يتجّه العالم بشكل سريع لاستخدام الذّكاء الاصطناعي في مختلف مناحي الحياة، وأضحى الحديث عن الثورة التكنولوجية التي تحاكي القدرات الذهنية للبشر في التفكير والأداء، موضوعا يوميا، ما يستدعي ضرورة التكيّف مع التغيرات المستقبلية وتسخير هذه التقنية في الحياة اليومية، مع فهم الإمكانات والتحدّيات التي قد تنجم عن توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي، سيحدث – عاجلا أم آجلا – تحوّلا جذريا في نمط حياة الإنسان.
في سياق ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة، يمتد تأثير هذه التكنولوجيا ليشمل ميدان الثقافة والفنون، حيث تعمل الهيئات الفاعلة في هذا القطاع على تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي والاستفادة من إمكانات الرقمنة لخدمة الثقافة. وتعد الجزائر من بين الدول التي تستثمر في التكنولوجيات الحديثة، وتسعى لاستغلالها في مختلف المجالات، مع التركيز بشكل خاص على حماية التراث الثقافي وصونه وتوثيقه بهدف نقله إلى الأجيال القادمة، وربطها بماضيها وحاضرها.
وتتجلى هذه الجهود من خلال المساعي الحثيثة لوزارة الثقافة والفنون، من خلال العمل على رقمنة وتوثيق التراث الوطني. وفي هذا الإطار، أكد وزير الثقافة والفنون، زهير بللو، على “انخراط قطاع الثقافة ضمن الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي”، وذلك بهدف حماية الموروث الثقافي الذي يعتبر من الركائز الأساسية للهوية الوطنية والدينية واللغوية للشعب الجزائري، فالحفاظ على التراث الوطني هو صون لكيان الأمة وذاكرة الوطن.
ملف: أسامة إفراح وفاطمة الوحش وموسى دباب وأمينة جابالله ومحمد الصالح بن حود
الذكاء الاصطناعي في خدمة التراث الثقافي الوطني
يلعب التراث الثقافي دورا محوريا في تشكيل هويتنا وفهم تاريخنا المشترك.. من أجل ذلك، يعتبر الحفاظ على هذا التراث من الأولويات، خاصة في عصر العولمة وتماهي الهويات والثقافات.. في هذا السياق، برز الذكاء الاصطناعي ليكون أداة فعّالة في خدمة هذا المسعى، وسمحت الحلول المبتكرة التي يوفرها باقتصاد الوقت والجهد، وبجودة وفعالية أكبر في شتى المجالات، ومنها حماية التراث الثقافي، وهو ما أدركته الجزائر، فحشدت له مواردها المادية والبشرية.
يمكن لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تعزيز التراث الثقافي أن يُحدث ثورةً في طريقة تفاعلنا مع هذا التراث وصونه وحمايته، فمن خلال توظيف هذه التكنولوجيا بطرق مبتكرة، يُمكن للدول والمجتمعات حماية تقاليدها وآثارها ومعارفها الفريدة للأجيال القادمة.
خدمات ذكية وحلول مبتكرة
يقدم الذكاء الاصطناعي حلولا تقنية من شأنها حفظ التراث الثقافي وصونه وتعزيزه. ومن بين هذه الحلول إسهامه في رقمنة الوثائق والقطع الأثرية التاريخية وحفظها، ومن الأمثلة على إنشاء أرشيفات وقواعد بيانات رقمية تحفظ المعارف والتقاليد الأصيلة، تنفيذ المتحف الوطني البرازيلي نظام ذكاء اصطناعي يحوّل مجموعة المتحف الواسعة من القطع الأثرية إلى بيانات رقمية ويحللها، مما يجعلها في متناول الباحثين والمؤرخين وعامة الناس. من جهته، نفّذ “المعهد الأسترالي لدراسات السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس” (AIATSIS) نظام ذكاء اصطناعي يحوّل لغات السكان الأصليين وقصصهم وأعمالهم الفنية إلى صيغة رقمية، ويحللها، مما يجعلها في متناول مجتمعاتهم وعامة الناس.
وبإمكان الذكاء الاصطناعي تحليل وتفسير كميات هائلة من البيانات الثقافية، كالوثائق التاريخية والأعمال الفنية والاكتشافات الأثرية، ما يسمح للباحثين باكتشاف روابط ورؤى جديدة حول الماضي، وأنماط وعلاقات ورؤى ربما أغفلها الباحثون.
