«نخاف أن نموت بالعطش»، «ندرة الماء تسرق منّا أرزاقنا»، «الفقر يكاد يقتل فلذات أكبادنا»، «الإرهاب نكّل بأبنائنا والبطالة تخطف منهم اليوم الحياة»، «نحلم بمصدر رزق آمن»..صرخات أطلقتها وجوه شاحبة يائسة أتعبتها قسوة الحياة في قرى ولاية الشلف النّائية التي تبعد في عزلة بأزيد من 35 كيلومترا عن مقر الولاية. في البداية يصعب أن تصدّق أن أطفالا صغارا من مختلف الأعمار، حرموا من الالتحاق بمقاعد الدراسة بسبب الفقر..نعم عندما يتحوّل الفقر إلى لعنة تحمل أطفالا إلى جحيم الأميّة، الطّريق إلى قرى الشلف المعزولة عن الحياة صعب وطويل وشاق تماما مثل حياتهم الضنكة.
على طول الطريق مساحات وأراضي زراعية شاسعة ومترامية الأطراف مازالت بور تبحث عمّن يخدمها، وبالمقابل أفواه جائعة وأيادي معدمة تبحث عمّن يشغلها، حتى أصحاب الأراضي بالجبال يتطلّعون لاستخراج الماء من باطن الأرض، فمن يساعدهم بقرض لاقتناء مضخّة حتى يتدفّق الماء وتحوّل الأرض إلى مصدر للخيرات وأداة لخلق الثروة.
لا حديث هنا سوى عن خدمة الأرض، المواطنون تربّوا على قناعة أن الجهد والتربة الطيّبة مصدر لا بديل عنه لتأمين قوت الحياة، الحياة قاسية ومرّة بطعم العلقم في مناطق الظل التي أقصتها الطبيعة وأهملها التهميش.
بداية الوجهة كانت من «عين مران» مرورا بـ «الصبحة « ووصولا إلى «مجاجة»، مناطق ظل عديدة اختزلت قرى مهمّشة متعطّشة للماء والتنمية وللعمل، وما أكثرها في هذه الولاية التي لم تسلم في الماضي من براثين الإرهاب، ولا تزال تغرق في الفقر والحاجة بسبب النسيان…
نفتقد إلى عمل يصون كرامتنا
نعم ردّد «بن دفسة خليفة»، البالغ من العمر 35 عاما، متزوّج من دون أطفال، والذي يقطن بقرية «الدحاير» الواقعة في جبال بلدية الصبحة قائلا: «لقد تعرّضنا للنّسيان، ونموت تدريجيا بسبب العزل والحاجة، نفتقد إلى مصدر رزق يحفظ كرامتنا ويضمن بقاءنا على قيد الحياة»، بدا خليفة الشاب بعمر أكبر من سنه الحقيقي بسبب المعاناة التي تختبئ وراء تجاعيد وجهه، لأن هذا الشاب يصارع قدره ويبحث في كل مكان عن عمل وسكن ليتخلّص من المنزل الطيني الذي تركه له والده، ليتجنّب قسوة الفصول. مسار هذا الشاب التعيس يتراوح ما بين الحقول يعمل 5 أيام في جني الطماطم أو الفلفل أو العنب ليتقاضى أجر 1000 دج يوميا، ثم يواصل بقية أيام الشهر من دون مال، قال: «أخاف دوما من المستقبل، حتى الماء محرومون منه، نقتنيه على قلة دخلنا بسعر 1200 دج للصهريج من مدينة «عين مران»، وفي الشتاء كثيرا ما نستعين بالحطب للطهي والتدفئة، لأن اقتناء قارورة غاز يتطلب مدة يومين مع شرط التسجيل في طابور طويل والعودة بعد 48 ساعة لاقتنائها»، ذكر أنّ الأشجار ضالّتهم تدفئهم بحطبها في الشتاء. ويقبعون تحت ظلها في الصيف..
