من المفارقات التي لم تكن تخطر ببال أحد في سنوات خلت، عرض مساحات النباتات العطرية والطبية بولاية تيبازة للاستغلال عن طريق المزايدة العلنية أو الأظرفة المختومة، إلا أنّ ذلك ما تحضّر له محافظة الغابات حاليا لغرض تجسيده على أرض الواقع هذه السنة.
تكشف هذه الخطوة الهامة التي لجأت إليها محافظة الغابات بولاية تيبازة هذه السنة، عن مدى تطور شعبة استخراج الزيوت النباتية بالولاية ومدى تزايد عدد المهتمين بها بالتوازي مع الارتفاع المفرط لأنصار الصيدلية الخضراء.
وهو ارتفاع زاد من وتيرته تفشي وباء كورونا وجنوح المرضى للاستطباب بالطرق التقليدية لتجنب الالتحاق بالمستشفيات والمصحات خوفا من العدوى.
كما ساهمت الجهود المبذولة من طرف المنتجين في اقتراح منتجات وقائية من الأمراض المستعصية لاسيما تلك التي ترتبط بالفيروسات المهاجمة للجهاز التنفسي كالمنتجات المستخلصة من زيوت الضرو، الكاليتوس والسرو، كون هذه المقاربة الصحية كانت معتمدة بإتقان لدى أجدادنا حسب ما علمناه من عديد المصادر، التي لا تزال مواظبة على التقاليد قبل أن تتخلى عنها الأجيال الجديدة بخلفية الانخراط في النمط المعيشي المستحدث.
وسواء التزم المستهلك بالعودة الى الطبيعة والتعلق بالصيدلية الخضراء أو تخلى عنها وتمادى في الاستطباب بالطرق الحديثة، فإنّ المواد المستخلصة من النباتات على شاكلة زيوت وماء مقطر تبقى محتفظة بقدر كبير من الأهمية من حيث كونها تندرج ضمن المواد الأولية للصناعة الصيدلانية وصناعة مواد التجميل، وهنا تكمن أهمية تطوير الاستثمارات في هذا المجال.
مزايدة لاستغلال مساحات بالغابات
إضافة إلى تشكيل مجلس مهني متعدّد الأطراف خاص بالنباتات العطرية والطبية لغرض متابعة وتطوير الاستثمارات المرتبطة بهذه الشعبة التي أضحت تنمو بوتيرة سريعة عبر أقاليم ولاية تيبازة، فقد قرّرت محافظة الغابات بالولاية التخلي عن التعامل مع منتجي الزيوت النباتية بطريقة الترخيص بالتراضي.
وكشف لنا محافظ الغابات، جمال بلعايب، أنّ مصالحه تحضّر حاليا لعملية مزايدة علنية وبالأظرفة المختومة تعنى بمنح التراخيص القانونية لاستغلال تلك النباتات، في بادرة تهدف إلى دعم المنافسة في هذا المجال من جهة، وتوفير موارد مالية جديدة للخزينة العمومية.
وذكر بلعايب أنّ الغطاء الغابي بالولاية يتجاوز 40 ألف هكتار، ويتضمن في جزء كبير منه نباتات طبية وأخرى عطرية يمكن أن تستغلّ للاستطباب وصناعة مواد التجميل على نطاق واسع.
وقد تمّ إحصاء المناطق المعنية مع تحديد انتشارها لغرض عرضها للمزايدة لأوّل مرّة بالولاية لاسيما وأنّ منتجي الزيوت أضحوا يتردّدون على غابات الولاية ممّن ينشطون محليا أو حتى من ولايات مجاورة.
القطف العشوائي خطر قائم
كشف العاشق لملف النباتات العطرية والطبية، اسماعيل معشوق، عن تعرّض مساحات شاسعة من هذه النباتات لعمليات إتلاف غير محسوبة العواقب عبر مختلف أقاليم ولاية تيبازة من حيث استغلالها لرعي الماعز والغنم من جهة، وتعرضها لعمليات حرق متواصلة من طرف مجهولين ما يؤثّر سلبا على مردوديتها وإنتاجيتها.