وفي مجال حفظ وترميم مواقع التراث الثقافي والقطع الأثرية، قد يستخدم الذكاء الاصطناعي في تحليل حالة المباني والمنحوتات والأعمال الفنية التاريخية، واكتشاف علامات التدهور أو التلف أو عدم الاستقرار الهيكلي، واستخدام هذه المعلومات لوضع استراتيجيات حفظ مُحددة، وتحديد أولويات التدخلات، ومراقبة الحالة طويلة المدى لأصول التراث الثقافي. كما نجده في إعادة البناء الافتراضية للمواقع والمعالم التاريخية، بإنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد غامرة لهذه المواقع.
ومن الأمثلة الأخرى على الاستخدامات الممكنة للذكاء الاصطناعي، نذكر معالجة اللغة الطبيعية لترجمة النصوص التاريخية وتحليلها، من خلال تفسير وتحليل النصوص المكتوبة بلغات قديمة أو غامضة، ما يسمح باكتساب رؤى جديدة حول ثقافات وفترات تاريخية مختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، يُمكن للذكاء الاصطناعي تحسين تنظيم وعرض معارض ومجموعات التراث الثقافي، ومساعدة المتاحف والمؤسسات الثقافية على تخصيص تجربة الزائر، وتزويده بمعلومات أساسية وسياق تاريخي وموارد وسائط متعددة، واستعمال الواقع المعزز من أجل تجربة غامرة وتفاعلية. مثلا، تعاونت مكتبة قطر الوطنية مع شركات الذكاء الاصطناعي لإنشاء منصة رقمية تُقدّم جولات افتراضية للمواقع التاريخية والمتاحف والمعارض، وتستعمل هذه المنصة خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتخصيص تجربة المستخدم، وتقديم معلومات وتوصيات مُصمّمة خصيصًا بناءً على اهتمامات المستخدم وتفضيلاته. ووظفت الهند الذكاء الاصطناعي لتطوير تجارب الواقع الافتراضي التي تُتيح للزوار استكشاف المواقع والمعالم التاريخية من منازلهم. من جهته، أطلق الاتحاد الأوروبي مشروع “CULTURA”، الذي يستعمل الذكاء الاصطناعي لإنشاء تجربة واقع افتراضي غامرة تتيح للمستخدمين استكشاف مواقع التراث الثقافي الأوروبي بطريقة تفاعلية.
ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يُساعد على إيصال التراث الثقافي إلى جمهور متنوّع، من خلال تطوير الترجمة الآلية، بهدف تجاوز الحواجز اللغوية. وقد يوظف الذكاء الاصطناعي لتسهيل وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إلى التراث الثقافي، باستخدامه لإنشاء أوصاف صوتية وتعليقات توضيحية وميزات أخرى لتسهيل وصول هذه الفئة إلى التراث.
وقد يوظف الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر شمولا وتكاملا، مثلا، طبّقت مدينة كيوتو اليابانية نظام ذكاء اصطناعي للمساعدة في الحفاظ على تقاليدها العريقة وحمايتها، بحيث يُحلل نظام الذكاء الاصطناعي البيانات المتعلقة بالحرف والطقوس والاحتفالات التقليدية، مُقدمًا رؤى قيّمة يُمكن استخدامها لضمان استمرار حيوية هذه الممارسات الثقافية، ونقلها للأجيال القادمة.
ومع استمرار تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بشكل متسارع، نتوقع أن نرى، في السنوات القليلة القادمة، تطبيقات أكثر إثارةً وابتكارًا في مختلف المجالات، بما فيها التراث الثقافي.
استراتيجية وطنية واعدة
تعمد الجزائر إلى وضع الذكاء الاصطناعي في خدمة هدفين يعتبران من أولويات الدولة: الرقمنة، وحماية التراث الثقافي.
خلال إشرافه على افتتاح الملتقى الدولي “التراث الثقافي في عصر الذكاء الاصطناعي”، الذي احتضنته المدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي، مطلع الأسبوع الجاري، أكد وزير الثقافة والفنون زهير بللو على أن الدولة الجزائرية، بقيادة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، تولي أهمية بالغة لحماية التراث الثقافي، كما نصّت عليه المادة 76 من الدستور. كما أوضح بأن قطاع الثقافة انخرط بفعالية ضمن الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، عبر إدراج 12 مشروعًا محوريًا ضمن المخطط الوطني للرقمنة، تشمل دعم البحث العلمي، وتشجيع المؤسسات الناشئة، وإشراك الجامعات والمجتمع المدني.