استخراج الماء وخدمة الأرض لتغيير الواقع
البطالة مدمّرة ولا ترحم حسب «محمد بوسدورة»، البالغ من العمر 38 عاما، ورغم امتلاكه قطعة أرض صغيرة وهبها له صهره، ويتوق لزراعتها لكن غياب الماء والإمكانيات لاستخراجه من باطن الأرض، في ظل وجود بئر عميق، حكم عليه بمؤبّد البطالة مدى الحياة، هكذا يعتقد هذا الشاب المنزعج من العزل ومن الأفق الغامضة، لأنّه يرى تلك المناطق الشاسعة معزولة ومحرومة من كل شيء سوى الهواء والكهرباء. ينتظر «محمد» قرضا ماليا أو دعما فلاحيا ليستثمر في تلك القطعة الأرضية، من خلال اقتناء مضخة لسقي مشروعه الزراعي. مقتنع أن الفلاحة وحدها من توفّر الشغل وتستحدث الثروة وتقضي على الفقر، الذي مازال يحكم قبضته على المداشر، ويحرم العديد من أطفالها من الالتحاق بمقاعد الدراسة..إنّها العبارة التي ردّدها المواطنون بعين مران بأسى وحسرة شديدة،
العائلات الهشّة تمنع أطفالها من الدراسة، لا يمكنها اقتناء كتب وأحذية وملابس، وأي مصاريف إضافية غير مقبولة لأنّه لا يمكن توفرها..
وبقرية «قنطرة واد راس»، وجدنا «مني عبد القادر»، البالغ من العمر 53 سنة، أب لأربعة أطفال، مازال يتجرّع علقم البطالة، ولا يرى مهنة سوى زراعة الأرض التي تمنحهم حياة أفضل، قال إنّ عملهم الموسمي لدى البعض متذبذب ومنقطع وغير مستقر، ولا يكفي لإعالة الأسرة وتوفير مختلف احتياجاتها، أوضح بعبارة مؤلمة: «البطالة العدو الأكبر نواجهها يوميا بخوف»، وأكّد بوعي أن إنعاش الفلاحة وإيلاء عناية كبيرة لها من طرف السلطات المحلية، سيغيّر وجه المناطق النائية بمحو مناطق الظل.
الفيروس عمق المعاناة
لا حديث على لسان «خليفي خليفة»، البالغ من العمر 45 عاما والذي يعاني من البطالة، سوى شبح الفيروس وما فعله في المناطق المحرومة والعائلات الهشة صاحبة الدخل الضعيف وغير ثابت، إنّه الأثر السّلبي على جيوبهم بعد غلق باب أرزاقهم وأدخلهم في دوّامة من الحيرة، وقف هذا الأربعيني بألم على ما تعانيه العديد من العائلات في مرتفعات الصبحة، عبر كل من قرى «أولاد حمو»، «الكحايلية»، «الحنيشات»، «الصخاريف» و»أولاد الكهف»، ومن الأمور الغريبة أنه لا توجد وسيلة تنقل إلى وسط البلدية والطريق مسلكها محفوف بالوحل والغبار.
عبرنا بعدها إلى الهرانفة عبر طريق البحايرية، وبعد زمن من السير صادفنا تجمّعات سكنية معزولة، هناك من يفتقد إلى أعمدة الكهرباء، في ظل غياب الماء والغاز وبعد مسافة المؤسسات التربوية، ويضاف إليها تحدي المسالك الوعرة التي يقطعها السكان مشيا على الأقدام للالتحاق بوسط أو مقر البلدية، لا أثر في هذه المساحات الزراعية الشاسعة التي يمكنها أن تضخ نحو الأسواق أجود الخضر والفواكه لجرار أو آلة فلاحية وطبعا المصانع بعيدة المآل. كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، الجميع داخل المنازل والسبب الحرارة الشديدة في تلك الجبال البعيدة، لا أحد يجرؤ على التجول حول فناء منزله،الجميع يختبئ من الحرارة والفيروس الذي سرق لقمة عيشهم.
