في معسكر تُنافس “سبونتشا” الأمير عبد القادر في الشهرة، ولخضر بلومي، الشهير أيضا، وهو يتابع المشهد، ويحكُّ أذنيه للتحقق مما يقوله رجل من تيغنيف يغلُب عليه الشخير وهو يختُم كلامه بطريقة خاصة جدا، تتلقفها “هوائيات المحبة” وتنثرها على أثير النكت، صباح مساء..
أم عسكر، التي تلامس أشفار مليون نسمة، تشدك إليها بكرم يتنقل على خارطتها، دون أن يمل العطاء، أو يخذل سائلا مهما كان، هي التي عرّفت البشرية بنماذج أولى في تكوين الإنسان وشكله، “رجل الأطلس”، المعروف باسم “رجل تغنيفين” أو “رجل باليكو”، وجمجمته معروضة اليوم بمتحف الإنسان في باريس.
الطريق إلى معسكر لا تحتاج تعبيدا بالزفت، ولا إشارات مرورية للتعريف بمنطقة تثير راحة بال مقرونة بابتسامة عريضة بمجرد تلفظ اسمها، الذي يعني فيما يعنيه لدى عموم الجزائريين، “ناس غوسطو”، طالما أن المعسكري لا يغضب أبدا، وهو موضوع رئيسي في طبق النكت، وسيد الحكايات الخارجة توا من عالم التندر الذي يصنعه المعسكريون بأنفسهم، وبهذه الطريقة يفتحون أبواب الاتصال مع العالم الخارجي بطريقة لم يسبقهم إليها أحد، وقد لا يسبقهم إليها من ينظرون إليهم على أنهم عاديون..
العادي في معسكر هو العمل على مدار اليوم، في زمن كورونا، وغير كورونا، في زمن السلم والحرب، وهو ما يفسر لماذا اختارها الرومانيون قبل الميلاد معقلا عسكريا، ولماذا ركن إليها الأتراك في غرب البلاد وجعلوها مركزا للامداد بالسواعد والعدة..
من السحايلية الى العلايمية، ومن المامونية الى الهاشم، ومن بوحنيفية الى واد تاغية، ومن بوهني إلى حسين، ومن تيزي غنيف إلى رأس عين عميروش ومن زلامطة الى سجرارة، ومن سيدي قادة إلى عيونها الأربع (عين افرص، عين فارس، عين فراح، عين فكان)، ومن قرجوم مطمور إلى مقطع دوز، وغيره، تنتقل شُحنات جينية مكثفة، يغلُبُ عليها الجلَدُ والصبر، الإيمان بيد الجماعة، حُبُّ الآخر مهما كان مختلفا.. والبحث عن عمل في أرض شبه قاحلة، متى طال زمن هطول المطر..
المناخ الحار صيفا والبارد شتاء، لا يُعيق من يعشقون التنقل بالدراجات الهوائية والدراجات النارية، في كل الأوقات، طلبا للعمل في حقول الزيتون والبرتقال والعنب، الذي يطير الى الموائد أو يُعصرُ في قوارير زجاجية تفضل أفواها تتكلم بلغات غير اللغة العربية، وقبلة لا تزاحم شروق الشمس كل يوم..
“سبونتشا”.. والزيتون
تشتهر معسكر بإنتاج بطاطا “سبونتشا”، التي ترعاها من “الغرس” إلى “التحمار”، بطريقة وحده المعسكري من يجيد الحديث عنها، وهو يرتشف شايا، ومتكئ على جرار قديم يعرف تضاريس المنطقة أفضل من أشهر “طوبوغراف” في الناحية..
شهرة البطاطس التي تنتجها الولاية تستطيل في الزمان والمكان، بالرغم من ان انتاجها لهذه المادة، تراجع لصالح ولايات أخرى، في الغرب الجزائري، مثل مستغانم، لكن خبرة فلاحي المنطقة في انتاج “سبونتشا” ما زالت ترحلُ مع العيون الباحثة عن إخضرار في هذه الولاية، التي تحنُّ الى عالم البدو الرحل، ونموذج الحياة، الذي تناقلته عائلات عاشت مغامرة رحلتي الشتاء والصيف ، بعادات وتقاليد في الملبس والأكل، قائمة، تماما مثل طريقة شواء الخروف وإعداد حريرة تختصرُ الغرب الجزائري عبر التاريخ، ببهارات، هي في الواقع مزيج من الثقافة الأندلسية والبربرية..