وتطرق الوزير إلى إنجاز الخريطة الأثرية الجزائرية على مستوى المركز الوطني لعلم الآثار، وإطلاق نظام معلومات جغرافي تفاعلي يدعم اتخاذ القرار الثقافي، ويؤسس لمرجعية وطنية رقمية. وكشف الوزير عن مقاربة اقتصادية جديدة تتبناها الوزارة، تقوم على تثمين التراث كمورد استراتيجي للتنمية الوطنية، عبر دعم الشباب، ومرافقة المؤسسات الناشئة، وتوفير بيئة محفّزة لمبادراتهم داخل المتاحف والمواقع الأثرية. وفي هذا الصدد، أعلن الوزير عن إطلاق أول تحدٍ وطني لفائدة الطلبة في مجال الذكاء الاصطناعي الموجّه لحماية التراث الثقافي، يشرف عليه قطاع التعليم العالي عبر منصته الحاضنة، ويُختتم بتكريم الفائزين من حاملي الأفكار والمشاريع في ختام شهر التراث.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الملتقى تميّز بمشاركة نوعية لنخبة من الباحثين والخبراء الجزائريين الذين يشغلون مناصب علمية مرموقة في أرقى المعاهد والجامعات العالمية. وشهد الملتقى عرض مشاريع بحثية وتجارب ابتكارية تُبرز الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي في صون التراث الثقافي، على غرار استخدام التوأم الرقمي، والترميم الافتراضي، والكشف عن التزوير الفني، والمنصة الرقمية الذكية لحفظ التراث المعماري، وترميم الفسيفساء باستخدام الذكاء الاصطناعي، والأبعاد العلمية والإنسانية للذكاء الاصطناعي في حفظ التراث اللامادي وتحليل الهياكل، إلى جانب عروض لمشاريع مبتكرة بعقول شباب جزائريين.
ولعلنا نستخلص، من مثل هذه التظاهرات، مجموعة استنتاجات، نذكر من بينها توفر الإرادة السياسية على أعلى المستويات للمضي قُدما في مساعي الرقمنة والعصرنة، والوعي بالإمكانيات والحلول التي توفرها التكنولوجيا وبالأخص الذكاء الاصطناعي التوليدي في شتى المجالات، بما في ذلك حماية وتعزيز التراث الثقافي الوطني، وأيضا توفر الإمكانيات المادية، والأهم من ذلك الطاقات البشرية، من خلال عقول جزائرية قادرة على رفع التحدي والإسهام في إنجاح هذه المساعي، إن هي وُظفت بالشكل الأمثل.
البروفيسور عبد القادر دحدوح: الذكاء الاصطناعـي.. مستقبل آمن للتراث الثقافي
أكد البروفيسور عبد القادر دحدوح، المختص في التراث الثقافي، أن التقدم التكنولوجي الكبير الذي يشهده العالم اليوم، لا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي، يتيح فرصاً غير مسبوقة لحماية التراث الثقافي، المادي منه واللامادي، والعمل على توثيقه ونقله للأجيال القادمة.

وأشار دحدوح في تصريح لـ«الشعب” إلى أن الرقمنة والذكاء الاصطناعي وما يرتبط بهما من تطبيقات إلكترونية حديثة، باتت من الأدوات الأساسية في عمليات التوثيق، بعد أن ظل الاعتماد لعقود طويلة على الأساليب الورقية والتصوير التقليدي. وأضاف، أن التوثيق الرقمي يشمل اليوم مختلف أشكال المحتوى، من الصور والفيديوهات، إلى البيانات البيبليوغرافية، ومعالجة النصوص، وتحليل البيانات، وحتى رسم الخرائط ذات العلاقة بالمواقع والمعالم الأثرية.
وقال دحدوح، إن استخدام الذكاء الاصطناعي لم يعد يقتصر على التخزين والعرض، بل تطوّر ليشمل تحليلاً فورياً للبيانات وتشخيصاً دقيقاً للمشكلات، مع تقديم حلول ومعالجات عملية، مما يمنحه دوراً أساسياً في استراتيجيات صون التراث وتثبيت الهوية الوطنية.
