جوهر الاستراتيجية الإسرائيلية في الموضوع الفلسطيني هو تحويل تدريجي متواصل للصراع العربي الصهيوني عبر ثلاث خطوات استراتيجية هي:
أولا: تغييب منظور الصّراع الصفري عربيا، أي الحالة التي يكون فيها أي مكسب لطرف هو خسارة موازية للطرف الآخر: أي بالتعبير الرياضي +1/ -1 ويتحقّق ذلك عبر:
أ- الخطوة الأولى: تحويل العلاقة بين الطّرفين العربي والصهيوني من مستوى الصّراع (المستوى الذي يقوم على استخدام القوة الخشنة بأشكالها المختلفة) إلى مستوى النزاع (الذي تقوم إدارة الخلاف فيه عبر استخدام كل اشكال القوة الناعمة فقط)، وقد نجحت إسرائيل في الخطوة الأولى وهي التحويل من الصراع ((Conflict إلى نزاع (Dispute) عبر تطويق تدريجي لفكرة الحرب الشعبية أولا ثم الحرب التقليدية وصولا إلى حد التشارك في عمليات عسكرية تدريبية بين العرب وإسرائيل.
ب- التحويل الجيواستراتيجي من موضوع قومي إسلامي إلى موضوع محلي بين إسرائيل وفلسطين، وهو ما يعني تجفيف منابع الدعم للفلسطينيّين ليعتمدوا على قدراتهم الذاتية فقط، وهي قدرات محدودة للغاية، وبالتالي زيادة الخلل في ميزان القوى إلى الحد الذي تصبح فيه إسرائيل دولة يقر الفلسطينيّون بشرعيتها..وقد حدث ذلك عام 1988.
ت- تحويل الموضوع الفلسطيني من موضوع مركزي إلى موضوع هامشي من خلال جر الدول العربية إلى صراعات حادة مع قوى دولية واقليمية مختلفة تقود تدريجيا إلى تراجع في اولوية الموضوع الفلسطيني، وبدأت هذه الاستراتيجية تتحسس البنيات الرخوة في الاقليم لتوظيفها لصالح إسرائيل مثل جر العراق إلى الحرب ضد إيران ثم الكويت ثم استقطاب تركيا لنهش سوريا، ثم فتح نزاع بين إثيوبيا وكل من مصر والسودان، ثم نبش الصراع الجزائري المغربي ناهيك عن نبش البنيات الداخلية في كل دولة، فإسرائيل لم تخلق هذه النزاعات ولكنها توظفها أو تنبش في تربتها.
ثانيا: مرحلة التّحوّل إلى نزاع «غير صفري»، ويقوم ذلك على فكرة محددة وهي أن كل توسيع لمصالح عربية إسرائيلية مشتركة سيجعل مساحة التناقض بين الطرفين تتناقص، أي محاصرة المصالح المتناقضة (مثل فلسطين) من خلال خلق دائرة مصالح مشتركة يين العرب وإسرائيل مثل (مياه، غاز، موانئ، طيران، مرافق للمشروعات الدولية) مثل مشروع الحزام والطريق، الناتو العربي، التعاون التكنولوجي، إعادة توجيه الإرث الفكري من ديني وفلسفي وفني وثقافة شعبية نحو مفاهيم ومناهج تفكير تتواءم مع التحول نحو النموذج غير الصفري، والعمل على زيادة سمك طبقة النخب المتماهية مع هذا النموذج، وقد يصل الامر إلى حد جعل إسرائيل عضوا مراقبا في مجلس التعاون الخليجي ثم الجامعة العربية.
ثالثا: مرحلة تصفية الكيانية السياسية الفلسطينية كمنظمة التحرير أو كسلطة أو كتنظيمات سياسية وتحويلها لموضوع ثقافة فرعية تتبنّاها أقلية سكانية، وأؤكّد أنّ السلطة الفلسطينية في رام الله ترتبط ارتباطا عضويا بهذا المشروع منذ الاجتماع الذي أشارت له وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس في مذكّراتها، بخاصة تفاصيل الاجتماع الذي دار بينها وبين شارون وبوش، والذي تمّ فيه اتخاذ قرار التخلص من عرفات، ثم قرار تحديد الشخص البديل له بالاسم، وتحديد اسم رئيس وزرائه، ثم تحديد الاستراتيجية التي على السلطة الفلسطينية تبنّيها ليتواصل الدعم الأمريكي والاسرائيلي لها، وهي الاستراتيجية التي التزمت بها هذه السلطة التزاما تامّا، وأدعو كل متشكّك لأن يعود الى كتاب الوزيرة الأمريكية رايس الصادر عام 2012 تحت العنوان التالي:No Higher Honor: A Memoir of my Years in Washington
ويكفي العودة لتفاصيل ما أشارت له في الصفحات من 77-81 ثم الصفحات من 165 إلى 178، وصفحة 255 إلى 260 ثم الصفحات من 340 الى 386، ومن 436 إلى 486 والصفحات 629 و706.
ومن المؤكّد أنّ هناك تداخل لحدود هذه المراحل الثلاث التي أشرت لها (من صراع إلى نزاع ثم من صفرية لغير صفرية وأخيرا التصفية)، والقراءة للمشروع الصهيوني المشار له يحقّق تقدّما منذ جرت مناقشة بنوده في مراحل مختلفة وعبر مراكز الدراسات وهيئات صنع القرار الإسرائيلي. وهو يقف على عتبة المرحلة الأخيرة حاليا.
من المؤكّد أنّ المشروع الفلسطيني يعيش أشد لحظاته خطورة، وتغيير المشهد لن يتم إلا بالعودة العكسية للمراحل الثلاث، وأنّ أي خيار خلاف ذلك سينتهي إلى دعم المشروع الصهيوني وتسريع إيقاع تطوّره، ولعل نقطة البدء في العودة العكسية هي أن الرأي العام العربي في معظمه ما زال يحمل قناعات مخالفة تماما لأبطال مسرح العرائس العربي، وكما يقول المثل الجزائري «لن يبقى في الواد إلا حجارته»، وثانيا أن بنية الإقليم الشرق أوسطي مقبلة على تفاعلات عميقة تنتظر من يحسن التقاط خيوطها، ثم ثالثا أنّ النّظام الدولي يعرف تحوّلا في أحشائه، ويحتاج لمن يدرك الاتجاه الأعظم لهذا التحول، والذي نشرت حوله عشرات الوثائق الرّسمية والأكاديمية، ورغم اختلاف جنسيات واضعي هذه الوثائق إلا أنّ قسماتها تتماثل من حيث البنية لا من حيث استراتيجيات التعامل مع هذه البنية، وهو أمر طبيعي…اللهم فاشهد أنّي قد بلغت.