هوائيات راحة البال!
في هذه المناطق الفلاحية بامتياز، يميل السكان الى هدوء الدراجة الهوائية، ودفاعها عن البيئة الخضراء، وابتعادها الجميل عن الملوثات الهوائية، التي تحدثها السيارات والمركبات، غير العابئة بأزهار وورود بساتين الحمضيات والعنب والزيتون، خصوصا في سيق والمحمدية، وما جاورها من أعشاب تنمو زاحفة على التربة الحمراء، في الغرب عموما.
ترى الدراجات النارية والهوائية في ريف معسكر ومدنها على السواء، داخل النسيج الحضري، وخارجه.
ولم تؤثر مخرجات التكنولوجيا وإغراءات مصنعي المركبات سكان هذه الولاية التي تعتز بتاريخها وببنية أولادها وحتى بلكنتهم الخاصة وهم يتحدثون الى زائر معجب ببلومي والأمير عبد القادر وغيره من الأسماء الشهيرة في الولاية.
تتوارث أجيال بعد أخرى وسيلة التنقل هذه، بحكم أنها عملية وتوصل أصحابها على بساتين الحمضيات وحقول الزيتون بسرعة أكبر بكثير من وسائل النقل العام.. “الثقيلة” في مكان ما على قلوب من يهوون العمل والتسكع بـ”بيسيكلات”..
ربيع الصناعة
من يعرف ولاية معسكر، وباحتها الخلفية، يعرف أن إمكانيات طاقوية وانتاجية كبيرة تُغالب الأكفان، حتى تظهر للعيان، ويعرف أن مستقبل سكانها مربوط بلعبة سرعة، مطلعها فلاحة، وأوسطها إسمنت، وآخرها مناجم لمن استطاع اليها استثمار..
تخفي 5135 كم2 مؤهلات اقتصادية استراتيجية بالنسبة للولاية الغنية بثروات منجمية هائلة أغلبها غير مكتشفة، حسب ما يؤكده متعاملون ومختصون في الاستثمار والطاقة والطاقات المتجددة.
في هذه الولاية وحدتا انتاج إسمنت رمادي واسمنت أبيض، تغار منهما في سباق التعمير، 58 محجرة لمواد البناء، وثلاثة مناجم للرخام، رغم أن بعض هذه المؤهلات، يبقى حلما يراود سكان الولاية الراغبة في القفز من أحضان “سبونتشا”، الى الطاقات المتجددة، واستثمارات أخرى، داعمة للتنمية ومسهلة لمداخيل أكبر خارج مواسع الفلاحة المحدودة، او المرتبطة بالتساقط المطري..
بطاقات تعريف..
بطاقات التعريف التقنية للولاية تتحدث عن 13 منطقة نشاط، و4 مناطق صناعية غير مستغلة بالطريقة التي ينبغي ان يكون عليها استغلال المناطق الصناعية، على الأقل في المدى القريب والمتوسط، وهذا يتطلب رجّا كبيرا في عقول المستفيدين من العقار الصناعي، حتى يستفيقوا من نومة “أنا وغزالي في الجبل لقطو في النوار”، أو أحلام اليقظة القائمة على قرض ونشاط استيراد-استيراد، التي درج عليها من يستلذون “الدينار بلا تعب”، مثلما يقال.
في المدة الأخيرة، يدفع شباب متعلم ومتخصص نحو رسم صورة لمعسكر تتجاوز المُنمّط، ويروجون لـ”ولاية لها امكانيات منجمية هائلة، تؤهلها لأن تكون قطبا صناعيا واقتصاديا بامتياز، بغض النظر عن طبيعتها ومؤهلاتها الفلاحية”..
تقرأ هذا في رؤوس شباب مستثمرين جدد، أو منشورات حاثة على الاستثمار في المنطقة، أو حالمة بغد أفضل، في الفلاحة التحويلية، والاقتصادات العائلية والصناعية والمنجمية.
ويتمنى العارفون بمؤهلات معسكر مضاعفة الأرقام التي تثير شغف القطاع المنجمي بالولاية، وهو قطاع عرف انتعاشا ملحوظا في السنوات الأخيرة: 58 وحدة منجمية، (منها 25 وحدة منجمية خاصة بانتاج الحصى الجيري)، وحدتي إنتاج الاسمنت، و25 وحدة منجمية متخصصة في انتاج المواد الأولية المستغلة في البناء والاشغال العمومية، والزجاج وصناعات أخرى. ويشغل هذا القطاع 2000 عامل.
