تؤدّي الصناعات التقليدية في الجزائر دورًا حيويًا في دفع عجلة التنمية الشاملة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما تُعدّ ركيزة أساسية لتعزيز الهوية الوطنية وإثراء الإبداع الفني. وتشكّل هذه الصناعات مكونًا رئيسيًا في مسار التنمية المستدامة، حيث تسهم في خلق الثروة ورفع القيمة الاقتصادية.
توفر المواقع الأثرية والسياحية المنتشرة عبر ربوع الجزائر فضاءات مثالية للترويج للمنتجات الحرفية. ويُعتبر التكامل بين الإرث التاريخي والصناعات التقليدية أسلوبًا فعّالًا لتعزيز الاقتصاد الثقافي، وفتح آفاق جديدة لخلق آلاف فرص العمل للشباب، وتثبيت هذه الصناعات محليًا، خاصة من خلال تشجيع إنشاء المؤسسات الصغيرة والناشئة ودعم المقاولين الذاتيين.
في هذا السياق، تستعرض “الشعب” أهمية الصناعات التقليدية والحرف في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب الدور البارز للمؤسسات المصغرة والشركات العائلية في الحفاظ على الهوية الثقافية والشخصية الوطنية. كما تُسهم هذه الصناعات في ضمان استمرارية الإرث المادي، الذي يُعدّ من الدعائم الرئيسية للاقتصاد المحلي في الولايات. وتشير الإحصاءات إلى أن هذا القطاع يُساهم حاليًا بأكثر من 300 مليار دينار في الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعله ركيزة أساسية للتنمية المحلية.
ملف: كريمة براهمية وسفيان حشيفة وكمال زقاي وغانية زيوي وموسى دباب وعلي عويـش
الحرف.. نشاط اجتماعي مُدرّ للثّروة
تُعدّ الصناعات التقليدية والحرف في الجزائر موردًا اقتصاديًا رئيسيًا يسهم في خلق الثروة، وتوفير فرص عمل مستدامة لمختلف شرائح المجتمع. وتسعى الجزائر إلى تعزيز اقتصادها الوطني من خلال تنويع مصادر الدخل وتطوير القطاعات الداعمة له، ويبرز قطاع الصناعات التقليدية والحرف كأحد أهم هذه الموارد. يوفر هذا القطاع دخلًا أساسيًا للأفراد، خاصة النساء، والعائلات الريفية، والنسوة الماكثات في البيوت، مما يعزز استقرارهن الاقتصادي والاجتماعي.
فضلاً عن ذلك، يلعب هذا القطاع دورًا محوريًا في الحفاظ على الهوية الثقافية للأمة، حيث يساهم في صون التراث المادي، وتعزيز القيم الثقافية الأصيلة التي تميز المجتمع الجزائري.
لطالما ارتبطت الصناعات التقليدية عضويًا بقطاع السياحة المحلية والوطنية بكل أشكالها، وسايرت كل محطات تطوير هذا القطاع منذ الاستقلال، حيث تزخر الجزائر بموروث حرفي حضاري ممتد إلى آلاف السنين، وتواصل وجود كثير من ألوانه وعناصره الثقافية بفضل جهود السلطات العمومية في إحيائه، وإعادة دمجه في صيرورة التنمية المحلية للمجتمع.
واعتبر مختصّون الصناعة التقليدية مجالاً حيويًا في بنية الاقتصاد الوطني؛ لأنها لاعب أساسي في رفع مستوى معيشة الأفراد والعائلات الريفية، وتؤدي دورًا مباشرًا في وتيرة إنتاج المستعملات والمقتنيات المنزلية والمواد الغذائية ذات الامتداد الشعبي، كما يُنتظر لها فعالية أكبر ضمن خطط الاستثمار السياحي ساري المفعول في البلاد.