واشار إلى أنّ الجهات الوصية على الغطاء النباتي بذلت جهودا معتبرة لتأطير هذا الارث الطبيعي الهام، والذي بوسعه توفير ثروة مالية وصحية واجتماعية هائلة لسكان المنطقة وما جاورها، إلا أنّ تحدي المواطن وعدم اكتراثه بهذه الكنوز الطبيعية حال دون بلوغ الهدف المرجو من هذا المسعى.
ويشير اسماعيل معشوق الذي يوشك على وضع اللمسات الأخيرة لكتابه المميّز حول النباتات العطرية والطبية بالجزائر، إلى أنّ النباتات تعتبر مصدرا لمختلف التركيبات الأساسية للمواد الصيدلانية ومواد التجميل.
هذا ما يساهم بدرجة كبيرة في تجنب استيراد هذه المواد وتوفير العملة الصعبة، ناهيك عن فاعليتها المتميّزة في العلاج والوقاية من عدد معتبر من الأمراض المستعصية لاسيما تلك التي ترتبط بعالم الفيروسات، البكتيريا والالتهابات المختلفة، ومن هنا وجب الحفاظ عليها بجدية كبيرة باعتبارها كنزا من كنوز الطبيعة التي يمكنها أن تدرّ أموالا طائلة على مستغليها.
وعن الأصناف المنتشرة بولاية تيبازة، أشار الباحث اسماعيل معشوق على أنّها متنوّعة وتشمل فصائل كثيرة منها تلك التي تنتشر على نطاق واسع كالكاليتوس، الضرو، السرو، إكليل الجبل، الزعتر، الخزامة، النعناع والثوم وغيرها.
ومنها تلك التي تنمو على نطاق محدود ببعض مناطق الولاية، غير أنّه لا يمكن تجاهلها والاستغناء عنها في كل الحالات، كما تنتشر بأقاليم الولاية نباتات أخرى غير قابلة للاستهلاك، غير أنّها تبقى مع ذلك متعددة الاستعمالات في مجالات مختلفة، نجد من بينها الفيجل بأصنافه، شجرة مريم، المقرمان، السفيرا والميروات وغيرها.
مالكي خيرة..نموذج الاستثمار الناجح
هي خرّيجة المعهد الوطني المتخصص في الفلاحة بحجوط بدرجة تقني سامي منذ سنوات خلت، كانت تعشق الزراعة والنبات لارتباط عائلتها الكبيرة بها، ولكنها كانت تعشق الزيوت النباتية بقدر أكبر منذ طفولتها حين كان أحد الأقارب المترددين على البيت يحضّر خلطات متجانسة لتلك الزيوت بحكم تجربته، فاختارت التكوين المتخصص في الفلاحة كمنطلق لطرق أبواب الصيدلية الخضراء التي تزخر بها الطبيعة العذراء بمنطقة مراد النائية.
لم تتردّد خيرة مالكي منذ عامين تقريبا في الاستعانة بجهاز القرض المصغّر لاقتناء آلة استخلاص الزيوت الأساسية بعد أن لقّنها زوجها محمد عواد المبادئ الأساسية لاستخراج الزيوت من الطبيعة، مع الاشارة الى أنّ محمد عواد هو خرّيج المعهد الوطني المتخصص في الفلاحة بحجوط بدرجة تقني سامي، بحيث أنشأ هذا الثنائي المتميّز مؤسسة يازرو للزيوت النباتية نسبة الى جبل يازرو بمنطقة بوجبرون التابعة اقليميا لبلدية مراد، ومن هنا كانت نقطة البداية.
تقول مالكي خيرة بأنّ الاستثمار في هذا المجال محفوفا بالكفاح والصبر، ويقتضي حيازة نظرة مستقبلية ثاقبة لاعتبارات عديدة تأتي في مقدمتها تجاهل الجزائريين عموما لفوائد الصيدلية الخضراء، وتخليهم المتواصل عن الطب المكمل بالتوازي مع الجنوح للطب الحديث الذي يوفره القطاع الصحي العمومي مجانا.
