قبل 67 عاما، خاض الشعب الجزائري ثورة عارمة فجّرتها نخبة طلائعية، متشبعة بالوطنية الصادقة، رفعت سقف المواجهة مع الاحتلال الفرنسي، فحسمت معركة تحرير الأرض من دنس استدمار طال 132 سنة، عانى خلالها الجزائريون على مرّ أجيال بكاملها شتى أنواع البطش والاستغلال والإبادة.. واليوم، تستمر الروح نفسها في خوض معركة الذاكرة، القاسم المشترك بين الجزائريين على اختلاف التوجهات والمرجعيات، تحكمها قناعة راسخة بأنّ الجزائر ذات التاريخ الضاربة جذورها في أعماق الحضارة الإنسانية، لن تقبل إطلاقا أدنى مساس بالسيادة الوطنية التي حررها مليون ونصف مليون شهيد وقبلهم ملايين الشهداء، إبان مختلف المقاومات الشعبية المناهضة للاحتلال الفرنسي.
معركة الذاكرة تشتد كل يوم عبر مختلف الوسائل والوسائط في وقت تسعى فيه «لوبيات» الاستعمار الجديد، من وراء البحر، إلى تسويق تصورات مزيفة وأطروحات مفبركة تندرج في إطار حرب نفسية قذرة، تجد مرجعيتها في ممارسات المصالح الإدارية المتخصّصة ‘لاصاص» التي ارتكزت عليها الإدارة الاستعمارية خلال ثورة التحرير الباسلة، في محاولة للتلاعب بأذهان الجزائريين، ومحاولة إبعادهم عن بوصلة الحرية بالمعنى الشامل، تتقدمه قيمة الكرامة، القلب النابض للسيادة.
وعرف ذلك المخطط الجهنمي المدعوم ببرامج التعذيب والتنكيل فشلا ذريعا، تماما كما فشلت سلسلة المخططات العسكرية التي فاقت بشاعة ما ارتكبته النازية، خلال الحرب العالمية الثانية، بفضل بسالة الكفاح البطولي الذي انخرط فيه الشعب الجزائري ملبيا عن بكرة أبيه نداء أول نوفمبر، بوصلة الحرية والاستقلال.
ولا يزال النداء ذاته، مرجعية الدولة الوطنية، الذي سطّر الطريق على وعورته وصعوباته، عنوان المرحلة لاستكمال معركة الذاكرة، وقد بدأت تؤتي ثمارها باسترجاع جماجم قادة المقاومة في انتظار استرجاع الأرشيف الجزائري لمرحلة الاحتلال وكل ما نهبته جيوش الغزاة الفرنسيين ويعود لما قبل سنة 1830، باعتباره ملكا للجزائر، يكشف ترّاهات المصابين بعقدة التاريخ على غرار الرئيس الفرنسي الحالي الذي يتبجح بجرائم أسلافه ويجد صعوبة في النطق بالحقيقة الناصعة، آخر شهاداتها ذكرى مجازر 17 أكتوبر 1961، التي ارتكبتها قوات البوليس الفرنسي ضد الجالية الجزائرية تحت أنظار الرأي العام الفرنسي والعالمي، بلغ الحقد مداه بإلقاء العشرات من المواطنين الجزائريين المتظاهرين سلميا في نهر السين وشنق آخرين في الغابات المجاورة للعاصمة باريس، والزج بالآلاف في الزنازين والمعتقلات، مع التعذيب والتنكيل بهم، شمل حتى النساء والأطفال.
في مثل هذا الموعد البارز في ذاكرة الجزائريين المحصنة بالراية الوطنية الخفاقة، من الواجب أن نسترجع كل ما يكتنزه الرصيد النضالي للسلف الصالح النوفمبري وما قبله من الأجداد المؤسسين للنضال ومقارعة الاحتلال، للتزوّد بالإرادة وشحذ الهمم في رفع التحديات القائمة على مستويات أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية، تتطلب استلهام العبر واستخلاص الدروس التي تركها لنا أولئك الرجال والنساء النادرين سلاحا لمواصلة المسيرة الأبدية، غير آبهين بما يحيكه هؤلاء أو يخطط له غيرهم، ممّن تزعجهم الجزائر وهي تنهض من كبوة عارضة وتشغله عودتها القوية إلى الساحة فاعلا في المشهد الإقليمي والقاري والدولي، بفضل خطها الثابت الأصيل، منذ صياغته في سنوات الثورة المجيدة، مناصرة للشعوب المضطهدة دون خشية لومة لائم ومعارضة للاستعمار بكل أشكاله، مقدمة خيار الشراكة العادلة في إطار التضامن وتبادل المنافع بين الشعوب.
حقيقة لما تشتد الأزمات ويرتفع سقف التحديات يكون الرجوع إلى المنبع، أول نوفمبر، بقيمه ومبادئه وجوهره الإنساني، تستمد منه تلك القوة المطلوبة لدحر التهديدات وكسر الحصار بكل أشكاله، وانتزاع المكانة اللائقة دوما في المحافل الدولية، بكلمة الجزائر المسموعة جهارا، يدفعها شعب متماسك ومتراص الصف، يعرف كيف يجعل من التنوّع واختلاف الرأي طاقة دافعة، وسط أمواج عولمة شرسة لا تعطي فرصة للمترددين أو من ينتظرون الآخر، إنما البقاء لمن يعرف كيف يجعل التاريخ منصة انطلاق إلى المستقبل، وهو ما تسير على دربه الجزائر نحو آفاق حاملة لبشائر النصر اليوم كما بالأمس.
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.