تشهد العلاقات الفرنسية المالية توتّرا غير مسبوق بلغ مداه إلى درجة طرد باماكو للسفير الفرنسي، وذلك ردّا على التّصريحات التّحقيرية المهينة التي قذفت بها باريس القيادة العسكرية في مالي.
“الشعب ويكاند” ومن خلال حوارها مع الدكتور مجادي رضوان، تحاول الغوص في أسباب وخلفيات الأزمة المشتعلة بين دولة مالي وفرنسا، وتبحث معه في الدوافع التي تقف وراء تزايد مشاعر العداء تجاه فرنسا ومعارضة وجودها العسكري في الساحل، كما تتطرّق لما يثار عن نشر قوات «فاغنر»، وتختتم بالدور الذي يمكن للجزائر أن تلعبه لمساعدة الجارة الجنوبية على تجاوز هذه المعضلة، والنجاح في إقرار المسار الانتخابي والأمن والإستقرار.
الشعب ويكاند: وصل التوتر مداه بين فرنسا ودولة مالي، وقد يأخذ منحنيات خطيرة تصل إلى حدّ قطيعة دبلوماسية، برأيكم، ما أسباب التصعيد الفرنسي – المالي؟
الدكتور مجادي رضوان: ما تشهده المنطقة وتوتّراتها نتيجة احتدام المصالح الفرنسية مع إرادة دولة مالي أدّى إلى تأزّم العلاقات بين البلدين، وهو ما يدلي بمؤشرات التغيير في أجندات السياسة الخارجية لكلاهما. مع العلم، وحسب رؤيتي واستنتاجي، هناك جانب مخفي في طبيعة العلاقات بين فرنسا ومالي يعود إلى عدم توافق الرّؤيتين بين قيادة الجيش الفرنسي وقيادة الجيش المالي، ممّا أعطى ملامح النزعة الرافضة لأي تدخل عسكري خارجي في المنطقة.
الأمر الذي مهّد الطريق لبداية التوتر الدبلوماسي بينهما، خاصة مع ثبات مواقف المؤسسة العسكرية المالية، وتمسّكها بخياراتها التي فاضلت بين العامل الداخلي ورفض الوجود الفرنسي للحد من الهيمنة الخارجية.
وتعود الأسباب الظّاهرة للعلن حينما صعدت مالي من مطالبها الرافضة للمقاربة الفرنسية في المنطقة، وتيقّنت قيادة البلاد أنّ ما جنته التجربة لم يخرج الدولة من دوّامتها وأزمتها، وإنما زاد من حدّة التّوتّرات وأطعم مشارب الإرهاب في الساحل الإفريقي، وهذا كله بسبب عدم نجاعة التدخل الخارجي.
في حين آخر، قابلته فرنسا بتصميم يصور للرأي العام الإقليمي والعالمي بعدم قدرة الجيش المالي، وحملته مسؤولية عدم الدفاع عن مصالح البلد، وضمان استقرار شعب مالي. ونتيجة لذلك تململت العلاقات الدبلوماسية وتوترت واختلطت الحسابات.
كل هذه العوامل والمؤشّرات كانت بمثابة الحجة من طرف مالي للتصعيد دبلوماسيا، وهو ما دفع قيادة الجيش في مالي لإصدار قرار يقضي بطرد سفير فرنسا وأمهلته مدة 72 ساعة، وهي نتيجة حتمية وكانت متوقّعة للحد من غطرسة وهيمنة فرنسا، وهو قرار جريء يعبّر عن بداية التحرر والتعبير عن الإرادة الذاتية، وسيادة مالي دولة وشعبا.
يشهد الوجود الفرنسي في مالي وعموم دول السّاحل الإفريقي موجة عداء غير مسبوقة، ولم تعد شعوب المنطقة تتردّد في الخروج في مظاهرات للمطالبة برحيل المستعمر القديم الجديد، ما تعليقكم على هذه الظّاهرة؟
بطبيعة الحال، هناك موجة عالمية مكّنت شعوب الدول المستعمرة والمضطهدة من التعبير عن إرادتها وحريّتها في المطالبة بحق تقرير مصيرها وصناعة قراراتها السياسية لوحدها دون الحاجة إلى يد كفيلة تقدم خدمات بمقابل، وإن كان على حساب مصلحة شعوب تلك الدول.