علاوة على ذلك، تعدّ الحرف التقليدية جزءًا هامًا من إيرادات السياحة حسب المنظمة العالمية للسياحة، ومنتجًا عاكسا لثقافة وموروث البلد أو المنطقة التي ينشد الزوار زيارتها مثل ما يجري عليه الحال في ولايات غرداية وتمنغاست وتيزي وزو وبشار وتميمون وجانت ووادي سوف وتوقرت وبسكرة وباتنة وخنشلة وقسنطينة وتلمسان وبني عباس وغيرها من ولايات الوطن الغنية بهذا الإرث الحضاري، وهو ما عزّز أكثر من ربط وصالهما داخليا على نحو بالغ الأثر الإيجابي على إنعاش الإقتصاد الوطني وتنويع مصادره.
وسيتحوّل هذا المورد، بحسب مهنيين، إلى أحد أبرز عوامل الجذب السياحي في المستقبل القريب، وسيكون محرّكا قويا للشريحة الحرفية الشغيلة لاسيما في البادية والريف، حيث تحرص السلطات المختصة على ترقية نشاطه عبر غرف الصناعة التقليدية المنتشرة في كل ربوع بلادنا، بغية المحافظة على التقليديات اليدوية وحمايتها من تداخلات الصناعات الأخرى.
بإلاضافة إلى تنظيم التّظاهرات والمعارض المحلية والدولية من أجل الترويج للصناعات اليدوية المحلية، كما اقترح هؤلاء التركيز أكثر على تنظيم التّظاهرات والمعارض المحلية والدولية من أجل الترويج للصناعات اليدوية المحلية، وتفعيل أطر الجذب السياحي الرقمي الحديث للتحف الفنية والمنتجات الحرفية بمختلف أغراضها واستعمالاتها اليومية، لكي يُؤدّي هذا القطاع دوره المنشود في استقطاب السياح من الداخل والخارج، وكذا تقليص نسب البطالة في المجتمع من خلال خلق فرص عمل كثيرة بوسائل وتكاليف جدّ محدودة.
فضلاً عن ذلك، تصبّ كثرة المعارض والصالونات والملتقيات في صالح تنمية وتنشيط السياحة والصناعات التقليدية، وتثمين التراث الثقافي الجزائري وفق خصوصية كل ولاية وإقليم عبر التراب الوطني، مع حلّ مشكل الترويج والتسويق، وتكثيف الإقبال على منتجات وتحف الحرفيين المحليين.
ويتّسق هذا المُعطى مع جهود الجزائر الجديدة لدمج المرأة الماكثة في البيت في الدورة التنموية والاقتصادية الوطنية، لما له من دور محوري في ترقية الصناعات التقليدية والحرفية المنزلية، بغية ضمان مشاركة العائلات بفعالية في المنظومة الإنتاجية المحلية، وفق ما يمليه النهج الإقتصادي الرّاهن القائم على تنويع مصادر وموارد الإنتاج الداخلي.
للإشارة، يتميّز قطاع الصناعة التقليدية والحرف في الجزائر بثرائه بالشُّعب اليدوية الإنتاجية، التي تمس المجالات الفنية الجمالية، والغذائية الاستهلاكية، والكسائية الشعبية، على غرار إنتاج الحليب والألبان والأجبان بمختلف أشكالها، والنسيج الصيفي والشتوي بكل أصنافه وألوانه، وصناعة الدهون والزيوت والزبادي الطبيعية والعلاجية، والمخبوزات والحلويات التقليدية الأكثر طلبًا في أوساط الجزائريين.
رافد اقتصادي مهم ووعاء لصون التّراث والهويّة في بومرداس
تتميّز ولاية بومرداس بصناعة تقليدية نابضة بالحياة، تشمل مجالات متنوعة تعكس غنى المنطقة وتمسّكها بهذا المورد الاقتصادي المهم. لم يعد دور هذه الصناعة يقتصر على توفير الرزق ودعم العديد من العائلات، بل امتدّ ليجسّد أبعاداً حضارية، ويصبح رمزاً للهوية الوطنية بتعدّدها وتاريخها العريق. ورغم تحديات العولمة التي تهدّد هذه الخصوصية وتسعى لقطع أواصر الارتباط بين الأجيال، تظلّ هذه الصناعة صامدة ومزدهرة.