لكن التجربة الميدانية المتواضعة لقطبي مؤسسة يازرو الممثلين بالزوجين مالكي خيرة ومحمد عواد مكّنتهما من اكتشاف مطهّر فعال للفيروسات في عزّ فترة كورونا، وهو المطهّر الذي استغلّ لتعقيم المساجد والمرافق العمومية الأخرى بشكل فعال.
كما ساهمت الخلطات المتجانسة المحضّرة بزيت السرو والكاليتوس من فصيلة الكافور في التخلّص النهائي من الحساسية المفرطة للجهاز التنفسي في فترة انتشار فيروس كورونا، وهي الخاصية التي يتميّز بها أيضا زيت الضرو المستخلص من ثمار النبتة، فيما يفيد الزيت الأساسي للنبتة ذاتها في المقاومة الشرسة لمختلف الفيروسات.
وتقول مالكي خيرة المتخصّصة في استخراج الزيت النباتية: “معظم دول العالم تشجّع العودة للطبيعة واستعمال الزيوت النباتية والأساسية، وتندرج ضمن هذا المسعى رسالة زوجة أردوغان الأخيرة التي تمّ توجيهها لنساء تركيا، خاصة وأنّ تلك الزيوت تستعمل لأغراض متشعّبة تتضمّن مقاومة الفيروسات والبكتيريا والالتهابات.
لكن الأمر لم يرق بعد الى ما هو مرغوب فيه، ولكن ذلك لم يثن من عزيمتنا وطموحنا القائم على العودة للطبيعة ودعم الطب المكمل، ولا يزال الجهد يبذل من أجل بلوغ الهدف المنشود من هذا المسعى”.
وتسعى مالكي حاليا لاقتناء ماكنات أكبر حجما ودقة للتمكن من استخلاص الزيوت النباتية، لاسيما وأن الماكنة المتوفرة حاليا تمكّن من استخلاص الزيوت الأساسية والماء المقطر دون غيرها.
وقد تمهّد هذه الخطوة للمساهمة الفعّالة في إنتاج المادة الأولية الطبيعية لمصانع المواد الصيدلانية ومواد التجميل، إضافة الى تكوين الشباب الراغبين في ولوج هذا التخصص الواعد، الذي بوسعه المساهمة في طرح اقتصاد بديل للمحروقات، خاصة وأنّ الغطاء النباتي على ضفاف البحر المتوسط بأكملها تزخر بمختلف انواع النباتات العطرية والطبية.
على صعيد آخر، أكّد سند المستثمرة زوجها محمد عواد أنّ المؤسّسة قدّمت طلبا للمصالح الفلاحية مفاده الاستفادة من قطعة أرضية فلاحية يمكن أن تستغلّ لغرس مجمل النباتات العطرية والطبية لاستغلالها.
إضافة إلى التمكن من توسيع المشروع بالشكل الذي يمكّن من تلبية الحاجة المعبّر عنها وطنيا، كما أشار محمد عواد الى أنّ المؤسّسة تعقد أحيانا اتفاقيات مع العديد من الفلاحين تعنى بزراعة نباتات النعناع والفليو لغرض استغلالها، ما يمكّن من تشغيل يد عاملة بطرق غير مباشرة.
وينتظر بشغف كبير ردود السلطات المحلية المتعلقة بإسناد محل محترم للمؤسسة الناشئة يازرو، من منطلق تشجيع عنصر الشباب في الاستثمار من جهة ودعم مسار العودة للطبيعة من جهة أخرى.
مشروع مبيد حشري بثمار شجرة النيم
يسعى المهتم بالزيوت النباتية محمد عواد من أجل الشروع في إنتاج مبيد حشري هام لفائدة فلاحي المنطقة بداية من الصائفة القادمة، عن طريق استغلال ثمار شجرة النيم التي تلائم المناخ المتوسطي، والتي تمّ غرسها بالمناطق الجبلية لمنطقة مراد.
