واجه جيش التحرير الآلة العسكرية الفرنسية المدمرة بأبسط ما في حوزته في معارك ضارية لم يكن فيها ميزان القوة متكافئا أبدا، كما هو الشأن في المعركة التي نحتفل اليوم بذكراها الثالثة والستون، ألا وهي معركة فوغالة الخالدة، التي جرت وقائعها في نواحي جبل وستيلي بباتنة بتاريخ 23 فيفري 1958 .
والتي قال عنها أحد الجنود الفرنسيين المشاركين “إن يوم 23 فيفري هو الأكثر دموية في تاريخ الوحدة 18 للقناصة المظليين، و ان من لم يعش أطوار المعركة و يعتقد ان ” الفلاقة ” لا يحاربون بجدية إما وصلته أخبار خاطئة او أنه لم يشارك ابدا في اشتباك عسكري”.
معركة واحدة يتسمستين…
سميت هذه المعركة باسم المنطقة التي وقعت فيها و هي فوغالة نسبة ألى عين بها تسمى عين فوغالة بجبل وستيلي، أما موقع المعركة بالتدقيق و المعروف عند أهل المنطقة فهو “تيورقة”، الواقع بين بلديتي الأرباع وبني فضالة على بعد حوالي 25 كم جنوب مدينة باتنة .
أما الفرنسيون، فيسمونها “معركة راس قدلان” La bataille de Ras Gueddelane نسبة لإحدى القمم الجبلية بجبل وستيلي، التي وقعت بقربها المعركة. وتعرف هذه القمة عند الأهالي باسم اقدلالن، و هي كلمة شاوية تعني اشجار الأرز.
اما تاريخ المعركة فهو يوم الاحد 23 فيفري 1958 ، بداية من الساعة السادسة صباحا .
قبل يومين من تاريخ المعركة، و في جبل حيدوسة التقت الكتيبة الثالثة للناحية الأولى للولاية الأولى التاريخية، التي يقودها الملازم الأول أحمد امرزوقن المدعو سي احمد الجدارمي، بدورية قادمة من تونس و محملة بالأسلحة يقودها الطيب برتلة المدعو “عمي الطيب ( امغار الاوراس )”. كانت الكتيبتان تعتزمان التوجه إلى جبل وستيلي للقاء قائد المنطقة المجاهد محمد الطاهر عبيدي المدعو الحاج لخضر، لتسليمه الأسلحة الجديدة لتوزيعها على مختلف نواحي المنطقة .
وفي شهادات لمجاهدين، منهم المجاهد محمد خزار المدعو “مختار” صاحب مركز لجيش التحرير الواقع بمشتة عمارة غير بعيد عن شعبة اولاد شليح، وكذا المجاهد زيداني خياري المدعو “الخير”، اكتشف العدو الدورية و تتبع اثارها انطلاقا من اثار السير على الطين أين تبدو واضحة لكون الجو كان شتاء و ممطرا .
ففي شهادته على معركة فوغالة يقول العقيد “الحاج لخضر” الذي كان قائدا للمنطقة الأولى التي جرت على اقليمها المعركة، ونفس الكلام يؤكده المجاهد المرحوم الهادي مسعودان، أحد المشاركين فيها : ” إن هذه المعركة لم يكن مخططا لها، ذلك ان عناصر جيش التحرير الذين كانوا في تنقل إلى وستيلي لاستلام الأسلحة القادمة من تونس، فوجئوا بمحاصرة الجيش الفرنسي لهم في مكان صعب التضاريس فما كان عليهم إلا المجابهة و التصدي “.
معركة مفاجئة…
في الصباح الباكر من يوم 23 فيفري 1958 استيقظ مجاهدو الكتيبة الثالثة و مجاهدو الدورية القادمة من تونس، على انذارات و تحذيرات الحراس المجاهدين المنصبين في عدة أمكنة و الذين تفطنوا لقدوم قوات عسكرية صوب المكان الذي اتخذه المجاهدون لقضاء الليلة .
اتخذ قائد الكتيبة الثالثة الشهيد الملازم الأول سي احمد امرزوقن،و هو الأعلى رتبة ضمن الحاضرين، مسؤولياته رفقة مساعديه و ليدخل في مواجهة مباشرة مع قوات العدو.