فالعولمة وفّرت العديد من الفرص الاجتماعية والسياسية للشعوب المضطهدة، وأصبح الفرد الإفريقي على وجه الخصوص يعيش في فضاء رقمي، ويستهلك منه قيم الحرية والاستقلال، وبالتالي فإنّ الخروج إلى الشوارع والدخول في مرحلة المظاهرات الرافضة للوجود الفرنسي، إنما هو درس قدّمته تجارب بعض الشّعوب التي اضطهدت من طرف فرنسا، واستجابة لمطالب قيادة دولة مالي، ممّا يشير إلى قوّة تلاحم الشعب بدولته، وهو المعيار الذي أنجح مسار الاحتجاجات الرافضة والمضادة للتواجد العسكري الفرنسي، وفي كل الحالات وضع فرنسا أمام حتمية الاستجابة لإرادة شعب، والتخلي عن النزعة التقليدية التي تحاربها المواثيق الدولية والسياسات الأممية.
وبالعودة إلى سياق تلك المظاهرات، بإمكان الشعب المالي أن يحقّق مآربه بتدويل قضيته المصيرية، وتسويق مطالبه على المستوى الإقليمي والعالمي بأحقية الخيارات المصنعة في الداخل بدل الخارج، والتأكيد على فشل سياسات فرنسا لمحاربة الإرهاب في المنطقة كما تزعم.
تعتبر فرنسا وجودها العسكري في مالي والسّاحل ضروريا لإقرار الأمن، لكن بعد 9 سنوات من عمليتها العسكرية «سيرفال» ثم «برخان»، ما زال الخطر الإرهابي قائما ويزداد حدّة، فبماذا تفسّرون الإخفاق الفرنسي في محاربة الدّمويّين؟
— كل الأطروحات العلمية والقراءات الفاحصة لواقع التمدد الإرهابي في المنطقة تؤكّد على فشل التدخل العسكري الفرنسي، ممّا يدل على عدم أهلية تواجده وتغلغله في المنطقة، ومهما تعدّدت عمليات التدخل العسكري وبمسمّيات مختلفة، فذلك لن يخرج مالي من عنق الزّجاجة، بل هو إثبات يشير إلى سلبية الخيارات العسكرية في حلحلة الأزمة المالية في بعديها الداخلي والجواري.
من وجهة نظري، ودائما عندما نستقرئ الواقع ونستنبط من التاريخ الحقائق التي تثبت تورّط فرنسا، وتعد من جهابذة وصنّاع سياسات فرّق تسد، وتعمل على تفكيك وحدة الشّعوب والمساس بمصالحها عن طريق توطين كل ما من شأنه أن يغذي الصراع الطائفي والديني وحتى الهوياتي.
فالميزة التاريخية اللّصيقة بدور فرنسا في المنطقة، تجعلنا لا نؤمن بنزاهتها ومصداقية عملها دبلوماسيا وعسكريا، ودائما ما تتشبّث بفلسفة الهيمنة على باقي الشّعوب والدول التي تزخر بثروات باطنية وطاقوية، ممّا يزيد من فرضية أنّ الإرهاب الإقليمي والمحلي باق ومنتشر ما دامت مصالح فرنسا سارية ومتاحة في مضمار تواجدها العسكري، وحضورها الدبلوماسي في القارة قاطبة.
لا خلاف في كون القيادة العسكرية المالية الحالية، قرّرت تغيير بوصلة سياستها وربط علاقات تعاون وتعامل مع دول أخرى، فتحرّرها من الخضوع والتبعية للمستعمر القديم، فهل ستتمكّن دولة مالي من كسر الأغلال التي تقيّدها منذ أزيد من 6 عقود؟
في مستهل دراسة طبيعة القرارات السيادية التي تتّخذها وتصدرها علنا وصراحة القيادة العسكرية بشأن مصير العلاقات المالية والفرنسية، لابد أن نلمح إلى الخيارات المطروحة أمامها لتبنّي هكذا استراتيجية تحيلنا على كثير من القراءات والتّفسيرات، وإنّه لمن الواضح أنّ حتمية تغييرها لمضمار السياسة التي تخدم مصالح الشعب، وتعبر عن إرادة وسيادة الدولة المالية ما هو إلا نتاج جهود دبلوماسية حثيثة باشرتها قيادة مالي مع أطراف ودول أخرى.