وفي معرض حديثه عن التحديات، لفت المتحدث الانتباه إلى أن من أبرز العوائق التي تواجه عملية دمج الذكاء الاصطناعي في قطاع التراث، نقص التكوين وغياب الإمكانيات اللازمة لاقتناء التكنولوجيا الحديثة، فضلاً عن الحاجة إلى دعم البحث العلمي في هذا المجال، وتكريس التعاون بين المتخصصين في الذكاء الاصطناعي والمهنيين في علوم التراث والآثار.
وأكد في السياق ذاته، أن علم الآثار والعلوم المرتبطة بالتراث من أكثر التخصصات حاجةً إلى هذه التقنيات، سواء في مجالات البحث والتنقيب أو الترميم أو إدارة المواقع والمتاحف. وبيّن أن التجارب الميدانية قد أظهرت فعالية الذكاء الاصطناعي في تحليل الصور والبيانات والوثائق، وتقديم رؤى دقيقة تساعد في اتخاذ القرار المناسب لحماية الموروث.
كما شدّد البروفيسور دحدوح على ضرورة تنظيم دورات تكوينية وورشات تدريبية لفائدة مسيري المتاحف والقائمين على صيانة وترميم التحف والمواقع الأثرية، لتمكينهم من استخدام هذه الأدوات الحديثة والاستفادة من قدراتها التقنية.
وبخصوص الوضع في الجزائر، قال عبد القادر دحدوح، إن هناك توجهاً واضحاً لدى الدولة لتبني الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، بما في ذلك قطاع الثقافة والفنون، مشيداً باختيار وزارة الثقافة لشعار “التراث الثقافي في عصر الذكاء الاصطناعي” لاحتفالية شهر التراث لهذه السنة.
وأوضح، أن الملتقى الدولي الذي نُظم يوم 19 أفريل الجاري بالمدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي، بحضور وزير الثقافة والفنون، شكّل فرصة مهمة لعرض تجارب دولية في استخدام الذكاء الاصطناعي في ترميم المعالم الأثرية وتحليل الهياكل العظمية، والتنبؤ بالمخاطر البيئية التي تهدد المتاحف، مشيراً إلى أن الوزارة تتجه فعلياً إلى تدريب إطاراتها على هذه الآليات لتطبيقها ميدانياً.
وختم دحدوح حديثه، بالإشادة بالمبادرات الشبابية التي تم عرضها خلال المناسبة، والتي تضمنت أفكارا مبتكرة لتطبيقات إلكترونية موجهة لحماية التراث الجزائري، مؤكداً أن تشجيع هذه الطاقات الشابة ودعم مشاريعها هو السبيل الأمثل لضمان مستقبل رقمي واعد للتراث الوطني.
البروفيسور سلامي: تعميـم الذكـاء الاصطناعي بالجامعات.. خطوة استراتيجية
أكد البروفيسور والخبير الدولي في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، سعدي سلامي، أن سياسة الدولة الجزائرية في هذا المجال بدأت فعليا منذ ثلاث أو أربع سنوات، لمواكبة الثورة الرقمية العالمية، من خلال خطوات عملية، أبرزها إنشاء المدرسة العليا للذكاء الاصطناعي سنة 2021، وتعميم التخصص على أزيد من 100 جامعة. كما واصلت الدولة في 2024 و2025 توسيع التكوين، بإدراج مقياس الذكاء الاصطناعي والرقمنة في معظم التخصصات الجامعية، بما في ذلك العلوم الإنسانية واللغات، بهدف تعميم الثقافة الرقمية تدريجيا على الطلبة.

كشف البروفيسور سلامي في حديثه لـ«الشعب” عن مبادرة بحثية تقودها مخابر جامعية جزائرية، لتصميم خوارزميات ذكية لحماية المخطوطات باعتبارها ركائز من الهوية الوطنية. لافتا إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي أصبحت توفر أدوات دقيقة لترميم الصور والمخطوطات، وإعادة تشكيل المباني التاريخية، واستعادة المشاهد القديمة، بل وحتى التنبؤ بشكل المواقع الأثرية المندثرة، إضافة إلى التعرف على الوجوه التاريخية، واستعادة اللهجات واللغات المهددة بالاندثار. كما يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الأمثال والحكم الشعبية، وتحويلها إلى محتوى تعليمي.