الفقر يحرم الأطفال من التّمدرس..والنّساء في خطر
كثيرات النّساء اللاّئي تعانين في هذه القرى بصمت، مثلما أخبرنا أحد أبناء المنطقة الذي رفض الكشف عن اسمه بسبب مهنته الحسّاسة، وتكرّم بقيادتنا إلى بعض نقاط الظل بواسطة دراجته النارية، إنّهن أرملات ومطلّقات تركهن أزواجهن بعد مغامرة الحرقة ما وراء البحر، ويتيمات قد تجف العين على البكاء على وضعهن المزري الذي تفاقم بتفشي خطر «كوفيد 19»، لا يمكن لذلك العمل الموسمي الضئيل أن ينقذهن، إنّهن خائفات أن يمتن من الجوع أو العطش على قلة الماء والزاد، كونهن يعشن على أمل الصّدقة وإعانة غير محدودة. نساء يتمتّعن بصحة جيدة، إلا ّأنّهن تفتقدن لنشاط حرفي أو فلاحي بسبب العزل والإقصاء وبعد القرى.
حملت شهادة نفس الشاب معلومات مثيرة جدا تدعو للدّهشة والاستغراب على خلفية أنّ الأطفال بقرى الشلف، ضحية الفقر والتهميش، وعدد كبير محروم من الالتحاق بمقاعد الدراسة، بسبب غياب دخل مالي لأوليائهم لتجهيزهم بالملابس والكتب والتكفل بمختلف المصاريف، حاولنا الوقوف على بعض الحالات ورصدها، لكنه لم يخف أنّهم يخفون هذه الحقيقة عن الأعين ولا يدركها سوى الأقارب والجيران.
لمسنا أنّ العديد من سكان ولاية الشلف يدركون أنّ أطفال مناطق الظل لا يلتحقون بالمدرسة والسبب مادي بحت، فمن يتحمّل المسؤولية؟
حياتنا تهدّدها الثّعابين..!
بقرية «أولاد سيدي هني» التي لا تبعد كثيرا عن بلدية «مجاجة» وعلى علو مرتفع المئات من الأمتار، حيث كان قرص الشمس يسطع في السماء ويبدو قريبا من الأرض، كانت الحرارة تشتد والأرض تجف والغبار يتطاير ممتزجا مع نسمات الهواء الحارقة، طرقنا باب عائلة «زيدان عبد الله»، 40 عاما، التي تعاني بدورها من البطالة، الجميع هنا وقع في أسر البطالة، لا أحد خرج سالما، ولا ساكن محظوظ حظي بمنصب شغل قار أو مصدر رزق ثابت، ومعاناته تتعدى العمل إلى افتقاده لسكن لائق، مازال «عبد الله» رفقة أطفاله الثلاثة يبيتون في منزل طيني ورثه عن جدّه، ولأنّ طلب بناء سكن ريفي غير ممكن، في ظل غياب المال حتى يستكمل البناء حسب شروط تشييد السكنات الريفية. الأسرة الصغيرة تنام والرعب يسكن صدرها، فقد يهاجمهم تحت جنح الظلام ثعبان سام والحشرات الضارة تقضي لياليها تحت أفرشتهم، والفئران تجوب في الظلام أركان الغرف، وكثيرا ما تخاف زوجته أن تلتهم الثعابين أحد أطفالها الصغار، أو يقضم فأر ماكر جزءا من جسم فلذات أكبادها الطري، حسب شهادة هذا الأب الذي يتطلّع إلى الماء لخدمة قطعة الأرض التي تركها والده. وتحدث عن معاناة أطفال القرية الذين ينزلون عبر مسلك طيني طوله 4 كيلومترا نحو المدرسة ثم يصعدون هذا الجبل في المساء لدى العودة، وفي فصل الشتاء تمتزج ألبستهم بالأوحال وتنغرس أقدامهم بالطين، الطرقات هنا مهمّشة لم يطلها التزفيت.
يحاول «عبد الله» مزج ذكريات العشرية السّوداء بواقع تعيس مظلم جاف من الماء وخال من السّعادة والحياة الهادئة الطبيعية، ويعتقد أنّ الضعفاء يغرقون في البؤس والحرمان، والإقصاء عتّم حياتهم، متسائلا هل يأتي يوما ما الفرج؟
كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساءً، وبعد رحلة دامت 8 ساعات بين الجبال والقرى والفيافي البعيدة المعزولة، التي كنّا نبحث عنها لتسليط الضوء على نقاطها السّوداء، ومحاولة رفع الغبن عن سكانها، أدركنا أنّ هذه الولاية تتعدد بها مناطق الظل، ولا يمكن لرحلة واحدة أن تكشف عن حجم المحرومين والمهمّشين.