حظي قطاع الصناعة التقليدية باهتمام كبير في السنوات الأخيرة بولاية بومرداس بفضل الإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومة ووزارة السياحة لترقية النشاط والاهتمام أكثر بالحرفيين والمهنيين الذين ينشطون في الميدان سواء من حيث التكوين وتأهيل اليد العاملة والمرافقة لإنشاء مؤسسات مصغرة بفضل أجهزة الدعم المحلية خصوصا وكالة تسيير القرض المصغر “أنجام” أو بفضل المرافق والهياكل التي تجسدت في الميدان لتأطير وجمع المهنيين بعد إنجاز دار الصناعة التقليدية بعاصمة والولاية ومركزين في كل من برج منايل ودلس مع تخصيص مكاتب وورشات كنوع من الدعم.
وتلعب غرفة الصناعة والتقليدية والحرف دورا كبيرا في تأطير الحرفيين والحرفيات بولاية بومرداس وترقية نشاطهم من خلال اعتماد برامج خاصة في مجال التكوين والمرافقة بالتنسيق مع قطاع التكوين المهني، الذي يشرف على تنشيط دورات لتأهيل المهنيين وتمكينهم من شهادات في التخصص قد تفتح مجال المقاولاتية أمامهم والعمل على تنمية أفكارهم، مع تنظيم دورات خاصة في مجال التسيير وإنشاء المؤسسات المصغرة كان أخرها الدورة التي احتضنها دار الصناعة التقليدية التي خصّصت لعرض تقنيات وطرق الاستفادة من مجمل التحفيزات التي وضعتها الدولة وقانون الاستثمار الجديد الذي فتح المجال واسعا أمام هذه الفئة لولج ميدان الشغل والمساهمة الاقتصادية الفعالة.
إلى جانب تنظيم دورات إعلامية وتحسيسية لفائدة المهنيين من أجل اطلاعهم على مختلف المستجدات المتعلقة بالنصوص والإجراءات المتخذة من قبل الحكومة والوزارة الوصية في المجال وربطهم بعالم الاستثمار، وتطوير المهارات اليدوية بفضل عملية الرقمنة والتسجيل عن بعد ورفع الانشغالات المختلفة، والعمل على ترقية المنتوج الوطني بفضل الإجراء الأخير الصادر بالجريدة الرسمية المتعلق بقرار علامة النوعية والأصالة لمنتجات الصناعة التقليدية الفنية التي تضم 75 نشاطا بولاية بومرداس والقرار الثاني يحدد كيفيات تسليم علامات النوعية والأصالة.
كما يحاول القائمون على القطاع توسيع عملية تأطير الفئات المهنية الناشطة في مجال الصناعة التقليدية وإعادة تنظيمها وهيكلتها سواء عبر انشاء مؤسسات عائلية فيما يعرف بالأسرة المنتجة أو تعاونيات خصوصا بالنسبة للحرفيين والحرفيات الناشطين في بعض المهن الريفية التي تقاوم الزمن، وبحاجة الى تجديد وعصرنة وأغلبها في مجال صناعة الألبسة والخياطة، الصناعة الجلدية التي تشتهر بها بلدية بني عمران، صناعة السلالة، الفخار، الحلي وغيرها من الإبداعات التي ترمز الى العمق الحضاري والتاريخي للمنطقة وتعكس حجم الزخم الذي تتميز به الثقافة الجزائرية وموروثنا المادي واللامادي.
وقد سمحت كل هذه التدابير التنظيمية والمرافقة الميدانية للحرفيين والحرفيات بولاية بومرداس من إعادة تنظيم وهيكلة القطاع، وإعادة دمج واسترجاع عشرات الحرف التي كانت مهددة بالاندثار بسبب الصعوبات المادية ومشاكل التسويق وارتفاع تكاليف المواد الأولية وانشغالات أخرى على علاقة بملف التأمين والحماية الاجتماعية للحرفي التي شكلت لائحة مطالب متكررة تم أخذها بعين الاعتبار في إطار السياسة الجديدة للحكومة الرامية الى رد الاعتبار لهذا القطاع الحساس باعتبارها رافدا اقتصاديا مهما، وركيزة أساسية للنشاط السياحي ببلادنا.
