة «48 ساعة» التي جرت في 17 و18 سبتمبر 1961 في منطقة «الكرمة وجريبيع» بجبل بوكحيل والتي تعتبر من أبرز المحطات التاريخية، حيث شهدت حضور جميع قيادات الولاية السادسة، وعلى رأسهم العقيد محمد شعباني.
وقد ظنت القوات الفرنسية أن القضاء على جيش التحرير سيكون قادرا على الحفاظ على مشاريعها في الصحراء، لكنهم فشلوا، إذ أسفرت المعركة عن سقوط 9 شهداء وجرح حوالي 18 من جيش التحرير، بينما قدرت الخسائر الفرنسية بنحو 400 قتيل»، كما استعرض الأستاذ الحامعي معركة «معمر» في حد الصحاري في 7 ديسمبر 1960، حيث تمكن جيش التحرير من تدمير ثكنات عسكرية كاملة.
وأشار إلى أن القادة الشهداء من الجلفة، مثل حاشي عبد الرحمان ونايلي علي وزيان بوهالي، كانوا من أوائل ضباط جيش التحرير، مما يعكس التضحيات الكبيرة التي قدمها أبناء المنطقة من أجل الحرية والاستقلال.