وتتواجد ثلاث أشجار ضخمة حاليا بوسط المدينة تنتج سنويا ما يربو عن القنطار من الثمار للشجرة الواحدة، ما يسمح باستخلاص كميات هامة من الزيوت بفعل عصرها، وهي الزيوت التي تستعمل لأغراض مختلفة من بينها علاج أمراض الحساسية، غير أنّ الذي يشغل بال محدثنا حاليا يكمن في تلبية حاجة الفلاحين بالمنطقة والمرتبطة بإيجاد بديل لمكافحة حشرة حفارة أوراق الطماطم التي استفحلت بمختلف المزارع وأنهكت جموع الفلاحين.
وقال محمد عواد إنّ البحوث المنجزة في هذا المجال بلغت درجة جدّ متقدمة، ومن المحتمل جدا أن يشرع في إنتاج هذا النمط من المبيدات الطبيعية بداية من العام المقبل في حال توفر مختلف الشروط الضرورية لتفعيل هذا المشروع.
تقليص نفقات قطاع الصحة
يجنّب الاستعانة بالطب المكمل المرتبط بالصيدلية الخضراء قطاع الصحة العمومي نفقات كبيرة بالعملة الصعبة، بالنظر إلى مساهمة الزيوت المستخلصة من النباتات في مقاومة العديد من مسببات الأمراض المزمنة والعضوية، بحيث تستعمل الزيوت أساسا في محاربة الفيروسات، البكتيريا والالتهابات التي تعتبر المصدر الرئيس لانتشار الأمراض العضوية الشائعة.
ويشير الدكتور خالد عبود إلى أنّ النمط المعيشي المعتمد حاليا يرتكز على تناول السكريات بكميات مبالغ فيها، إضافة إلى العجائن والأسماك الملوّثة بحكم اصطيادها من مناطق قريبة من الساحل، الذي يستقبل كميات هامة من المواد الملوّثة يتسبّب في الكثير من الحالات في الاصابة بأمراض القولون، السكر والضغط الدموي.
في حين تساهم الزيوت المستخلصة من النباتات الطبيعية في الحد من الالتهابات الناجمة عن التعرّض الانعكاسات السلبية لتناول مواد مضرّة، ومن ثمّ يتم القضاء على مسببات المرض في مرحلتها الأولى.
ويقول الدكتور عبود أنّ انتماءه لقطاع الصحة العمومي لم يمنعه إطلاقا من التشبث بتقاليد الآباء والأجداد المرتبطة بالتطبيب بما تدرّه الطبيعة من زيوت ومواد مطهّرة، مشيرا إلى أنّه متعوّد منذ فترة طويلة على تجنب اقتناء المضادات الحيوية لأبنائه في حالة المرض، مكتفيا باللجوء إلى المضادات الطبيعية المستخلصة من النباتات على شاكلة زيوت أو المستغلّة عن طريق البخار أحيانا، بحيث حفّزه اهتمامه المتزايد بالصيدلية الطبيعية على اقتناء آلة لتقطير بعض الزيوت على مستوى البيت العائلي لغرض استغلالها للتطبيب، بالتوازي مع اقتناء زيوت أخرى من منتجين آخرين بخلفية إثراء صيدلية البيت الطبيعية، والابتعاد قدر الامكان عن المواد الصيدلانية الكيميائية.
ويقول الدكتور خالد عبود إنّ الإنسان يبقى دائما ابن بيئته، وبوسعه الاستطباب بالزيوت المستخلصة من النباتات المحلية دون الحاجة للتنقل لبلدان أخرى لإحضارها، خاصة وأنّ الآباء والأجداد ورّثوا لنا إرثا ثريا في هذا المجال، وزادت في ثرائه جملة الدراسات العلمية المنجزة في هذا المجال، بحيث يؤكّد الحكيم خالد عبود دائما على أنّ الاستطباب بالزيوت النباتية يرتبط أساسا بحضارة السلف، الذين اشتهروا بالوصفات الدقيقة التي تخلت عنها الأجيال الحالية لأسباب متعددة، تأتي في مقدمتها الرغبة الملحة للانخراط في النمط المعيشي المستحدث، إلا أنّ بعض العائلات لا تزال محافظة على التقاليد المتعلقة بتقطير ماء الورد على غرار ما هو حاصل بالقليعة، قسنطينة، دلس، تلمسان، شرشال وغيرها.