عاد الدكتور مصطفى ريحي، خبير في الشؤون الدولية وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية لتشريح تداعيات الأزمات التي فجرها ما يسمى بـ”الربيع العربي”.
لامس الخبير عمق تطورات الأحداث، على ضوء تأثيراتها الأمنية والسياسية والجيو استراتجية على واقع ومستقبل المنطقة، معتبرا أن فكرة المناعة الداخلية المحققة للاستقرار الأمني والتماسك الاجتماعي ينبغي أن تكون وثيقة الصلة بالإنسان، كونه يعد السد المنيع ضد أي تدخل خارجي أو كل ما يهدّد الاستقرار، وراهن بعد ذلك على عامل الاقتصاد والتنمية والعدالة الاجتماعية ضمن معادلة الإقلاع لتحقيق ما تنشده الشعوب من حياة كريمة، وبخصوص فشل النظرية الديمقراطية في العديد من التجارب، قال إن ذلك لا يعني ضعفها كمقاربة ناجعة للتحول وبناء الدول، ولكنه أرجع هذا الفشل إلى عدم الدقة في التطبيق الإجرائي.
«الشعب»: بعد مرور عشر سنوات على ما يسمى بـ”الربيع العربي” الذي كان خريفا دمويا مروعا.. ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من تجارب قاسية؟
د. مصطفى ريحي: على اختلاف التسميات التي تطلق أو يحاول من خلالها توصيف ما حدث في المنطقة العربية على وجه خاص خلال العشر سنوات الأخيرة، فإن الواقع وعلل وجوده لا تحتاج إلى استنطاق بالمرة، ولو حدث خلاف ذلك لكانت المفاجأة.. لماذا؟
بكل بساطة إن تضافر العوامل السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية مجتمعة، وفي بيئة داخلية حاضنة كتلك التي عايشتها المنطقة العربية، يضاف إليها ما كان يحدث على حدود هذه الدول، أعتقد بأن كل ذلك كان كافيا وحتى فوق النصاب المعقول لتنتفض هذه المجتمعات على أنظمتها التي حكمت وامتلكت قدرة إعادة إنتاج نفسها بالتكيف مع الظروف التي أحاطت بها، وعليه فإن حالة التدافع التي طبعت تلك الظروف فيما بينها كانت ستنتج وتحت أي ظرف حالة السخط والاستياء التي كانت مشاهده جد واضحة تباعا.
بالعودة إلى السؤال المطروح، وفي هذا السياق يمكن رصد الملاحظات التالية والتي تشكّل استبصارات مفيدة حول واقع وعمق ما وقع في المنطقة بشكل عام:
1 ـ ما تعلق بالخسائر أو ما يمكن أن نطلق عليه «تكلفة الانتقال أو التحوّل» ضمن هذه البيئة المشبعة والمحملة بأعباء الماضي المأزوم، انعكس على الأفراد والمجتمعات.
2 ـ الربط بين السياسة وسوء الأوضاع لتصبح متغيرا أصيلا في الأزمة التي حصلت دون النظر إلى العلل المنافسة والموازية الأخرى، بل وفي أحيان أخرى تحييدها لصالح فكرة «احتكار السلطة»، وبأنها السبب الأساس المنتج لهذا المشهد.
3 ـ انتج ما تقدم معضلة جوهرية وهي سوء تقدير البيئة التي خرجت المجتمعات فيها مطالبة بالتغيير، بعبارة أدق: ماذا تريد هذه المجتمعات؟ وبأي وسيلة تريد ذلك؟ ومن سيحدّد هذه الوسائل؟ مما وضع الأزمة بشكل عام أمام تحديين هامين وهما:
أولهما: الرصيد المتواضع لعلاقة هذه المجتمعات بالممارسة الديمقراطية خاصة والعمل السياسي عموما.
ثانيا: نقل مستوى فهم هذه المجتمعات للديمقراطية بنقلها من مستوى الغاية لذاتها إلى مستوى أخذها كأسلوب حياة وحكم.