خطوات متسارعة نحو تحقيق تنمية اقتصادية
أوضحت مجبر أمينة الأستاذة بجامعة مستغانم، أنّ الصناعات والحرف التقليدية تساهم بشكل كبير وفعال في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال استقطاب عدد كبير من طالبي الشغل من الشباب وزيادة الإنتاج وكذا إمكانية الاستثمار، ممّا ستمكّن من زيادة القدرات الإنتاجية التي ستساعد على التصدير وجلب العملة الصعبة.
أشارت محدّثتنا الى المجهودات التي يبذلها القطاع بهدف تحسين مهارات التسيير عند الحرفيين، حيث تسمح هذه المهارات للحرفيين من تطوير قدراتهم لحل مشاكل نشاطاتهم في عدة مجالات لاسيما تسويق المنتجات وتحديد أسعار البيع والحفاظ على الزبائن والتكوين من أجل إنشاء المؤسسات المصغرة وتحسين تسييرها.
إلى جانب تحسين المهارات التقنية للحرفيين لاكتساب تقنيات جديدة واستخدام الات جديدة قصد تحسين الإنتاجية وتحسين النوعية وتقليص العيوب الإنتاجية، كما سيتم العمل على استغلال موارد محلية متوفرة وغير مستغلة لحد الآن.
ونوّهت الأستاذة أنّ قطاع الصّناعة التقليدية والحرف بالرغم من مساهمته في تحقيق التنمية الاقتصادية للبلاد، إلا أنه يعاني مجموعة من المشاكل مما تحد من تنميته، ولذلك فهو يحتاج إلى المزيد من الرعاية والاهتمام وجعله كأولوية تنموية ضمن السياسات الاقتصادية والإصلاحية للبلاد.
الصّناعة الحرفية.. عامل أساسي لتحقيق التّنمية المستدامة
تُعدّ الصناعات التقليدية والحرف اليدوية من الركائز الأساسية لجذب السيّاح، حيث تُشكّل دعامة مهمة لقطاع السياحة، وتُسهم في تعزيز الهوية الثقافية والشخصية الوطنية للمجتمع. كما تُعتبر محفّزاً رئيسياً لخلق فرص عمل للشباب في الولايات السياحية.
بفضل التشريعات والإجراءات التي اعتمدتها الدولة للارتقاء بالصناعة التقليدية، تحوّل هذا القطاع من نشاط هامشي إلى مصدر رزق مستدام للعديد من العائلات، خاصة في المناطق الريفية والصحراوية.
سعت الجهات المختصة في السنوات القليلة الماضية الى استحداث عدة آليات لإدراج الصناعة التقليدية ضمن الخطط الاقتصادية الوطنية، من خلال العمل على تحويل صغار الحرفيين الى منتجين يساهمون في التنمية المستدامة للمجتمع، ومنحهم هامش أكبر من النهضة التي تشهدها بلادنا، ولتحقيق هذه الإستراتيجية، شهد القطاع طفرةً نوعية من حيث الهياكل والمنشآت والنصوص القانونية التي قفزت بالقطاع الى مصاف القطاعات التي يُعوّل عليها في جلب الاستثمار وخلق قيمة مضافة وامتصاص البطالة ببلادنا.
ونتيجة لهذه السياسة، انتعشت الصناعة التقليدية بولايات الجنوب بشكل أكبر من ذي قبل، وتنفّست الصّعداء بعد سنوات من الركود الذي أدى الى ضياع الكثير من عناصر الهوية الوطنية وهجرة العديد من الحرفيين الى نشاطات أخرى.
