لم يستفد من منحة، ولا شقة، ولا قصرا، لم يطالب بحق من حقوق البشر، ولم يقف إلا في طابور واحد ووحيد..
عاش عفيفا كفيفا راضيا بما قسمه الله له، لم يجر خلف «موضة»، ولا فكر في هجرة إلى غير ما قرره، وهو شاب يافع، رمى الثروة خلف ظهره إن كان ثريا، أو علّق العلم مؤقتا، إن كان فقيرا ووالداه ينظران إليه على أنه منقذهما من الفقر المدقع..
لم يفكر في الأنا ولم يعطه فرصة في أن يعبّر عن نرجسيته الغارقة في «هل من مزيد»، كان همه أن يحيا الآخر أفضل منه في كل الأوقات، بعدما يصير الحلم واقعا..
لم ينحن لغير الله وعلّم الناس كيف يركعون له، بأسلوبه اللبق في ربح الأنفس: كان يأكل بعدما يأكل الآخرون، ينام قليلا جدا، ويلبس ما يتوفر في محيط الفقراء، الذين يعزهم، ويحترم فيهم قدرتهم العجيبة على المقاومة: مقاومة تضاريس الطبيعة، مقاومة المغتصب، مقاومة الباحثين عن الإستعباد..
كلّما رفع رأسه نحو الأفق يذوب في حُلم كان يُقال له عنه: «إنه من سابع المستحيلات»! ومع ذلك عرف هذا البسيط كيف يجعل المستحيل ممكنا، في زمن الطغيان..
عرف كيف يُركّع الجنرال، الذي يفكر في النصر العسكري، بأساليب فلاح يدافع عن الأرض، بالمعول والسكين والبارودة، ويُلصق الهزيمة بنياشين «سان سير»، وخطط «الإليزيه»..
كبُرَ على احترام الجماعة ورأي الجماعة، في بيئة تُقدّم المتعلم على الجاهل، والذكيّ على ما سواه، والزاهد في الدنيا عن الجاري خلفها..
عرف كيف يجعل الأنثى رفيقة درب في الحياة، وصنع منها «الأخت» الأكبر من دفتر عائلي، شاركته الحلم «مستحيل التنفيذ»، وكل ما يُقال عنه، يُقال عنها، بلا تدخل من التاريخ والسياسة، في بلد يقف كله احتراما، من صغيره إلى كبيره، كلما ذُكر اسم مجاهد أو شهيد، وقف في طابور تحرير الجزائر.
في الفاتح نوفمبر تسقط كل المفردات من القاموس ويحيا المجاهد والشهيد، في لوحة يتلاحم فيها الدين والتاريخ بكثير من الحب، ويتنفس الجزائريون نسائم ثورة شعارها: نموت وتحيا الجزائر
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.