تطوّر الطبّ منذ كتاب كلود بيرنار الشّهير، في القرن التّاسع عشر، تطوّرا مذهلا، إلى درجة أنّه وصل، في أيامنا هاته، إلى التّفكير بأسلوب «الخيال العلمي» في تطوير خلايا الجسم بشكل يجعلها تتجدّد تلقائيا، حتى كأنّ الطبّ صار يحرص على التّطور كي يستعيد حلم «جلجامش»، ويعاود رحلة البحث عن «خلود» ممكن..
والحقّ أنّ إخراج الطبّ من حاضنته الفنيّة الأولى، إلى رحاب «التّجريب»، منح الإنسان فرصا كبيرة في تجاوز أمراض ظلّت تفتك به دون أن يجد طريقة للتّعامل معها غير الصّبر. ولقد حقّق الطّبّ فتوحا علميّة مبهرة نالت بركاتها الإنسانية كلّها، غير أنّ طبيعة الإنسان التي تميل إلى بلوغ «النّهاية»، لا تنفكّ مطلقا عن الإتيان بما يضع العلوم جميعها في موقف الدّهشة والتّسليم والاعتراف بالعجز، ثم تشتغل هذه الطّبيعة الإنسانية نفسها، فتفعّل حاجتها إلى المعرفة، وتحاول وتناور وتدرس إلى أن يوفق الله إلى الحلول النّاجعة.. وتستمرّ الحياة..
والحق كذلك، أن الطبّ حينما كان «فنّا»، كان التّشخيص يتمّ وفق رؤية قد تصيب وقد تخطئ؛ لهذا، كان على الطّبيب أن يتبوّأ في الحكمة مقاما، وينال من الفراسة حظّا، في مقابل طبيب عصر المعرفة التّجريبية، فهذا صار يكتفي بـ»التّحاليل» التي تعطيه أرقاما ونسبا مئوية واضحة تسمح له بوصف العلاج المناسب، وتخفّض نسبة الخطأ إلى الدّرجة الأدنى الممكنة..
وبين «الفنّ» و»العلم»، يحيا الإنسان، غير أنّ زمن الفنّ كان يمنح الإنسان اطمئنانا أكثر من زمن العلم الذي رسّخ التّوتر في القلوب، حتى إن الواحد من الناس صار يحسب نسبة الحديد في دمه، ويهتم بمستويات الماغنيزيوم والبوتاسيوم، ويتابع شؤون الكريات الحمراء والبيضاء، ويبحث عن تحقيق التسوية مع السكر والضغط.. ويشتاق إلى نفس مطمئنة ترتاح بين جنبيه..
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.