حينما نتحدّث عن حضور الثورة التحريرية في الرواية الجزائرية، فإنّنا نشير إلى الروايات المناهضة للاستعمار التي تعدّ نوعا أدبيا قويا يلقي الضوء على الظلم والفظائع التي ارتكبها ويرتكبها الاستعمار بمختلف أشكاله.
تتحدّى هذه الروايات السرديات السائدة للمستعمر، وتسلط الضوء على النضال من أجل الاستقلال والحرية وتقرير المصير.
الرّواية.. ومناهضة الاستعمار
أحد أبرز الأمثلة على أدب المقاومة والروايات المناهضة للاستعمار رواية تشينوا أتشيبي “الأشياء تتداعى” (1958)، وتحكي قصة أوكونكو، المحارب والزعيم المحترم في قرية إيجبو في نيجيريا، ومع تعدي الاستعمار البريطاني على مجتمعه، يكافح أوكونكو من أجل دعم القيم التقليدية ومقاومة قوى الإمبريالية الثقافية، وآثارها المدمرة. وتعالج رواية “بتلات الدم” لنغوغي وا ثيونغو إرث الاستعمار في إفريقيا بعد الاستقلال. وتدور أحداث هذه الرواية “ما بعد الاستعمارية” في كينيا، وتحكي قصة أربعة أفراد يتصارعون مع تحديات الحداثة والتنمية في مجتمع ما يزال يعاني من آثار الاستعمار.
ولأدب المقاومة أشكال وثيمات متعددة..مثلا، تستكشف رواية توني موريسون “الحبيبة Beloved 1987) إرث العبودية وتأثيره على الهوية الأمريكية الإفريقية. وتحكي الرواية قصة سيثي، الأمَة السابقة التي يطاردها شبح ابنتها “بيلوفد”. ومن خلال بنيتها السردية المبتكرة ونثرها الغنائي، تتحدى رواية موريسون القراء لمواجهة صدمة العبودية والتفكير في النضال المستمر من أجل الحرية والانعتاق والمقاومة.
الرّواية.. في الصّفوف الأولى للثّورة
ولكل ثورة أدبها الذي يعبّر عنها، ويشيد ببطولات رجالاتها، بل وليس هناك ثورة بدون أدباء يشيدون بها وينشرون أفكارها، يقول النعاس سعيداني (جامعة سيدي بلعباس). ويؤكد الباحث أن الأديب الجزائري مهّد الطريق للثورة من خلال مواقفه الشجاعة من الاستعمار الفرنسي، ومخططاته الرامية إلى استعباد الشعب الجزائري ومصادرة حريته. ولما جاءت الثورة الجزائرية لتحرير الإنسان من كل أشكال الهيمنة والاستعباد والقهر، ارتبط بها الأديب الجزائري منذ البداية، لأنها تعبر عن طموح شعبه، فالأديب الجزائري كان وثيق الصلة بشعبه منذ أن وطئت أقدام المستعمر الفرنسي أرض الوطن يتحسّس همومه ومشاكله ومقاومته وصموده.
وفي هذا السياق، يقول عثمان رواق (جامعة سكيكدة) إنّ التوجه الأخلاقي في أدب ما قبل الثورة كان مشفوعا بالرغبة في مقاومة أخلاق الآخر المدمرة لهوية الجزائري، ومن الأمثلة عن هذه الرّواية “الإصلاحية” يذكر الباحث “غادة أم القرى” للشهيد أحمد رضا حوحو، التي تعد أول رواية جزائرية باللغة العربية، وأيضا رواية “الطالب المنكوب” للشيخ عبد المجيد الشافعي.
من جهته، يعتبر الوناس الحواس (جامعة البليدة 2) أنّ مقاومة الجزائريين الثقافية، التي تمثّلت في الحركة الأدبية (من شعر ومسرح وقصة ورواية وغيرها) أسهمت في إخراج القضية الجزائرية إلى العالمية، بفضل كتّاب جزائريين سواء باللغة العربية أو باللغة الفرنسية، وهو كذلك أدب جزائري أسهم في النضال خاصة مع اندلاع الثورة التحريرية الكبرى.
وبخصوص الأعمال بالفرنسية، ترى نوال بن صالح (جامعة بسكرة) أنّها كانت عاملا حاسما في بلورة الهوية الوطنية في صراعها المستمر مع الاستعمار، باقتراب المحاولات الروائية والقصصية الأولى لمحمد ديب، وكاتب ياسين، ومولود فرعون، ومالك حداد، ومولود معمري، من البعد العميق في الهوية الجزائرية التي ظلّت طي النسيان. واعتبرت الباحثة أن المنظومة اللغوية تحولت إلى أداة حقيقية للصراع الثقافي مع المستعمر.