وشدد المتحدث على ضرورة وضع آليات للكشف عن التزوير الرقمي للتراث، باعتباره خطرا حقيقيا، قد يستخدم لتشويه التاريخ أو نشر أفكار متطرفة، ما يتطلب تكوينا علميا ورقابيا متطورا، يضمن استخدام الذكاء الاصطناعي لصالح حماية التراث لا العكس ولحفاظ على اللغة والموروث الثقافي والديني، باعتبارهما من دعائم الهوية الوطنية ووسائل الحماية من الغزو الفكري.
وأوضح المتحدث أن المقصود بالموروث الديني ليس الدين الإسلامي نفسه، لأنه محفوظ عبر الأجيال، بل ما كتبه وأنجزه علماؤنا القدامى من مؤلفات وشروحات واجتهادات، باعتبارها منتوجا بشريا يعكس التوجهات الفكرية للأمة ويجب حمايته من التحريف والتشويه، خاصة في ظل ظهور فتاوى دخيلة وممارسات غريبة تنسب زورا إلى الدين.
وأكد الخبير الدولي أن هذا التراث الديني هو الأساس الذي تقوم عليه ثقافتنا الإسلامية المعاصرة، ومن الضروري حمايته وتوثيقه وصيانته باستعمال التقنيات الحديثة حيث
يرى أن أكبر التحديات تكمن في ضعف الخبرة الرقمية لدى العاملين في قطاع الثقافة والتراث، ما يتطلب تكوينا متخصصا في توظيف تقنيات الرقمنة. كما أشار إلى نقص البيانات الضخمة الضرورية لتدريب الخوارزميات، خاصة تلك التي تتطلب معطيات دقيقة أو حساسة، داعيا في هذا السياق، إلى تطوير خوارزميات تكشف زيف المحتوى، وتساعد في تحديد أصالة المخطوطات والفترة التي تنتمي إليها.. واقترح ترجمة المخطوطات القديمة إلى لغات حديثة، وحماية اللهجات المحلية من الذوبان. كما شدد على ضرورة إنتاج مشاهد ثلاثية الأبعاد لأحداث تاريخية موثوقة، لمحاربة الفيديوهات المفبركة.
وأشار سلامي في سياق حديثه إلى أهمية توظيف تقنيات حديثة كالرادارات والطائرات المسيرة للتنقيب عن الآثار، ومعالجة الصور وترميم واستنطاق المخطوطات واستعمال تقنية الحقائق الافتراضية، وتقنية الواقع المعزز في التعليم و دور الثقافة والمكتبات والمتاحف لإعادة مشاهدة الأحداث التاريخية واقعيا، مؤكدا أن الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفا، بل ضرورة لحماية الهوية الوطنية عبر ذاكرة رقمية متينة.
الدكتورة أميرة زاتير : الذكاء الاصطناعي.. حماية الخصوصية التراثية الثقافية
تقول الدكتورة أميرة زاتير “إنه من التناقضات الجميلة والغريبة في نفس الوقت الانسجام الموجود ما بين التكنولوجيا والماضي، فصار الاثنين ينسجمان في قالب واحد من أجل تكريس وحماية الخصوصية التراثية الثقافية لأي مجتمع، لاسيما الحضارات الغابرة، حيث كان يظن الكثير أنها صارت وتراثها المادي منسي ومندثر للأبد”.

قالت أستاذة الهندسة المعمارية بالمدرسة الوطنية المتعددة العلوم للهندسة المعمارية والعمران الجزائر العاصمة أميرة زاتير، في حديث لـ«الشعب”، إن الذكاء الاصطناعي صار آلية ناجعة لتسهيل الصعب في الميدان البيداغوجي والعلمي والرقمنة، وأضافت: “اليوم صرنا نستخدمه في خدمة التراث الثقافي من خلال عملية التوثيق الرقمي له بكل الآليات والتصنيفات المتاحة، حيث أن الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته صار الأنجع”.