كل هذا جعل هذه المجتمعات وبقدر ما يبرر لمطالبها تقع ف مأزق إجرائي واضع لما سيلي لحظة التحوّل من استعداد فكري وإجرائي.
فرضيات جريئة تبرّر التغيير
– فشل التغيير الذي يمرّ عبر قنوات العنف والفوضى في إرساء الديمقراطية التي تحلم بها الشعوب.. برأيك هل كل دولة ينبغي أن تبني تجربتها الديمقراطية بنفسها، حيث لا يمكن أن تستورد أو تفرض عليها من الخارج؟
هذا الموضوع يستحق في تقديري أن يفرد له من المساحة والوقت الذي يقتضي نقاشه، وبناء على معطيات ومراجعات نظرية صرفة يتبين بما لا يدع مجالا للشكّ أن نموذج «دمقرطة» الأنظمة ضمن أجندات القوى الكبرى قائم على ميز حضاري ومصلحي بامتياز. كيف ذلك؟
أقول أن استحضار بعض الشواهد يكفي لإعمال العقل في مختلف الروافد الفكرية الغربية عموما والأمريكية على وجه خاص سيثبت ما تقدّم.
من بين الأطروحات المشهورة في هذا السياق ما كتبه «مارك بيسيني» في أطروحته «FTB» ومعناها «أجبروهم ليكونوا أحرارا»، و»الديمقراطية على رؤوس الحراب» واللتين تضمنتا افتراضات جريئة تخصّ التبرير لاستهداف بعض الدول تحت غطاء وصفها بـ»الديكتاتورية»، وأنها بذلك تشكل تهديدا مباشرا على أمن الدول، بل والتبرير لاستعمال القوة العسكرية وأنها متغير أصيل لتحقيق التحوّل المنشود إذا استدعت الضرورة لذلك، وأن هذا الطرح يجد مبررات شرعيته كون هذه المجتمعات ـ حسبه – غير قادرة وفاقدة لأهلية الممارسة الديمقراطية كما يتوسمها الغرب «الديمقراطي». ليتضحّ في آخر المطاف أن الدول التي استهدفت كانت ضمن مخططات التفكيك والتدمير خدمة لمصالح غربية من جهة ومصالح «الكيان الصهيوني»، من جهة أخرى وذلك بتدمير قدرات كل الدول التي تناصب العداء الصريح لهذا الكيان وترفض أي ورقة طريق تدمجه في ضمن حسابات التطبيع العاجلة كانت أم الآجلة.
– عقد من العنف والدمار عصف بسوريا وليبيا واليمن.. ماهي الحلول لعلاج الجروح وتسوية الأزمات بطريقة حكيمة، من أجل تصحيح الأخطاء وتوقيف صوت العنف؟
إن حالتي التفكّك والدمار اللتان مستا جزءا كبيرا من هذه المنطقة، يحتاج إلى جهد جبار لإعادتها للوضع الأول الذي توقفت عنده قبل هذه الأحداث وليس حتى التفاؤل بتطويرها وتنميتها، وقد يكفي النظر إلى مآلات الأمور بشكل كمي وبإطلالة بسيطة على الأرقام التي توردها التقارير هنا وهناك عما تكبدته هذه الدول من خسائر كان أثمن شيء منها هو فقدان الأرواح والتي تشكل بما هو مفترض أن التحوّلات كانت لصالحه، ويمكن القول في هذا المقام أن إلقاء اللوم على جهة دون الأخرى ليس موضوعنا بقدر ما أركز على أن المسألة تحتاج إلى تحكيم للعقل وتأمل معمق لما شهدته المنطقة، وهذا ما سيدفع إلى تصحيح الأخطاء وإعادة تقدير المواقف خاصة في ظل الإرث الكارثي الذي يميز المنطقة بشكل عام وعدم إعطاء المسألة وقتها الكافي ضمن نقاشات موسعة تأجل على الأقل نقاش «الديمقراطية من أجل السلطة» وتحويل الأنظار إلى ثنائية «الديمقراطية من أجل التنمية والازدهار».