وقدّمت الباحثة مجموعة من الأمثلة، نذكر منها ثلاثية محمد ديب، بما حملته من بعد وطني اجتماعي، والتنبؤ التاريخي بالثورة الجزائرية من خلال تعرية جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل المستعمرة. كما اعتبرتها الباحثة أول عمل يشكل بحق أدبا وطنيا متميزا حقق القطيعة النهائية مع أدب “مدرسة الجزائر”، الذي كانت تنتجه أقلام الكتاب الفرنسيين.
ودارت روايات مالك حداد حول الثورة الجزائرية، وتلمسها من قريب ومن بعيد في دوامة المشاعر والعواطف، كما تناول مولود معمري الثورة التحريرية التي انخرط فيها. أما كاتب ياسين فقد “تبنّى موقفا متميّزا في كتاباته، فهو يبحث عن الموطن الأم، مشخّصا إيّاه في امرأة يسميها نجمة”.
وتقول بن صالح إنّ الرّوائيّين الجزائريين باللغة الفرنسية كان عليهم خلق مسافة لتأمل التاريخ ونقد الذات، ونقد الآخر، فمن خلال هذه المسافة وفي ظل هذه المساحة، بدأ الإعلان عن نص روائي جديد يبشر بإنسان جديد وبعقل جديد قلب موازين البطولة الروائية، فإذا كان الآخر “الفرنسي” هو المركز في الرواية الاستعمارية فـ “الأنا” أي “الأنديجان” هو الهامش، وفي هذا النص الجديد ولد إنسان جديد.
رواية الاستقلال.. ومعركة البناء والوعي
في هذا الصدد، يقول بوداود وذناني (جامعة الأغواط) إنّ الرّواية الجزائرية ظهرت في لحظة وعي الأنا الوطني بحقيقة وجوده، بعد أن تخلص من الاستعمار الفرنسي الذي حاول قهره واستعباده ومصادرة حريته والقضاء على هويته، فكانت لحظة استرجاع السيادة الوطنية، واستعادة الهوية الوطنية، ولحظة الانطلاق لتصحيح تاريخه الذي شوهه الاستدمار الفرنسي.
وترى آمنة بلعلى، في كتابها “المتخيل في الرواية الجزائرية من التماثل إلى المختلف”، أنّ الثورة منحت حالة جمالية للرواية الجزائرية، أنتجت ثقافة بأكملها تجلّت فيها الثورة من خلال رموز وعلامات دالة. “وإذا كانت لفظة الإبداع تفيد لغةً معنى إخراج الشيء إلى حيز الوجود أي إحداث الشيء، فإنّ مجرد نقل الثورة من الواقع ومن الأفواه، بعد الاستقلال، إلى الورق هو ما يجعل الثورة متخيّلا على الرغم من أن هذا التعاطي مع موضوع الثورة بدا للبعض، وكأنه نوع من التأريخ”.
وقد نالت الرّوايات الثورية نصيبا وافرا من الإنتاج الروائي الجزائري، وظلت الثورة، خاصة من مطلع السبعينيات، المرجعية الأيديولوجية والفنية التي ينطلق منها أغلب الروائيين الجزائريين، بالأخص بعد بروز الجيل الأول من الروائيين الذين كتبوا بالعربية، على غرار عبد الحميد بن هدوقة صاحب “ريح الجنوب”، والطاهر وطار، يقول عدلان رويدي (جامعة جيجل).
ويقسّم النعاس سعيداني الرواية الجزائرية التي تناولت أحداث الثورة (من ناحية تناول فضاء الأحداث) إلى قسمين: قسم أول يشمل روايات ركزت على فضاء الريف، من أجل إظهار دور سكان الريف في الثورة، ونذكر منها “اللاز” للطاهر وطار، و«على جبال الظهرة” لمحمد ساري، و«هموم الزمن الفلاقي” لمحمد مفلاح، و«حورية” لمحمد مليس، وغيرها. وقسم ثانٍ يضم روايات ركزت على فضاء المدينة من أجل إظهار دور أهل المدن في الثورة، على غرار “طيور في الظهيرة” لمرزاق بقطاش، و«نار ونور” لعبد الملك مرتاض، و«جسر للبوح وآخر للحنين” لزهور ونيسي، وغيرها.
من جهته، يرى بوداود وذناني أن لكل كاتب استراتيجية ينطلق منها أثناء الكتابة، وللأنا الوطني استراتيجيته أثناء تناوله لمقاومة الأجداد، وثورة الآباء، وهي استراتيجية تتأسّس على: أولا، تفعيل أحداث المقاومة، بحيث يتجلى فعل الشعب الجزائري من خلالها في صورة المنتصر. وثانيا، تقزيم دور الآخر العدو وتفنيد ادعاءاته بحيث يظهر في صورة المنهزم. وثالثا، تمجيد بطولة المجاهدين، وإضفاء هالة من التقديس على الشهداء.