الإستراتيجية المعتمدة للنهوض بالصناعة التقليدية ببلادنا، أفضت الى تحوّل جذري في قطاع السياحة، مدفوعة في ذلك برغبة كبيرة لدى الحرفيين في المساهمة في الدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة الإنتاجية وتعزيز القدرات الاقتصادية الموجّهة للسياحة التي ستساعد على جلب العملة الصعبة.
كما أصبح قطاع الصناعة التقليدية قطاعاً مهماً يلعب دوراً محورياً في إنعاش الاقتصاد الوطني خاصةً في المناطق القروية والريفية، من خلال استحداث فرص عمل بسيطة للسكان المحليين، والتي لا تتطلّب إمكانيات ضخمة أو استثمارات كبيرة لتحقيقها.
وقد عرف قطاع الصناعة التقليدية بولايات الجنوب، ركوداً مسّ أغلب جوانبه جراء جائحة “كوفيد-19”، وما ترتّب عنها من شلل أثّر سلباً على قطاع السياحة بهذه الولايات، غير أنه بدأ بالتعافي تدريجياً بعد ذلك بفضل سياسات الدعم التي أقرّتها الدولة، والتوجّه تدريجياً الى الاستثمار الخاص في هذا المجال.
تكنولوجيات الإعلام للتّرويج والتّسويق
إلى جانب ذلك، شكّل التسويق الالكتروني للمنتجات الحرفية فصلاً آخر من فصول تطوّر القطاع ببلادنا، حيث استعان الجيل الجديد من الحرفيين الشباب بتكنولوجيات الإعلام والاتصال من أجل الترويج والتسويق للصناعات التقليدية الجزائرية، محدثين بذلك ثورة حقيقية وضعت المنتجات الحرفية الوطنية في واجهة التراث العالمي، ومكّنت من التعريف وتسجيل العديد من عناصر الهوية ضمن التراث العالمي.
فتحت تكنولوجيات الإعلام والاتصال الباب على مصراعيه للحرفيين الشباب من أجل التعريف بمنتجاتهم الحرفية خارج التراب الوطني، غير أن السواد الأعظم من الحرفيين لم يتمكنوا من مواكبة هذا الزخم، وعجزوا عن إيجاد موطئ قدم لهم في العالم الرقمي المتسارع بسبب ضعف التكوين، واعتماد الكثيرين منهم على الطرق الكلاسيكية في التسويق، وهو ما جعل الكثير من كنوز الهوية الوطنية والصناعات التقليدية الفريدة تترنّح تحت غبار التعتيم والنسيان.
3556 مؤسّسة مصغّرة في الصّناعات التّقليدية بالجلفة
في ظل التحولات الاقتصادية العالمية، تبرز الصناعات التقليدية كأحد العوامل الأساسية التي تسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية على مستوى الولايات الداخلية ولاية الجلفة، التي تتميز بجمالها الطبيعي وتاريخها العريق، تسجل إنجازات بارزة في هذا المجال من خلال استحداث 3556 مؤسسة مصغرة وتوفير 2156 منصب شغل في غضون ثلاث سنوات فقط. الصناعات التقليدية هنا ليست مجرد حرف قديمة، بل أصبحت اليوم محركا رئيسيا للنمو الاقتصادي في المنطقة.
بحسب البيانات الرسمية، يقدّر عدد الحرفيين المسجلين في ولاية الجلفة بأكثر من 11262 حرفي نشط، منهم 8044 يختصون في مجال النسيج والخياطة التقليدية، كما تمارس 3615 عائلة صناعة النسيج الوبري، أغلبها في الجلفة ومسعد، ما جعل الولاية تتصدر وطنيا في هذا الفن التراثي، حسب تصريح مدير غرفة الصناعة التقليدية والحرف بالولاية، الربيع حمريط.
من الحرفة إلى المقاولة
أصبحت الحرف التقليدية في الجلفة رافدا حيويا للمؤسسات المصغرة، وذلك بفضل برامج الدعم مثل “أونجام” و«أناد”، فقد استفاد 3556 حرفي من إنشاء مؤسسات مصغرة، مما ساهم في توفير 2156 منصب شغل خلال ثلاث سنوات. هذا التوجه جعل من الحرفي رائد أعمال يمتلك مشروعا إنتاجيا ومصدر دخل مستدام.