وأشارت المتحدثة إلى أن الذكاء الاصطناعي يتمتع بمميزات تجعله يستخدم في صون التراث بصنفيه وبكل أشكاله، وأفادت “هناك عدة تطبيقات قد استحدثت في الذكاء الاصطناعي والتي صارت تساعد المختصين في العمارة وفي التراث بصورة عامة في إعادة الترميم الافتراضي وتقديم فرضيات بالنسبة للمباني، وعليه فكل ما وصلنا الآن نضعه أمامنا، وعن طريق مختلف التقنيات نستخدم جداول وفرضيات وبطريقة منهجية نعيد الترميم وإعادة تأهيل افتراضي لذلك الزي أو الموقع، أو لتلك المدن وحتى لحضارات كانت قائمة”.
وكباحثين – تقول زاتير – “طوّرنا تقنيات ترميمية ناجحة، حيث ساعدتنا في المتاحف والجولات الافتراضية لكي نقرب للسائح وللأفراد ما كانت عليه مدننا القديمة، أو ما كان على شاكلة أزياء وغيرها من أوجه التراث المختلفة”.
وترى المتحدثة بأنه حتى يطور ويعزز هذا الحوار ما بين الذكاء الاصطناعي والتراث وحتى يعد الذكاء الاصطناعي في خدمة التراث، يجب فهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وايجاد مناخ مناسب له، ناهيك عن استعماله بطريقة مفيدة لا أن نبتعد عن الوسط الذي كان فيه ذلك التراث أو عن الفرضية الحقيقية التي بني عليها البحث.
وأضافت بأنه يجب أن تكون لدينا معرفة واطلاع كبيرين بالمعطيات النظرية لذلك الموقع “حتى نستطيع أن نستعمل الذكاء الاصطناعي في هكذا مجال، وكي لا نجد أنفسنا بعيدين عن نتائج تحاكي خصوصيتنا، إلى جانب ذلك يجب أن نواكب كل التطورات وكل جديد حول هذه الثورة التكنولوجية”.
وتؤكد الدكتورة أميرة زاتير، في سياق حديثها، بأن الجزائر مثلها مثل بلدان العالم تتجه بوعي كبير نحو استخدام الذكاء الاصطناعي واستغلاله في عدّة مجالات، وذلك من خلال مخابر مختصة في البحث العلمي، لاسيما تلك المتعلقة بصون التراث.
وأوضحت زاتير أنهم كمختصين في العمارة والتراث قدموا مع طلبة لما قبل وبعد التدرج مقالات وأبحاث ونتائج لأول تصور لترميمات افتراضية لمدن كانت قد اندثرت تماما، لا يعرفون عنها شيئا إلا عبر ما وصلهم من خلال كتب ومقالات، مشيرة إلى أنهم يعملون على ترجمة تلك المراجع والمخطوطات إلى أبعاد ورسومات معمارية ويستعملونها في تصنيفات الذكاء الاصطناعي حتى تقرب لهم الصورة كما ينبغي، مؤكدة أن هذه التقنية كانت ناجحة.
كما أشارت في ذات الصدد لنتائج الأبحاث التي توصلت إليها عبر استخدام الذكاء الاصطناعي، على رأسها إعادة تأهيل “المدن والعمارة الأميرية” التي شيدت في فترة الأمير عبد القادر، وأيضا بحوث ذات صلة تعكس بحسب المتحدثة “حقيقة استعداد الجزائر لتوظيف الذكاء الاصطناعي من أجل تعزيز وبلورة تراثنا الثقافي والحفاظ عليه”.
يوسف اولاد حسيني: الإبداع الوطني.. رافد أوّل لتقنيات الذكاء الإصطناعي
يرى الأستاذ الجامعي يوسف اولاد حسيني، أن الحديث عن موضوع الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن، يحمل دلالات التأثير والتأثر، على غرار الحديث عن العولمة وتداعياتها والرقمنة وميزاتها في وقت سابق، وما كان منها على الفرد والمجتمع وعلى تراثهم المادي وغير المادي، مشيرا إلى أنه لا يمكن نفي القفزة النوعية التي قدمتها هاته التقنيات من حيث السرعة، التكلفة، الخدمة، المرونة والراحة، لكنها في نفس الوقت، ساهمت في نمو الإشكاليات القانونية والاخلاقية في الاستخدام، منها الهيمنة الثقافية واللغوية والهيمنة الاقتصادية.
