الدكتور محمد جديدي أستاذ بجامعة قسنطينة 2- (عبد الحميد مهري)، متحصل على دكتوراه دولة في الفلسفة، من أهم مجالات اهتمامه: الفلسفة المعاصرة، خاصة الأمريكية، البراغماتية، الحداثة وما بعد الحداثة، الفلسفة التطبيقية (البيوإيتيقا) الترجمة وفلسفتها. له عدة كتب ومقالات وترجمات منها:
«فلسفة الخبرة عند جون ديوي» – «الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي» – «الفلسفة الإغريقية» – «ما بعد الفلسفة: مطارحات رورتية» – «ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث» (ترجمة 2010) – «هابرماس والسوسيولوجيا» (ترجمة 2012) – «الفلسفة في مائة كلمة» (ترجمة 2015) – « الدروس الأولى في علم الاجتماع « (ترجمة 2015) ـ البيوإتيقا: الطبيعة، المبادئ، الرهانات(ترجمة (2015) – الترجمة رؤية فلسفية ـ الفلسفة الإغريقية: 3 أجزاء – ما البيوإتيقا؟ الأفق البيوإتيقي (الجزء الأول)، إضافة إلى عديد المساهمات في كتب جماعية ومقالات بمجلات.
أجرت الحوار فاطمة الوحش
إن المشاهد لنشاطاتكم العلمية يلاحظ اهتمامكم الكبير بمسائل تتعلق بـ»البيواتيقا»، لماذا اخترتم هذا الميدان؟
هذا الاختيار لم يكن منفصلا أو من فراغ ولكنه جزء من اختياري ذاته للفلسفة. الفلسفة التي أؤمن بها كطريقة في الحياة ونمط من العيش يرتضيه الإنسان لنفسه ويحاول إيجاد توازن بين ذاته وغيره والعالم، بين ما يفكر فيه وما يسلكه عن وعي واقتناع وحرية ومسؤولية.
الفلسفة في تصوري لم تكن يوما بعيدة عن الإنسان وهمومه فهي والحياة شيء واحد، Philosopher c’est vivre والبيوإتيقا من هذه الزاوية الفلسفية تعنى بالحياة وهي تفكير لا يتوقف بها وباليومي وأي شيء أهم في اليومي الراهن والقادم من رأس المال البشري أي جانب الصحة لديه، الذي يبذل المرء ما في وسعه للحفاظ عليها وتقويتها وترميمها إن تعطلّت وظائفها.
فكل حكمة الفلسفة وفلسفة الحكمة في العلوم والفنون والآداب غايتها أن ترشد الإنسان إلى مسالك وطرائق الحفاظ على صحته وترقيتها في نواحيها العقلية والجسدية والنفسية. قادني اختياري للبيوإتيقا إلى الإشراف على مشروع ماستر في الفلسفة تحت مسمى ماستر بيوإتيقا بقيت على رأسه خمس سنوات سعيت فيه إلى وضع خارطة طريق بيداغوجية ومعرفية تخرج الفلسفة من وضعية كلاسيكية وتعطيها ديناميكية ووثبة حيوية تنعش الدرس الفلسفي في جامعتنا وفعلا حققت حزءا من أهداف ما رام المشروع تجسيده على الرغم من العراقيل وقلة الإمكانيات وعدم مرونة الإدارة ومع ذلك تحققت للمشروع جاذبية لدى الطلبة وتبينت أهميته بالنسبة لدارس الفلسفة والمهتم بها.
– ماذا تعني البيواتيقا؟ كيف برزت؟ وماهي مهمتها؟
تعتبر البيوإتيقا حقل بحثي متعدد جديد نسبيا، يمزج بين المعرفي والقيمي في تركيبة واحدة تجمع بين الحياة والقيم، بحيث لا يصير كل نسق منفرد ومنفصل عن الآخر؛ إنما تعمل البيوإتيقا كجسر يربط المعارف والعلوم والتقنيات المتقدمة بالقيم والمبادئ والأخلاق ضمن إطار الممكن علميا وتقنيا والمسموح أخلاقيا. والواقع أن البيوإتيقا برزت إلى الوجود بعدما طفت إلى السطح عديد المشاكل ذات الطابع والبعد الأخلاقي التي أفرزها التقدم العلمي والتقني، لا سيما في مجال علمي الطب والحياة.