هويّة من وبر تتحوّل إلى علامة تجارية
البرنوس الوبري الذي يمثل أحد أبرز رموز الهوية المحلية، تحول إلى مشروع اقتصادي استراتيجي. وقد عملت غرفة الصناعة التقليدية بالجلفة على تسجيله كعلامة جغرافية محمية، وتمّ إطلاق “العلامة الجماعية” الخاصة به بهدف حماية أصالة المنتوج وتعزيز مكانته في الأسواق. وقد خصّص له صالون وطني في نسخته السابعة خلال شهر ديسمبر الماضي، بعد انقطاع دام سبع سنوات، بمشاركة 53 عارضا من 15 ولاية. وقد شهد هذا الحدث عرض البرنوس بحسب المناطق الجزائرية، والترويج للهوية التجارية الجديدة التي تمكن من تسويقه محليا ودوليا، ما يفتح آفاقا للتصدير والمنافسة العالمية.
نوافذ للتّرويج وفتح أسواق جديدة
تعتبر المعارض المحلية والوطنية منصات مهمة لتعزيز الهوية الحرفية والتجارية لولاية الجلفة. فقد فازت الولاية بالجائزة الوطنية الأولى في مجال الجلود خلال سنة 2023 بفضل الحرفي حميدة الشيخ فتحي، الذي ابتكر تصاميم جديدة في الحقائب الجلدية، وتم تكريمه من طرف وزير السياحة والصناعة التقليدية. هذه المعارض تسمح للحرفيين بتوقيع عقود تجارية واكتساب خبرات جديدة، وتساعد على بناء شبكة علاقات مع موزعين ومستوردين من داخل وخارج الوطن.
استدامة قطاع الصناعات التقليدية رهينة بتأهيل الحرفيين ومرافقتهم تقنيا وتسويقيا. وقد أنشأت غرفة الصناعة التقليدية بالجلفة مدرسة لتكوين وتحسين مستوى الحرفيين، حيث استفاد 642 شخصا من دورات تكوينية، بالإضافة إلى تأهيل 3295 شابا وشابة عن طريق لجنة التأهيل والتكوين التابعة للغرفة، بينهم عدد كبير من النساء والشباب، من دورات تكوينية متخصصة رفعت من جودة المنتجات وقيمتها التسويقية. كما تنظم ورشات رقمية لمساعدة الحرفيين في إنشاء متاجر إلكترونية وتسويق منتجاتهم عبر المنصات الرقمية، وهو ما يمثل نقلة نوعية نحو التموقع في السوق الحديثة وتوسيع رقعة الزبائن.
نحو تنمية اقتصادية مستدامة
يرى مدير غرفة الصناعة التقليدية بالجلفة، الربيع حمريط، أنّ القطاع يمتلك مقومات حقيقية لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، شريطة استمرار جهود التأهيل والتكوين، وتسهيل التمويل، وتحسين آليات التسويق، بالإضافة إلى ربط الصناعة التقليدية بالسياحة الثقافية والبيئية. فالصناعات التقليدية حسب قوله “هي اقتصاد بديل يستثمر في الإنسان وفي الهوية، ويوفّر فرصا استثمارية بتكلفة منخفضة وعوائد مرتفعة”.
الخبير سليماني عبد القادر : حماية التّراث الحرفي.. أولوية لمواجهة التّحديات الخارجية
يتمتّع قطاع الصناعات التقليدية في الجزائر بمزايا عديدة، أهمها التراث الوطني الغني، والارتباط العميق للمنتجات بالجذور المحلية، إلى جانب تنوع المهارات والكفاءات، وإمكانية الاندماج في سوق العمل بتكاليف منخفضة. ويوضّح الخبير الاقتصادي سليماني عبد القادر لـ “الشعب” أنّ المدونة الجزائرية للصناعات التقليدية والحرف تشمل 332 نشاطاً، موزّعة على ثلاثة مجالات رئيسية: الصناعة التقليدية الفنية، وإنتاج المنتجات التقليدية، والخدمات المرتبطة بالحرف اليدوية.