هشاشة أمنية أثرت على الاستقرار
– هل سيتلاشى الإرهاب الذي خلّفته تداعيات بؤر توتر «الربيع الدموي» بالمنطقة العربية بعد أن سقطت مظلته؟
نستحضر معادلة جدلية الأمن والديمقراطية أو ما يسمى بمسطرة الأمن وأيهما أحق بأن يحوز الأهمية بأن يعالج، فكما هو معلوم، فإن ما حدث في المنطقة العربية لا يمكن تبريره حصرا وربطه بالتحولات الحاصلة في العشرية السابقة، وبالمقابل لا يمكن التقليل من تأثيره على الوضع ككل، لأن حالة الفوضى والإنفلات الأمني الذين شهدتهما المنطقة رفعت حجم تواجد واختراق هذه الجماعات الإرهابية داخل وعلى جوار هذه الدول والتي كانت في جلها قادرة على بسط سلطتها على أقاليمها الترابية، ومع دخول التحولات على الخط أفضى ذلك إلى «هشاشة» أمنية في التعامل مع هذه الجماعات التي لها ارتباطات داخلية وخارجية بل ومعظمها غير «مأدلج» ومرتبط بأجندات خارجية صرفة هدفها ضرب استقرار هذه الدول والتي انشغلت بأوضاعها الداخلية مما قلل مناعتها الأمنية.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، وبالأخذ بأسباب إعادة بناء هذه الدول وتأهيلها ضمن التفكير بمنطق «الأمن الإقليمي» سيقلل إلى حد بعيد من خطر هذه الجماعات، دون أن ننسى بأن أحد أوجه الخطر الذي يفشل أي عملية انتقال ديمقراطي هو «التنازع المرفوق بالعنف على السلطة» وهو مشهد بارز ضمن ما عرفته المنطقة.
وعليه يمكن وصف ما يحدث كالآتي: دول ناقصة المناعة الأمنية، تفتقد للاستقرار المطلوب، يساوي بالضرورة تزايدا لحجم تواجد ونشاط هذه الجماعات الارهابية.
الندّية في التعامل مع الغرب تصنعها القوة الداخلية
– كيف سيكون موقف الدول الغربية المتشدقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان بعد أن فشلت في تصديرها للدول التي تدخلت بها عسكريا؟
هذا السؤال من الناحية العلمية دقيق للغاية، وأنا شخصيا يراودني بشكل دائم، ماذا بعد التدخل باسم الديمقراطية؟ ما هو المبرّر القادم لهذه الدول والتي ارتبك موقفها عندما تعلق الأمر بتحولات داخلية تقودها هذه المجتمعات، وهي نفس الدول التي دعمت أنظمة توصف بــ «الديكتاتورية» حفاظا على مصالحها، وهي نفسها التي حاولت إعادة إقحام مصالحها وتكييفها مع الواقع الذي فرضه التحوّل الحاصل في المنطقة ببناء تحالفات جديدة وإن صحّ الوصف والذين أنتجهم واقع حال التحوّل هذا.
وعليه فإن هذا التحليل للمتغيرات والمواقف يحيلنا مجبرين إلى نقاش داخلي موسع جاد لفهم منطق التحولات التي لا تملك السياسة فيه إلا الحظ اليسير ضمن مقاربات التحوّل المعروفة، وعليه فإن فكرة المناعة الداخلية لابد أن تكون وثيقة الصلة بالإنسان أي المواطن، السد المنيع ضد أي تدخل خارجي أو تهديد للاستقرار ويأتي ذلك بإعطاء عامل الاقتصاد والتنمية والعدالة الاجتماعية مكانتها الحقيقية ضمن معادلة الإقلاع، وعلى أن تكون علاقتنا مع هذا العالم المعقد الذي يأبى أي انطواء وانزواء على الذات، فالندية في التعامل مع الآخر الخارجي تصنعها القوة الداخلية بكل مصادرها.
ختاما أريد القول، إن فشل النظرية الديمقراطية لا يعني ضعفها كمقاربة ناجعة للتحوّل وبناء الدول، ولكن وفي سواد عظيم من فهم هذا الفشل مرتبط بالتطبيق الإجرائي لها.