وبفضل حنكته و تجربته العسكرية و توفره على قناصين معروفين من أمثال عيسى جاب الله المدعو “عيسى صحة صحة” ، وخبرة مساعديه منهم نائبه مصطفى عيساوي المدعو تباني (شهيد و هو من مجاهدي ليلة أول وفمبر ) و عيسى مقلاتي و الطيب برتلة (شهيدا فيما بعد وكان قناصا ماهرا بشهادة من عاشروه ) فقد استطاع أن يضبط بسرعة كيفيات المجابهة والتصدي.
لقد تدخل الجيش الفرنسي في بداية المعركة بعدة كتائب فقط من المجموعة الثامنة عشر للقناصين المظليين المدعمة بتحليق للطائرات، المعروفة بقوتها بتجربتها الحربية، حيث سبق لها وأن نكلت بسكان الأوراس في نواحي مختلفة و اشتبكت مع المجاهدين في العديد من المناطق كالبليدة والجزائر وسوق اهراس وقالمة ، والميلية وتبسة .
غير انها تفاجئت برجال يحسنون فنون الحرب و القتال باعتراف الفرنسيين انفسهم و تيقنوا انهم في مواجهة رجال حرب و مقاومين لا يهابون الموت، فاستنجدت هذه الفرق بالقوات المجاورة لتتدعم بفرق اخرى جاءت من جميع الجهات، في اتجاه تمركز المجاهدين و طوقت المكان و غلقت كل المنافذ .
أمرت قيادة المعركة بحفر الخنادق وعدم اطلاق الرصاص الا باقتراب العدو منهم ومحاولة اختراقهم، وهي استراتيجية يطبقها جيش التحرير الوطني للتمكن من إلحاق اقصى الاضرار و الخسائر بالعدو .
وبالفعل لم تتمكن الطائرات من قنبلة المكان، كما لم تتمكن المزنجرات من رمي قذائفها خوفا من اصابة الجنود الفرنسيين الذين دخلوا مع المجاهدين في اشتباك مباشر، وصل إلى حد استعمال السلاح الأبيض واستخدام القوة العضلية والجسدية.
تواصلت المعركة بضراوة لم تعرف سكوت الأسلحة و الرصاص الى غاية حلول الظلام، أين قرر المجاهدون الانسحاب من ساحة المعركة غير المتكافئة، بعد أن الحقوا خسائر بالعدو، فتمكنوا من فتح ثغرة في الحصار المضروب حولهم و انسحبوا الى ناحية لرباع.
القوات المشاركة…
من جانب المجاهدين يؤكد المجاهد المرحوم مسعود بن عمارة (مسؤول فوج في الكتيبة الثالثة ) في شهادته حول هذه المعركة، أن عدد المجاهدين هو 170 مجاهد من افراد الكتيبة الثالثة و الدورية القادمة من تونس.
وكانوا مسلحون باسلحة اوتوماتيكية فردية، وبحمولة من الأسلحة الحديثة القادمة من تونس
اما القوات الفرنسية و حسب التقرير الذي حرره قائد المعركة فقد شاركت بالقوات التالية :
ــــ المجموعة الـــ 18 للقناصة المضليين بثلاثة كتائب و فرقة للمدفعية 120 مم .
ــــ المجموعة الــ 7 للقناصة بثلاثة كتائب من الفيلق الأول و أربعة كتائب من الفيلق الثالث .
ــــ المجموعة الـــ 22 للقناصة بفيلق كامل .
ــــ المجموعة الأولى للمدفعية الاستعمارية للمغرب 1° R.A.C.M بفرق بطارية المشاة و فرق بطارية المدفعية 105 مم .
ــــ للمجموعة التاسعة للقناصة الافارقة بالكتيبة المدرعة و مجموعة من الدبابات .
ــــ المجموعة الثامنة للفرسان بكتيبة من الفيلق الثالث .
ــــ المجموعة المتحركة للشرطة الريفيةGMPR التابعة لدوار شعبة اولاد شليح .
ــــ المجموعة الـ 19 للهندسة العسكرية بفصيلة و جرافة من الفيلق الثالث .
ــــ كوموندو قطاع باتنة .
ــــ سرب من الطائرات يتكون من ستة طائرات بنانBananes و04 طائرات كورسار Corsaires و04 طائرات من نو T6، و طائرة من نوع بروسارBroussard.