يشغل القطاع حوالي 500,000 حرفي ومؤسسة صغيرة، مما يوفر أكثر من مليون ونصف وظيفة مباشرة وغير مباشرة. ويرى الخبير سليماني عبد القادر أن “الجزائر تمتلك كافة المقومات، التي تؤهلها لتكون قوة رائدة في هذا المجال الحيوي، حيث تحظى بمساحات واسعة وثروة طبيعية غنية بالمواد الأولية الضرورية، إلى جانب توفرها على كفاءات بشرية ذات مستوى عال”.
من التّراث إلى التنمية الاقتصادية
ونوّه كذلك بدورها المحوري في تعزيز السياحة الداخلية والخارجية، إلى جانب مساهمتها في تنويع الصادرات خارج المحروقات، مما يضفي على هذا القطاع أهمية اقتصادية كبيرة لا يمكن إغفالها، وفق تعبيره.
واعتبر المحلل والخبير الاقتصادي سليماني عبد القادر أن “الحرف اليدوية والصناعات التقليدية، تكتسب أهمية متزايدة في المناطق السياحية، مثل الصحراء ومنطقة القبائل والأوراس والشواطئ والمناطق الجبلية”.
واسترسل يقول أن “السياح يُظهرون اهتماما كبيرا بشراء المنتجات التقليدية الأصلية، المشهورة بجودتها، والمعروفة باسم “الأوريجينال”، والتي تُباع بالعملات الأجنبية”.
وأشار إلى أنّ “هذا النوع من الصناعات التقليدية المنتشرة في جميع أرجاء البلاد، ليست فقط ركيزة أساسية للاقتصاد المحلي، بل تعد أيضا علامة موىوث ثقافي، يعكس غنى التراث الثقافي المميز للجزائر”.
تكثيف الجهود لحماية الهويّة الوطنية
وأشاد بالأهمية الكبيرة التي يضطلع بها القطاع في دعم الهوية الثقافية الوطنية وتعزيز جذورها، مع التأكيد على ضرورة تكثيف الجهود الوطنية لحماية هذا الإرث الغني. وأشار إلى التحديات المتنامية التي تواجه الجزائر في صون تراثها الثقافي والحرفي، الذي يتعرض لمخاطر التشويه والإعتداء من مصادر خارجية، خصوصا من النظام المخزني، وفق تعبيره.
وشدّد في هذا السياق على “ضرورة صون التراث الثقافي وتعزيز الهوية الوطنية، وذلك من خلال حماية العلامات التجارية الجزائرية، والعمل على تسجيلها لدى المؤسسات الدولية كمنظمة اليونسكو”. وأوضح أنّ “اختيار المنتجات ذات علامة “صنع في الجزائر، لا يقتصر على كونه شعارا تجاريا، بل يمثل رمزا، يعبر عن الجودة والأصالة ويرتبط بتاريخ وثقافة التراث الجزائري المتنوع والغني”. كما ألح على”ضرورة تطوير آليات التوزيع المباشر للمنتجات الجزائرية عبر الإنترنت وتحسين اللوجستيات الحديثة، ممّا يسهل وصولها إلى المستهلكين حول العالم بكل سهولة ويسر”.
مشروع البطاقة الإلكترونية
من ناحية أخرى، أكد المحلل الاقتصادي سليماني عبد القادر أن “القطاع يشهد تقدما نحو التحديث”، مستدلا بمشروع البطاقة الرقمية الإلكترونية للحرفيين الذي يتم بالتعاون مع وزارة الداخلية والجماعات المحلية، بهدف الاستفادة من البيانات المتوفرة في بطاقة التعريف الوطنية. وأضاف أن “الجزائر توفر مزايا، مثل بطاقات المقاول الذاتي وبطاقات الحرفي، التي تسهم في دعم الحرفيين للحصول على تمويل وقروض بنكية”.