اليوم، تحتل ولاية معسكر الصدارة في انتاج الاسمنت الابيض والاسمنت الرمادي، والمراتب الأولى وطنيا في إنتاج الكلس والحصى، زيادة على إمكانيات كبيرة في انتاج الرخام ومادة المنغنيز و”التيف” والرمال الصناعية المستغلة في صناعة الزجاج.
للسياحة عناوين..
على مائدة السياحة في معسكر، تنوع وخيرات طبيعية ومنابع حموية هي الأشهر في غرب البلاد، بخصائصها العلاجية المتعددة.
هل هناك جزائري لا يعرف المدينة الحموية بوحنيفية، ولا يعرف أنها مقصد لطالبي العلاج والاستجمام، لكن مع هذه الشهرة، تصطدم النوايا السيحية الجميلة بـ”تخلف تنموي في الفندقة والخدمات”، وهو عائق كبير ينرفز السائح ويحرم صاحب المؤهلات السياحية من الدينار الكريم.. ومن الأورو الهارب أصلا من الفنادق المصنفة، حتى وإن كان صاحبه مهاجر جزائري انتقلت إليه عدوى التخييم من سائح ألماني، او متمرس فرنسي يفضل الطبيعة على مصطنعات “الخمس نجوم”..
وفي الولاية مناطق أخرى يتبختر فيها الأوكسجين، في هذه الصائفة، تحت انظار ثاني أوكسيد الكربون، الذي غزا مناطق أخرى بشكل مكثف، على ظهر حرائق غابات أحرقت النبات والإنسان في ولايات أخرى، لم تصل معسكر الغالية في عيون أهلها الطيبين جدا..
تقاسيم التاريخ
معسكر، التي تُحصي أكثر من 700 ألف نسمة، كانت قرية صغيرة، قبل الميلاد، اتخذها الرومان مقراً لعساكره، وظلت خطوط دفاع معروفة باللميس، أو “كاسترا نوفا “CASTRA-NOVA” ، أي “القلعة الجديدة”.
انتقلت في القرن 6 الهجري، زمن الموحدين، إلى قلعة عسكرية، ثم عاصمة إقليم في عهد الباي مصطفى بوشلاغم، زمن العثمانيين، واستمرت مركزا لبايلك الغرب إلى سنة 1791 بعد تحرير وهران والمرسى الكبير من الاحتلال الإسباني.
بعد احتلال الفرنسيين الجزائر العاصمة سنة 1830 تحركت المقاومة بقيادة الشيخ محي الدين، والد الأمير عبد القادر الجزائري، في معسكر، وبعد مبايعة الأمير دخلها ونزل في دار الحكومة فأصبحت المدينة حاضرة لإمارته. وبقيت هكذا إلى أن استولى عليها كلوزيل يوم 6 ديسمبر 1835 فأحرقها ثم غادرها فرجع الأمير إليها واستأنف مقاومته بها، وبقيت العاصمة السياسية للإمارة، إلى أن ارتحل الأمير عنها، وبقية القصة معروفة..
خارج السرب
لو قال باحث لجزائري في أي مكان أن معسكر كانت ترعى 23 جريدة تطبع فيها وتوزع، زمن الاحتلال الفرنسي، لما صدّقه، مع ان هذه المعلومة حقيقة يتحدث عنها باحث في الإعلام في هذه الولاية ويسعى لأن يميط اللثام على جوانب أخرى مثيرة للاهتمام في مسقط رأس الأمير عبد القادر..
في هذه الولاية إذاعة جهوية تغطي مناطق واسعة من الغرب الجزائري، ودار صحافة يتنافس على تنشيط حركيتها مراسلون وصحفيون، ديدنهم من يكون أول من يُخبر الناس بما يحصل..
بعد حوالي 39 عاما من الاحتلال الفرنسي للجزائر، أحصى الإعلامي محمد بن كربعة 23 عنوانا لجرائد كانت تطبع وتصدُر في معسكر في الفترة الاستعمارية، وهي الفترة التي خصص لها الإعلامي الجزء الأول من مؤلفه بعنوان “تاريخ الصحافة في معسكر”، الصادر عن دار المثقف للنشر والتوزيع سنة 2019، وهو الجزء الذي غطى الفترة الممتدة بين 1830 و1962. وهو اليوم يستكمل الجزء الثاني من كتابه الذي سيغطي تاريخ الصحافة في معسكر بعد 1962.