ومنها على سبيل المثال المعضلات التي تعرفها حياة الإنسان في بدايتها ونهايتها بل حتى قبل ذلك وبعده، أي قبل الولادة وما يطرحه مثلا اليوم التشخيص الجيني والتعديل الجيني قبل الولادة وكذلك ما يثيره من مشاعر الحزن والحداد بعد الموت لا سيما إذا كان هدا الأخير رحيما. مهمة البيوإتيقا تنحصر إن شئنا في شقين كبيرين أحدهما أولي ميكرو micro يجعل من البيوإتيقا أخلاق طبية وكأنها ديونطولوجيا تعتني بالدرجة الأولى بعلاقة الطبيب بالمريض بناء على مبادئ قيمية يحتكم إليها الطبيب في ممارسته العلاجية بناء على تحقيق مصلحة المريض وخيره في استرجاع صحته والحفاظ على حياته وفق ميثاق أخلاقي وباستعمال الوسائل الكفيلة والتقنيات المستجدة في ميدان التطبيب هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أو في شق ثاني يميل إليه مؤسس البيوإتيقا وهو تصور شامل macro يجمع بين الإتيقا الطبية والإتيقا الإيكولوجية، وهذا ما انتهى إليه من خلال تخصصه كطبيب لأمراض السرطان وتساؤله عن أسباب انتشاره الرهيب متخذا من البيئة ككل عاملا حاسما لصحة الإنسان ومستلهما هذا الدرس من معلمه الإيكولوجي ألدو ليوبولد Aldo Leopold وما الحديث في السنوات الأخيرة عن أمراض التغيرات المناخية إلا دليلا على صحة ما حدسه بوتر في فكرته عن البيوإتيقا الشاملة Global Bioethics.
وبالتالي فمهمة البيوإتيقا هي البحث عن حلول وتوافقات في الإشكاليات التي يطرحها التقدم التقنوعلمي ما العمل مثلا بالأجنة الزائدة في حالات الإخصاب الاصطناعي في المخبر، هل ترمى؟ أم يحتفظ بها؟ وإلى متى؟ أم يمكن استغلالها في البحث العلمي والمخبري؟
– فرضت «البيواتيقا» نفسها كمحادثة اجتماعية انسانية، كيف ذلك؟
فرضت البيوإتيقا نفسها على واقع الإنسان اليوم، لأن الحياة المعاصرة بما يكتنفها من تقدم علمي وتقني هيمن على حياة الفرد والجماعة والدولة لم يكن من دون إشارات وأعراض تمر بها الحضارة البشرية الحالية وقد سلمت زمام أمرها للسحرة الجدد (فكاكي سراح الجن) Les apprentis sorciers في ما أعلنوا عن أهداف مشاريعهم البحثية وما لم يعلنوه أو ما قد يخرج عن سيطرتهم؛ ذلك أن المعارف البيولوجية والطبية التي توّجت قمة المعرفة الإنسانية في الربع الأخير من القرن العشرين أرادت خلف سعيها الحثيث نحو امتلاك معرفة الأحياء والتحكم فيها لكن يبقى أهم شيء هو التحكم في هذا التحكم.
فهل بمقدور علوم المجال البيوطبي والفروع العلمية التي تحالفت معها (بيوتكنولوجيا، نانوتكنولوجيا، علوم الذهن والذكاء الاصطناعي والمعلوماتية) أن تجزم بتحكمها النهائي فيما توصلت إليه من منجزات أو تحكمها المستقبلي فيما تروم تحقيقه. إن الأعراض التي شهدتها أزمة الحضارة اليوم توحي بأخطار تحدق بمصير الإنسان وتنذر بعواقب وخيمة على الطبيعة الإنسانية وهذا ما باشرت تجسيده بعض الدوائر العلمية ضمن مشاريعها ما بعد الإنسانية pos/transhumanisme.