ومع ذلك، أوضح أنّ “التحديات المتمثلة في نقص التسهيلات المصرفية والدعم المالي، تعرقل تمكين الحرفيين والشركات الصغيرة من التوسع إلى آفاق اقتصادية أوسع”. وأكّد أنّ “مواجهة هذه التحديات، يتطلب وضع استراتيجية وطنية شاملة، مع توفير آليات تمويل مبتكرة تعتمد على تعبئة الموارد المالية عبر المؤسسات البنكية والصناديق العامة، بالإضافة إلى تقديم تسهيلات للمؤسسات الصغيرة والعائلات المنتجة لاعتماد التكنولوجيا الحديثة”.
وصرّح المحدث بأن “تعزيز قيمة المنتجات الحرفية وتطويرها، يحتاج إلى دعم شامل ومستدام للحرفيين، عبر توفير الظروف الملائمة التي تُمكّن من تحقيق تحول جوهري، يعتمد على استثمار الموارد المحلية وإحياء التراث الثقافي الثرّي الذي تمتاز به الجزائر”.
كما أكّد على “ضرورة دعم العائلات المنتجة”، مشيرا إلى “الاهتمام الكبير” الذي يوليه رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، لهذه الفئة، وخصوصا في المناطق الصحراوية، الهضاب العليا، الجبال، فضلا عن القرى والمداشر”. وأوضح محدثنا أن “تعزيز قيمة المنتجات الحرفية وتطويرها، يتطلب دعما مستمرا وشاملا للحرفيين، من خلال توفير الظروف المناسبة، التي تضمن تحقيق نقلة نوعية، تعتمد على الموارد المحلية والإرث الثقافي الذي تزخر به بلادنا”.
ودعا إلى “تكاثف جهود مختلف الوزارات، مثل وزارات الثقافة، السياحة، المالية، التعليم العالي، والتكوين المهني، بهدف تطوير آليات مشتركة، تمكن الشباب والطلبة والمتدربين من الانخراط في مجال الإنتاج على نطاق واسع”. وأضاف موضحا: “نعيش في عصر السرعة وثورة تقنية بارزة، يقودها الذكاء الاصطناعي، مما يجعل من المهم استغلال التراث الثقافي والتاريخي للجزائر بأسلوب مبتكر وفعّال”.
وركّز في هذا الشأن على “ضرورة تطوير الصناعات التقليدية وتحديثها، وذلك من خلال إدماج تقنيات الميكنة واستخدام التكنولوجيا الحديثة لتحقيق الانتقال من الإنتاج المحدود إلى الإنتاج المكثف.
وأوصى الخبير الاقتصادي سليماني بتشجيع الشركات الناشئة على الاستثمار في مجالات التسويق الإلكتروني واعتماد التكنولوجيا الحديثة لتعزيز الإقتصاد الرقمي.
وأشار إلى أنّ “الغرف التقليدية والغرف السياحية، تلعب دورا أساسيا في تحقيق هذا الهدف، إلى جانب الدبلوماسية الاقتصادية التي تتجسد من خلال جهود السفارات والقنصليات ومجالس الأعمال الجزائرية في الخارج”. وأبرز أيضا “الدور الذي تضطلع به الجالية الجزائرية في الخارج، باعتبارها جسرا يربط الجزائر بالعالم ثقافيا واقتصاديا”، مؤكدا على “مساهماتها في تقديم صورة إيجابية ومشرقة لهذا الإرث العريق”.
ويعتقد المحلل والخبير الاقتصادي سليماني عبد القادر، أنّ “هذا النهج يساهم في تعزيز وتنشيط الصناعات التقليدية، كقطاع اقتصادي وثقافي يسهم في خلق الثروة وتحقيق التنمية المستدامة، فضلا عن دعم جهود الدولة، الرامية لحماية التراث بشقيه المادي واللامادي، وضمان استمراره ونقله إلى الأجيال القادمة”.