ولهذا، كل مساعي القيادة العسكرية في مالي تصب في خانة واحدة لدعم أجندة سياسية طاردة لعناصر ومكوّنات النّموذج الأمني الفرنسي في المنطقة، والعمل على بلوغ مستوى من التعبئة السياسية لكسب مزيد من المناصرة، والتأييد الشعبي لتقوية وتعزيز قرارات السياسة الخارجية.
وحسب رأيي، يمكن للقيادة العسكرية أن تنجح في مساعيها وترتيب أولوياتها في مضمار الانتقال الديمقراطي، ونقل السلطة العسكرية إلى حكومة مدنية لو أحسنت التعامل مع إفرازات البيئة المحيطة، وألاّ تدخل في مواجهات وتهديدات أمنية محتملة تسبّبها جهات وأطراف قد تكون لليد الفرنسية بسطا فيها. كما يجب عليها أن تستعين بخبرات وتوصيات الدول التي حوّلت بوصلة التعاون معها في المجال السياسي والاقتصادي، وألاّ تخرج عن سياق الاتفاقيات كضمان يساعدها على تجاوز معضلاتها، والتكيف مع مخرجات التوتر الدبلوماسي مع فرنسا.
قرّرت القيادة العسكرية في مالي أيضا وضع النّقاط على الحروف بالنسبة لقوّة «تاكوبا» الأوروبية، وأمرت القوات الدانماركية بالانسحاب، فما سبب الموقف المالي من هذه القوّة، ثم ما هو مستقبل «تاكوبا»، خاصة وأنّ فرنسا تعوّل عليها لملء الفراغ بعد خفض قوّاتها؟
نشير في هذه النّقطة إلى بعض التجاذبات الحاصلة في محور دوائر صنع القرار الأوروبي، التجاذب الذي أسفر عن انقسامية حول ضرورة الإبقاء على التواجد العسكري في المنطقة أو التسريع بعمليات الانسحاب. في ثنايا هذه الانقسامية، فرنسا لا ترغب في الانسحاب مهما طال أمد الأزمة الأمنية وتحت أية ذرائع ومبرّرات، لكن كان أمامها خيار الانكماش في سياستها التوسعية العسكرية على مستوى المنطقة، مع فتح المجال أمام قوّات أوروبية أخرى، تلك القوات تسير في فلكها وضمن حسابات التحالفات والمصالح المشتركة لتجسيد سياسة ملء الفراغ الذي قد تخلفه عمليات الانسحاب من بعض الأقاليم العسكرية التابعة لفرنسا.
في الجهة المقابلة، تدرك القيادة العسكرية في مالي خبايا ونوايا فرنسا ومن والاها وناصرها سياسيا وعسكريا، فهي ترفض بالمطلق كل ما يأتي من الخارج لتوجيه السياسة الداخلية، أو حتى الإقرار بخيارات سياساتها الخارجية، وبالتالي يبقى وجود هذه القوة العسكرية الأوروبية مفروضا على الماليين، وهناك رفض قطعي لها من العسكريّين المحليّين.
أمّا عن مستقبل هذه القوة، اتّضح جليّا أنّ التصعيد والهجوم العسكري زاد وفاق كل التّوقّعات، وهو ليس في صالحها وبات مستقبلها مرهونا بدرجة التعاون وطبيعة العلاقة بينها وبين قيادة الجيش المالي، ومنه تبقى مهدّدة، وهناك بعض التقارير التي تشير إلى الشروع في تنفيذ عمليات انسحابها التدريجي من المنطقة، خاصة وأن الإرادة المحلية ترفض كل ما يصب في خانة التواجد لصالح فرنسا بطرق مباشرة أو بالوكالة.
حديث فرنسا عن الانسحاب العسكري من مالي، هل هو فعلا انسحاب، أم إعادة انتشار؟
كما سلف وأشرت، فرنسا غير مستعدة لسحب قواتها العسكرية من منطقة مالي، لاعتبارات اقتصادية وجيواستراتيجية، فمن الناحية الاقتصادية، اقتصاد فرنسا يقوم على مردود عملياتها العسكرية في المنطقة، وما ينجم عنه من استنزاف لطاقة وخيرات منطقة الساحل الافريقي ككل، ومن جهة أخرى لابد لفرنسا أن تواصل عملها العسكري وتثبت حضورها الدبلوماسي والسياسي لتجسيد خيارات سياسة الاحتواء والتضييق على المبادرات الإقليمية التي تهدد مصالحها، خاصة من طرف دول الجوار.