لهذا كله فرضت البيوإتيقا نفسها كمحادثة أي كحوار تشاوري يضم الفاعلين الاجتماعيين في نقاش مفتوح ومتعدّد الأصوات يحضره الفيلسوف والعالم والحقوقي والسياسي واللاهوتي وآخرين من الفاعلين في المجتمع لأجل توضيح المسائل المترتبة على التقنيات الجديدة في الطب والبيولوجيا (المساعدة الطبية على الإنجاب مثلا أو الموت الرحيم أو التعديل الجيني…إلخ) وكيفية التعامل معها بقبولها جزئيا أو كليا أو رفضها والتوافق على الاختيارات التي سيسير عليها المجتمع بإجماع أدنى وبشفافية وموضوعية يشارك فيها المواطن بحرية مسؤولة تتحقق من خلالها إرادته الأخلاقية كإنسان حر مستقل ومسؤول عن اختياراته من منطلق الاستقلالية كمبدأ أخلاقي تحتكم إليه البيوإتيقا في قوانينها وفي نزعتها المبدئية principlisme.
– يفضل أصحاب التوّجه العلماني كلمة «ايتيقا» على كلمة أخلاق، في نظرك هل هناك فرق بين المصطلحين؟
بالفعل يفضل أصحاب التوجّه العلماني مصطلح إتيقا لأنه مدلوله يبتعد عن جانب لاهوتي أصبح لصيقا بمصطلح الأخلاق وغالبا ما يتمّ الربط بين الاثنين إلى حد أن شاع لدى الكثيرين أن العلماني غير متخلق وأن الأخلاق حكر على الدين ومن لم يكن على دين أو متدينا فلا أخلاق له، وهذا الأمر غير صحيح في عرف العلمانيين إذ أن العلمانية وضعت لنفسها مبادئ وقيم بطلها ومصدرها هو الإنسان في حين أن الأخلاق اللاهوتية ترجع إلى مصدر لا إنساني إلى المطلق وبالتالي فهي أوامر مطلقة على الإنسان الخضوع لها بينما تحيلنا الإتيقا إلى مصدر إنساني. لتحديد مصطلحات: الإيتقا، الأخلاق، البيوإتيقا، نورد رأي الفيلسوف الفرنسي بول ريكورPaul Ricœur الذي يرى: «أن الإتيقا اختيارية optatif أما الأخلاق فهي ضرورية impératif « أو ما يمكن أن يكون بين الاثنين من تمييز في المنظورية la perspective. للأولى والتلقائية la simultanéité للثانية. فإذا كانت لفظة أخلاق تفيد وتشع منها نزعة المحافظة، الانغلاق وأحيانا نجدها لصيقة بالدين فإن لفظة الإتيقا تدل على تساؤل جديد، مفتوح، مستقبلي بل تعددي (متعدّد التخصصات). إن التمييز بينهما لا يعني أن هناك تعارض وتفاوت وريكور نفسه يؤكد على هذا ويحرص على إبراز أن من الفلاسفة من لا يفرقون بين الاثنين فالأخلاق والإتيقا في عرفهم تعني شيئا واحدا. لكن وددنا فقط أن التمييز بينهما يشير إلى تكامل واستمرارية فالتلقائية تنظر إلى طبيعة الكائنات الحية وطبيعة الإنسان وتلتقي التلقائية والمنظورية في احترام الطبيعة نفسها. لذا نجد بعض الأخلاقيات يمكن وصفها بأنها قديمة وجديدة في الآن نفسه منها أخلاق المسؤولية لدى هانز يوناسHans Jonas .