قائد المعركة من الجانب الفرنسي هو العقيد رفان Raffin قائد المجموعة السابعة للقناصة بصفته الأعلى رتبة، وتتشكل القيادة الحاضرة للمجموعة الـــ 18 من المقدم دافيد سارازان و نوابه بالاضافة الى العشرات من الضباط قادة الكتائب و الفصائل، حيث يقدر العدد الإجمالي لقوات العدو المشاركة ما بين 2500 الى 3000 عسكري.
العدو يعترف بخسائر جسيمة…
اعترف العدو بسقوط 22 عسكري فرنسي من بينهم ضابطين و 40 جريح توفي العديد منهم.
قائمة شهداء معركة فوغالة ( قائمة غير كاملة)
اليوم الموالي للمعركة قام أهالي المنطقة بدفن الشهداء في مكان قريب من مكان المعركة، بينما قام الجيش الفرنسي بنقل جثمان الشهيد سي احمد الجدارمي فوق شاحنة عسكرية لاستعرضه امام مواطني مدينة سريانة، لترهيبهم، كرسالة لهم بانه هكذا يكون مصير كل من تسول له نفسه الالتحاق بالمجاهدين.
تم احصاء بعض شهداء معركة فوعالة، حيث دونت أسمائهم في التقرير الجهوي لكتابة تاريخ الثورة في منطقة الأوراس، ومن بين الأسماء المدونة نذكر: احمد امرزوقن ، مصطفى عيساوي المدعو تباني، فتح الله مسعود، عيسى مقلاتي، شتيرات أحمد، شودار عبد السلام، بوحريق حمو، قطو من لقصر، العايب منصور، سي محمد الجزائري، عيسى الزياني، هبول علي، حمو قريشي، بن طاية لحسن، حمزي لحسن ، حميش عمر، جابو سعو، وقرقوب الزياني
وقد تم أسر الشهيد الطيب برتلة، ليقتل بطريقة جبانة برصاصات في الظهر من طرف الجيش الفرنسي في معركة الرفاعة في 8 سبتمبر 958 .
وللعلم فقد توفى كل المجاهدين المشاركون والناجون في هذه المعركة، باستثناء المجاهد زيداني خياري المدعو “الخير” من الكتيبة الثالثة والمقيم حاليا بمدينة بريكة والمجاهد خبرارة السعيد، من الدورية القادمة من تونس المقيم في مدينة نقاوس .
ما كتب عن المعركة
كتب عن المعركة…
الجانب الجزائري
لم ترد كتابات كثيرة عن المعركة باستثناء ما ورد عنها في كتاب التقرير العسكري والسياسي الذي أعدته المنظمة الولائية للمجاهدين، خلال ملتقى كتابة تاريخ الثورة بولاية الاوراس سنة 1984 .
كما كتب عنها الرائد عمار ملاح في كتابه قادة جيش التحرير الوطني الجزء السابع بضعة أسطر منقولة عن التقرير السياسي و العسكري لمنظمة المجاهدين المذكور.
أما التلفزيون الجزائري فقد خصص لها شريطا وثائقيا لمدة 40 دقيقة يحتوي على مشاهد تمثيلية لظروف ووقائع المعركة قام بأداء أدوارها مجاهدون، أغلبهم كان حاضرا فيها.
الجانب الفرنسي
أكثر من عشرين كتاب فرنسي وعدة مجلات فرنسية، كتبت عن معركة فوغالة، حيث تتفق كل هذه الكتب التي يستند مؤلفوها على شهادات عسكريين فرنسيين شاركوا في المعركة، على وصفها بانها من أعتي معارك حرب الجزائر وأكثرها ضراوة وشدة أين تكبدوا خسائر بشرية فادحة.
ومن بين العبارات التي وردت في هذه الكتب قول احدهم: ” إن أزيج الأسلحة و ارتطامها بالصخور وما تسببه من أصوات شئ لا يصد”.
أما بالنسبة للصحافة المكتوبة فقد عنونت كل من: صحيفة لوموند ، صحيفة ليبراسيون، لوفيقارو، صحيفة البرقية، جريدة البلد، صحيفة مساء فرنسا، بالاضافة الى كل الصحف الصادرة بالجزائر في ذلك اليوم ، صفحاتها الأولى لهذه المعركة، ولنتائجها بالبند العريض.
مختصر لدراسة أكاديمية قام بها الأستاذ الباحث دراجي صالح المدعو رستم