وعليه، هناك عمليات عسكرية مدروسة من طرف فرنسا لإعادة الانتشار وترتيب أولوياتها والتنسيق بين العمل السياسي الداخلي والمسعى الخارجي، لكن لا يمكن أن نسميه انسحاب في مفهومه الإيجابي الذي يخدم ويستجيب لإرادة الماليين.
قبل أيّام فرضت مجموعة «إيكواس» عقوبات قاسية على مالي بسبب تأجيلها الانتخابات، ما تعليقكم على هذه الخطوة؟ وهل حصار الماليّين سيحل أزمة السلطة؟
للعلم، لما نتحدّث عن هيمنة فرنسا فنحن بصدد تحليل تداعيات وانعكاسات وتأثيرات ذلك على غالبية الدول الإفريقية، وبالتالي ما فرضته دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا «إيكواس» من عقوبات مشدّدة دون أن تراعي خصوصيات الدولة ومتطلّبات وأولويات الانتقال الديمقراطي، يحيلنا على هامش مظلم فيه نوع من التخطيط الجهنمي كخيار بديل لفرنسا في الضغط على مالي، وإرغام قيادتها على الاستجابة لمرامي وأهداف الكيان الخارجي.
ما فرضته هذه المجموعة جاء بإملاء إرادة فوقية لا إرادة الدول الأعضاء في المجموعة، وأنّ السياسات الجائرة في حق وأمن الشعب المالي بطبيعة الحال ستزعزع استقراره وتمس قدرته الشرائية وحرمانه من الفرص الاجتماعية والاقتصادية، وهذا الأسلوب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحل أزمة سياسية داخلية، والتجارب التي سبقت كفيلة بأن تجيب كل سائل عن هذا الموضوع.
كيف تتوقّعون التّطوّرات؟
لكل قرار سيادي تكلفة، خاصة مواجهة مصالح فرنسا وتهديدها علنا، ومنه ما زال ينتظر مالي شعبا ودولة الكثير من التحديات والرهانات التي يمكن تجاوزها بأقل الأضرار، والاستحواذ على نقاط القوة التي تخلص المنطقة من وطأة الإرهاب الفكري والثقافي الذي تقوده فرنسا، وأن تحل معضلاتها الأمنية بمقاربة أمنية داخلية خالصة، ويمكن أن تستعين بدول الجوار وتستفيد من الدعم السياسي والفني والخبراتي المهم لمواجهة التحديات، والتكيف مع المستجدات والتطورات الأمنية.
وما يُنتظر من القيادة والشعب في مالي هو الإيمان بمشروعية مطالبهم ومصداقية قراراتهم المصيرية التي تثبت مدى فشل المقاربة الفرنسية .
وما الدّور الذي يمكن للجزائر أن تؤدّيه، للتّسريع في إنجاح المرحلة الانتقالية وتنظيم الانتخابات؟
تقوم الجزائر اليوم بدورها الدبلوماسي البارز، وقد أثبتت حضورها وعادت من بعيد لملء الفراغ السياسي الذي سبّبته أزمات المنطقة طيلة عقد من الزمن في مختلف المجالات والأصعدة القطاعية والقارية. ولا شك أنّ ملف مالي هو من بين الملفات ذات الأولوية المطروحة على طاولة السياسة الخارجية الجزائرية، وبالتالي دورها في حلحلة أزمة مالي، والتخفيف من حدة التوترات الدبلوماسية يقوم على الدفاع ومآزرة إرادة الشعب المالي، وتقديم له ضمانات سياسية وبدائل متاحة لتجاوز المشاكل الداخلية، خاصة مع انتشار موجات فيروس كورونا، والشعب يمر بظروف مستعصية وصعبة.
وعن إمكانية رفع عقوبات «إيكواس» عن دولة مالي، يمكن للجزائر أن تضمن عملية الانتقال الديمقراطي والتسريع بإجراء العملية الانتخابية وفق ما تراه وتعبّر عنه إرادة الشعب المالي، وبإمكانها أن تنقل تجربتها السياسية والقانونية على مستوى إدارة هذا الملف المعقّد، من خلال الوساطة قصد تخفيف عقوبات المجموعة الاقتصادية، ويبدو أن أطروحة الجزائر تقوم على مبدأ الحوار لا العقوبات، ويمكن للجزائر أن تحتكم لمواثيق الاتحاد الإفريقي بغية حلحلة أزمة انتخابات مالي لوضع حدّ فاصل بين النّزعة الغربية وسيادة دول المنطقة.