– صدر لكم حديثا عن دار ميم للنشر الكتاب الموسوم «الأفق البيواتيقي»، حدثنا عن أهم ما جاء فيه؟
يضم كتاب الأفق البيوإتيقي في جزئه الأول مجموعة من القضايا المنتمية إلى حقل البيوإتيقا ينظر إلى هذه الأخيرة كأفق إنساني، بغض النظر عن الإشكاليات الأخلاقية الراهنة التي أفرزها التقدم العلمي والتقني على الإنسان والبيئة بصورة عامة، بمعنى كجِسر مثلما استخدم مصطلح البيوإتيقاBioethics رائدها الأمريكي (طبيب الأمراض السرطانية)، فان رانسيلار بوترV. R. Potter محاولا تجاوز النظرة الضيقة للبيوإتيقا كإتيقا طبية بل بوصفها رؤية شاملة أي أفقا يسع لتصحيح خطوات الإنسان في عصر التقنية والعلم بما يخدم إنسانيته وبيئته وبعيدا عن تهديدها الذي هو نفسه تهديد للإنسان. في هذا الأفق هناك سعي لتجاوز معضلات الحاضر عبر ردم الهوة بين النسقين العلمي والقيمي وأيضا من خلال الإبقاء على منظور الأفق كتطلع وأمل في بلوغ وضعية أحسن للإنسان كما لو أن رحلته نحو اليوتوبيا مستمرة وعدم تحويلها إلى ديستوبيا وتفاديا لكوابيس قد يقع فيها الإنسان ليس بسبب جهله وإنما نتيجة لعلمه المفرط دون قيم وإتيقا تقوده نحو خيرية بشرية.
– في رأيكم هل ستصبح مشكلات «البيواتيقا» من أولويات قضايا الفلسفة في المستقبل؟
هي كذلك فعلا. لقد غدت من أولويات القضايا الفلسفية منذ أن أعلنت الأخلاق عن عودتها الكبيرة في بداية القرن العشرين وعاودت التأكيد على هذا الرجوع في نهاية القرن الماضي لتحتل البيوإتيقا منذ 1970 صدارة اهتمام المفكرين والفلاسفة والعلماء ودائما من زاوية أكسيولوجية. لقد أكدت على هذا منذ سنوات تزيد هن العشر ورأيت رهانات الفلسفة القادمة ستكون بجانب البيوإتيقا، ولا أخفي أن أحد دوافع اهتمامي بالبيوإتيقا يعود لهذه القناعة ومفادها أن فتوحات الفلسفة المقبلة ستكون أكثر إثمارا وقربا من الإنسان في صيغتها البيوإتيقية.
– كيف نتمثل «البيواتيقا» في واقعنا؟
مما لا شك فيه أن واقعنا وقد صار معولما (تثبت ذلك جائحة كوفيد ـ 19) يحتم علينا التفكير بجدية في قضايانا المتصلة بالصحة والبيئة، بالعمل والطفولة، ببداية الحياة والشيخوخة بالمرض والدواء وقضايا أخرى تعود إلى البيوإتيقا بغض النظر عن موقع الإنسان وموطنه. وهي قضايا لم تعد مناقشتها من قبيل التسلية والاعتناء السطحي بل هي من صميم واقعنا اليومي كما تعلمنا البيوإتيقا وترشدنا إلى ضرورة الخوض في مثل هذه المسائل الحيوية ولا أحد يمكنه تجاهل ما يتعلق بصحته وعلاجه بطعامه وراحته. هذه القضايا باتت من صميم المواطنة الفعالة والإيجابية الباحثة عن جودة الحياة. فالتذكير بمبادئ البيوإتيقا من خيرية واستقلالية وعدالة وحرية يجعلنا في قلب معركة حقوق الإنسان وكيفية تفعيلها على أرض الواقع. وفي ظل وضع تتنامى فيه الحريات وتزدهر نحو تجسيد مساعي أخلاقية للفردية لم تعد فيه للوصاية والأبوية والعنف سيطرة بل إن منهج الحوار السلمي والتشاوري هو ما يقود إلى حوكمة رشيدة وإلى تحقيق استقرار وتوازن بين حياة الفرد والجماعة والدولة.