ومن بين ما لاحظناه، خلال اطّلاعنا على مختلف المراجع الأكاديمية والأعمال البحثية في الموضوع، هو ما نالته رواية “اللاز” للطاهر وطار من دراسة واهتمام. وذهبت نوال بومعزة (جامعة قسنطينة) إلى القول إن هذه الرواية تعد “من أكمل الروايات الجزائرية المكتوبة بالعربية، حيث صوّرت الثورة الجزائرية في أدق تفاصيلها، في أسباب قيامها، فاللاز ليس شخصا بعينه، إنما هو الشعب الجزائري بكل فئاته، طاقة فعالة حركت الثورة وفجرتها”، وأن هذه الثورة “معروفة النسب، فجرها الفلاح والأمي، والساذج، وحتى الخائن بعد توبته عاد وكافح من أجلها”.
ولم تكن الروائيات الجزائريات بمعزل عن هذا التوجه العام، يؤكد عدلان رويدي، فكان لخطاب الثورة حضور قوي في المتن الروائي النسائي الجزائري، على غرار المتن الروائي الرجالي. وفي دراسته لأعمال كل من زهور ونيسي وأحلام مستغانمي، لاحظ الباحث أن خطاب الثورة انتقل من خطاب تسجيلي كما رأيناه عند الجيل الأول من الروائيين والروائيات، وكما لمسناه عند زهور ونيسي، إلى خطاب تخييلي مع أحلام مستغانمي، هذه الأخيرة، حسبه، تتعامل مع الحدث الثوري لا كحدث وقع في الماضي ولكن كحدث له امتداداته المستقبلية، كما أن خطاب الثورة عند المرأة ليس خطابا ضد المستعمر فقط، وإنما هو خطاب ضد القهر الذكوري وثورة على القيم البائدة.
واعتبر رويدي أنّ الجيل الجديد أعاد الاستثمار في التاريخ الجزائري ومرحلة الثورة التحريرية على وجه الخصوص، وهذا من أجل تشييد فضاءه الروائي، على غرار المنجز الروائي السابق، لكنه اشتغل على هذا التاريخ بوعي مختلف.
كما مثّلت الروايات “الثورية” خزّانا للسينما الجزائرية، وترى كل من مهدية مرابطي ونصيرة عشي (جامعة تيزي وزو)، أن السينما أصبحت صورة للرواية تؤدي وظيفة جمالية واتصالية، وجاء الاقتباس السينمائي ليكرس تميز النصوص الروائية في نقلها لموضع الثورة التحريرية، ما يمثّل عملا يعزّز الذاكرة الجماعية. وتقول الباحثتان، خلال دراستهما “الأفيون والعصا” لمولود معمري و«ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي، إنّ الأدب والفن يقدّمان نسخة عن الثورة في كل أبعادها، سواء من خلال سرد البطولات وقسوة الحرب ونبل التضحية من أجل الوطن، ولكن هذا التقديم يمارس وظيفة جمالية ويسجل بذلك مشاركة الفن والأدب في تبجيل ثورة مميزة.
ثورة خالدة
لقد ألهمت ثورة نوفمبر الأقلام الجزائرية وغيرها، وما تزال..ونعود هنا إلى ما أدلى به أمين الزاوي في ملف سابق لـ “الشعب”، حينما اعتبر أنّ “أدباء الجزائر، بنصوصهم الإبداعية، أعطوا معنى وبُعدا إضافيا للاستقلال السياسي” للجزائر. وقال الزاوي: “أنتمي إلى جيل فتح عيونه قراءة على نصوص العمداء من أمثال محمد ديب، ومولود معمري، وآسيا جبار، ومالك حداد، ومولود فرعون، والطاهر وطار، وعبد الحميد بن هدوقة وغيرهم، كنت أقرأ أدبهم مؤمنا بأنهم هم روح الوطن، وأن الاستقلال السياسي لا معنى له بدون هذه الروح الإبداعية التي تمثلها نصوصهم العالية، فأدبهم رسالة دبلوماسية استثنائية، فصوت البلد يصل قويا ومؤثرا إلى كل شعوب العالم عبر الرواية والشعر، أكثر منه من خلال السياسة أو الاقتصاد أو الحرب”.
في الختام، يمكن القول إنّ الروايات الجزائرية التي اتخذت من الثورة ثيمة لها، لا تعد مهمة فقط لسياقاتها التاريخية والسياسية، ولكن أيضًا لقيمتها الأدبية وجدارتها الفنية، فهي تتميز بلغتها الغنية، وصورها الحية، وبنياتها السردية المعقّدة، إلى جانب تقديمها رؤى قيمة حول نضالات وانتصارات الشعب الجزائري في سعيه إلى الحرية وتقرير المصير، واستعادة السيادة الوطنية.