أكد المختص في خدمات المعلومات الإلكترونية في المؤسسات الوثائقية بجامعة الحاج موسى أخاموك بتمنغست، الدكتور يوسف اولاد حسيني، أن الجزائر تعمل على مواكبة التطورات الحاصلة في مجال التقنية الرقمية والذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، خصوصا صناعة الشرائح الالكترونية التي ستدعم تبني تقنيات ذات بعد محلي، ومجال التخزين السحابي للبيانات على المركز الوطني للبيانات السحابية التي بدأت الجزائر في انشاءه.
وقال المتحدث في تصريح لـ«الشعب”، إن المجال الثقافي يعمل في الوقت الراهن على مجال الرقمنة بشكل كبير، ولعل هذا يندرج في السياسة الوطنية على تسجيل التراث الثقافي للحفظ عبر الهيئات العالمية كاليونسكو، وعبر رقمنة شبكات المكتبات الرئيسية للمطالعة العمومية ودور الثقافة والحضائر الثقافية، في حين يرى أن تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال الثقافي لا يزال ميدان فراغ، وقد يعود ذلك – بحسبه – لحداثته أو للمخاوف التي تتطلب بنية تحتية وطنية لتوازن بين الحفظ والحماية.
ويرى أولاد حسيني أن تبني التقنية الرقمية عموما، والذكاء الاصطناعي خصوصا في مجال التراث الثقافي، يطرح إشكاليات متعلقة بالهيمنة الثقافية، مؤكدا أن النماذج العالمية تعبر عن القوة الثقافية السائدة، ومنه فإنها تروج لتوجهاته الثقافية مما سيؤثر على التواجد الثقافي للأخر وقد يكون مدمرا لبعضها أيضا، وأضاف أن التحديات الأخلاقية في الاستخدام تزيد من هاته المخاطر عبر التوجيه المقصود من بعض الأطراف لأغراض ثقافية سياسية وتجارية، بالإضافة إلى المخاطر التكنولوجية المتعلقة بالهجمات السيبريانية والتقدم التكنولوجي التي قد تتسبب بخسارة للبيانات وتقادم في أشكال الملفات، وأخيرا ظهور ثقافات رقمية قد تؤثر على الأصالة وتغير السياق الأصلي لوجود التراث الثقافي، مما يطرح تساؤلات مستقبلا ما أصل هذا التراث الثقافي؟.
وفي سياق آخر، تطرق محدثنا إلى مفهوم التوثيق الرقمي بتقنية الرقمنة، والذي يعبر عن تسجيل وتخزين وإدارة المعلومات المتعلقة بالتراث الثقافي عبر التصوير الرقمي أو المسح الضوئي ثلاثي الأبعاد أو التسجيلات السمعية والبصرية أو التسجيلات الوصفية لما وراء البيانات، ولعل دمجه مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي – يضيف محدثنا – يتيح إمكانيات لحفظ وحماية وإعادة احياء التراث الثقافي عبر تعزيز إمكانية الوصول الدقيق، وإعادة الانتاج للأهداف الاحترازية، بالإضافة إلى التقليل من المخاطر المتعلقة بالتلف والتأكل للتراث المادي، والضياع والاندثار بالنسبة للتراث اللامادي، مشيرا أن الخوض في هذا المجال يقودها تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد، التحليل التنبئي، الروية الحاسوبية، الواقع المعزز والواقع الافتراضي “لكن رغم هاته الميزات القوية التي تتيحها التقنية الحديثة، لكنها تطرح إشكاليات الهيمنة الثقافية واللغوية، كونها تنبع من شركات غربية لا تحمل نفس التوجهات الثقافية التي تمثل الهوية الوطنية”، في نظر المتحدث.
اولاد حسيني يرى أن تبني هذه التقنيات يجب أن ينبع من الابداع والتطوير الوطني والمحلي، مستمدا من هذه التجارب ما يمكن أن يفيد في هذا الانتاج الوطني المرفق بسياسات وطنية تراقب وتتماشي وتحرص على الجوانب القانونية والأخلاقية للاستخدام من أجل حماية بياناتها، وقال “في هذا الشأن خطت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خطوات معتبرة في هذا السياق عبر دور الذكاء الاصطناعي ومشاريع البحث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، ومشاريع صناعة الشرائح الدقيقة لتطوير الصناعة الالكترونية كلها سيكون لها أثر واضح على التراث الثقافي مستقبلا، والحفاظ على الهوية الوطنية في ظل الصراع الثقافي العالمي”.